نعيش اليوم عصر طغيان المادة، بكل أشكالها، وصرنا خُدّامًا لها، وأصبحنا كماكينات تسعى لزيادة طاقتها الإنتاجية، خشية أن تُكهّن أو تستبدل بماكينة أسرع وأقوى، ولأجل ذلك تُهمل صيانتها فلا ينبغي أن تبدو الأضعف في سباق دارويني التصور، فالبقاء للأقوى، مشهد يذكرنا بحلبة يصارع فيها سبارتاكوس، فإن لم تكن يقظا، وتباغت خصمك طارت رقبتك، وفي هذه الحلبة تدور الحكاية، وخارجها لا شيء، قد تبدو أمورًا تافهة، فليس أهم من أن نبقى أحياء.
وأمام تلك التحديات المصيرية، تضاءل دور الدين واختُزل في شكليات تراثية وطقوس، وخطاب يفتقر للجاذبية، فضلا عن الحيوية والصدق.
صديقي لوح إلكتروني:
صارت الهواتف المحمولة، واللوائح الذكية أكثر حظًا ممن نعرفهم وربما يعيشون معنا في نفس البيت، فنحن نبث لتلك الشاشات، كل مشاعرنا وانفعالاتنا، ولو راقبنا أنفسنا لوجدنا من يبتسم ويبكي ويندهش وينتشي ويتألم ويتعاطف ويتأثر أمام شاشة ولوحة مفاتيح، ووصلت درجة التعلق بالجهاز المعدني، عدم قدرة البعض عن التخلي عنه ولو لبضع ساعات، وربما قد يجد من السهولة أن يفقد صديقًا أو أخًا أو حبيبًا، لكن قلبه يعتصر إذا فصل شحن بطارية الهاتف، في مكان لا شاحن فيه، أو -لا قدر الله- إذا نفذت باقة الإنترنت أو مرّ بمكان ليس فيه تغطية كافية، لهذه الدرجة صار تعلقنا الوجداني بتلك الأجهزة!.
نعم، ربما لأن ذلك اللوح الإلكتروني يبدو أقل قسوة ممن نتعامل معهم، فهو على الأقل لا يصدمنا ولا يخدعنا ولا يتملص من مسؤولياته تجاهنا، كما أنه يبدو مُطيًعا غالبًا، ويستجيب للمساتنا في النهاية، ولا يجهدنا بعبارات مملة وسلبية تستنزف ما تبقى من طاقة في يوم حافل بالعناء من أجل كسب الرزق، وكسب ما يساعدنا على الحفاظ على خدمات ذلك اللوح وضمان استمرارها، وحتى الدّين فلا بأس من مشاهدة بعض المقاطع القصيرة التي تذكرنا بالجنة والنار وضرورة التوبة قبل الموت، وإن أصابنا الملل منها، نغير إلى مسلسل ونظل نقلب على غير هدى، حتى ينهك الجسد ويسقط، ثم تعود رحلة اليوم التالي وتبدأ بالاطمئنان على شحن الهاتف، ونظرة سريعة على الرسائل، ثم وعد باللقاء في أقرب فرصة سانحة.
الإنسان الآلي إلى الآلي الإنسان:
سمعنا في القرن الماضي عن حلم الوصول للإنسان الآلي “الروبوت”، يتصرف بدقة، ولا ينسى ولا يتعب، وقد يكون مفيدًا بأن نلقي به إلى التهلكة دون أن يبدي معاندة، في حال الرغبة في إجراء تجربة علمية خطِرة، ومرّت عقود وظهرت الهواتف الذكية، لتصنع ما لم نكن نتوقعه، وتعكس الآية، لنصبح نحن كالآلات، نفقد من رصيد بشريتنا الكثير، وتأتينا أخبار المذابح والمحارق والجرائم، فنشاهدها ببرود الحديد، ونقلب بأصابعنا لنطوي الأخبار والمقاطع وكأنها افتراضية أو “فوتوشوب” باصطلاح الكثير من المتابعين، وربما يقتلون ضمائرهم بهذا الاعتقاد.
المشاعر ضرورة للحفاظ على النوع الإنساني:
الأديان والكتب السماوية والأنبياء كانت رسالتهم الرئيسة، هي تنظيف الروح الإنسانية، ونفض القساوة والغلظة والبهيمية عنها، والمتأمل في القرآن الكريم، سيجد مفردات مثل: (رحمة – رأفة – لطف – شفقة – عفو – مودة)، شكلت آيات كثيرة، وسياقات متعددة، تشدنا نحو إنسانيتنا، والسعي نحو تهذيبها.
هونًا على هون:
لم أخطئ في الاقتباس من القرآن الكريم، ولكني وقفت طويلاً أمام آية في سورة الفرقان حيرتني، وتعجبت من مروري بها مرارًا دون اندهاش، الآية قوله تعالى: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا﴾(الفرقان:63)، في الآية وصفان ورد فعل، أما الوصفان فهما:
عباد الرحمن: لاحظ أن الله لم يقل: عبيد الرحمن، لما في لفظة “عباد” من دلالة المحبة والقرب والود، فهي عبادة اختيار لا إجبار، وعبادة عزة وفخر، لا إذلال وقهر. ولاحظ أيضا اختيار اسم “الرحمن”، والذي يدل على رحمة الله الواسعة لكل شيء، ولكل بر وفاجر، ولكل منتبه وغافل، ولكل بهيمة وعاقل، لذا: كان من إضافة اسم الله الرحمن لهم، ما يفيد باتصافهم بشيء من صفته.
يمشون على الأرض هونا: والهوْن هو الرفق والوقار، وأعجبني أن أستعير التركيب القرآني، في وصفه مشقة الوضع عند المرأة، فقال تعالى: ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ﴾(لقمان:14). وقصدت بقولي: (هونا على هون) أي أنها مشية برفق وسكينة شكلاً، ومشية إصلاح وسعي في الخير موضوعًا، قد بلغ منهم الرفق بالأرض والطين مبلغًا مدهشًا، فكيف لا يرفقون بالجاهلين، وكأنهم يشعرون بمشاعر البّر تجاه أمهم الأرض التي خرجوا من بطنها، وحملتهم وهنا على وهن، فكيف لا يمشون عليها هونا على هون!.
وأما رد الفعل: بأن أعرضوا عن الجاهلين، إعراض رفيق متلطف، لا إعراض متأفف مستنكف، فردوا السيئة بالحسنة، ولم يضيعوا وقتهم في جدل لا طائل من ورائه، وأكملوا مسيرتهم في الإصلاح!
جرعة مودة:
لقد وقعنا فريسة لانتصار الآلة التي صنعها الإنسان بيده، في ظل خطاب دعوي هزيل، بعيد عن روح القرآن ومقاصده، فذبلت الأرواح، وتكلست القلوب، وصار الدين شعائر بلا مشاعر، وذلك من جملة الافتراء على الله وأنبيائه، وسكان الأرض اليوم في حاجة لـ “عباد الرحمن”، ليمدوا أيديهم، راضين متفائلين، لا يضرهم من خذلهم، يفسحون مجالات للود والتراحم والتعاطف، ومحاولة استرداد الإنسان الحي، بالتخلي عن صمت الآلة، والدعوة للتعبير عن المشاعر بلا تردد، وتخلية القلب من الحقد والحسد والتباغض والتشاحن، وتحليته بالمحبة والتسامح وحب الخير للغير، وسأختم بتلك الآية الكريمة التي تلخص ثمرة الإيمان والعمل الصالح، وهي المودة والحب، فلنتملص من قيود الشاشات والآلات، ونعطي لأرواحنا قبلة الحياة، بالحفاظ على مساحة ود ضمن أنشطتنا اليومية: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا﴾(مريم:96).