جمعنا مجلس عابر، وتم طرح سؤال من أحدهم:
– إلى أين آلت الأمور في تركيا؟
” لا جديد” قال الأول.
” قاتل الله السياسة” أجاب الثاني.
” الخيوط معقّدة ولا نعرف ماذا يجري” أضاف الثالث. ثم ساد الصمت قبل أن تقطّعه ضحكاته التي تنمّ عن نبرة انتصار، ليقول بعدها بكل اعتزاز: – الأمور بحمد الله إلى خير. ثم أردف : – لدي معهد شرعي في إسطنبول، وظلّ الإيجار يؤرقني مطلع كل عام، أربعون ألف ليرة مبلغ كبير، كل هذا انتهى العام الماضي.
” ما الذي حصل؟” سأله أحدهم.
كيف تقول هذا وأنت رجل عالم وعاقل، وتعلم أنّ حُكم القاضي أو المحكمة لا يجعل الحرام حلالاً أو الحلال حرامًا.
– قامت وزارة الشؤون الدينية بتسليمنا مقرًّا فخمًا وجميلاً ونظيفًا بدلاً منه في إسطنبول. ثم أضاف : – أحد مقرات الخدمة التابعة لفتح الله كولن. ثم أردف.. وكأنه أحسّ بتأنيب الضمير – لسنا وحدنا.. مئات بل ألوف المقرات والمكاتب تم توزيعها على الراغبين. لمحتُ نظرات الاستهجان عليه من الجميع :
“هل أخذتها بدون استئذان من أصحابها؟” ردّ أحدهم في طرف المجلس. أجاب: -بل أخذناها من أصحابها في وقف الديانة. قاطعه أحدهم: -وهل وقْف الديانة هو من بنى تلك المقرات؟ أجاب موضحًا : -بل أقصد أني لا أتحمل الذنب! ساد الصمت من جديد.. ولأنه أستاذ في العقيدة بإحدى الجامعات، ولأن الشمس تشرق من المشرق، فكذلك الحق، وإن بُهت من يرقبونه في جهة أخرى، فقد أردت أن يكون النقاش علميًّا أكثر والحجة دامغة.. سألته :
– ما الذي تقومون به في هذا المعهد؟ أجاب: – المعهد مخصص لتعليم العلوم الشرعية، ويوجد لدينا طلاب من أفريقيا وآسيا وأوروبا. تركتُ ما بيدي على الطاولة وقلت له :- هل صليتَ في ذلك المقر أنت وطلابك؟ تعجب من السؤال ثم ردّ: -نعم، بلا شك، ولماذا هذا السؤال؟ – إذن أوصيك يا أخي بأن تستغفر الله، لأنه يُخشى ألاّ يُكتب لك ثواب صلاتك وصلاة هؤلاء المساكين معك طوال العام الماضي. ذُهل الحضور من الكلام، وترك أكثرهم الجوالات من أيديهم.
ثم أردفتُ: – الغصب محرّم بكتاب الله تعالى وسنة رسوله وإجماع المسلمين. وهذا الذي قلته قهر لإخوانك الذين أُجبروا على ترك أموالهم، وأخذها بهذه الطريقة غصب لا يجوز، سواء أكان ذلك المال عقارًا أم منقولاً، بل ذكر العلماء أنّ اغتصاب الأموال لا يحصل بالاستيلاء عليها بالقوة فحسب، بل حتى من أخذها عن طريق الخصومة الباطلة والأيمان الفاجرة يكون غاصبًا لها .
” هناك فرق، هذا وقف” أجاب مقاطعًا.
– وهذا أشدّ حرمة .. المقر الذي تتحدث عنه مغصوب من أصحابه، وإذا كان وقفًا تضاعف الإثم، وأنت تعلم أن الدار المغصوبة قطعة من النار، لا تصحّ فيها الصلاة بإجماع العلماء، ولا بركة في طلب علم بداخلها، ولا يُقبل فيها الدعاء والعبادة. ومن قال بصحتها فمراده بأنّ الفرض يسقط لو أنه أدّاه فيها لكن مع الكراهة، لكن لا ثواب له في تلك الصلاة، وصاحبها معرّض للعقوبة في الدنيا والآخرة . وقد أجمع المسلمون على تحريم الغصب وإن لم يبلغ المغصوب نصاب السرقة، فكيف بهذه المقرات التي كلفت أصحابها ملايين الليرات؟!
بادر بالتبرير على الفور: – بل هذه أوقاف كما قلت لك، وقد عادت إلى الجهة المسؤولة عنها.. لقد دبّروا الانقلاب وهذا جزاؤهم. ابتسمتُ لجوابه وحاولتُ امتصاص غضبه، ثم قلت :- أنا لا أتحدث عن السياسة هنا، لندع ما جرى جانبًا، فالله يحكم بينهم. أنا أحدثك عن مسألة شرعية وأخلاقية، لا يجوز لك أن تنتفع بهذه المقرات إلا بعد استئذان أصحابها الذين أوقفوها بعد أن بذلوا في سبيلها أموالهم وجهودهم، وجمعوا لأجلها تبرعات الرجال والنساء والأطفال لسنوات طويلة، ثم خدموا من خلالها الدين والمجتمع طوال عقود.
” لكننا نخدم بها الدين والمجتمع أيضًا” ردّ بكل ثقة .
تدخل أحدهم بحدة : – لا تُكابر.. هذا حرام، لا يحق لك شيء من ذلك. رفع الآخر صوته متأثرًا بما سمع :- هؤلاء إخوانك، مسلمون مثلك، وهم بين مسجون ومطرود من بلده .. ألا تستحي من هذا الكلام؟ اشتدّ اللغط في المجلس، ورأيتُ أن أقرّب الصورة أمامه: – إذا كان الأمر كذلك فمَثَلك كمَثَل رجل أوقف مصحفًا في مسجد ثم سافر، فدخل أحد جيران المسجد وأخذه خفية، ثم ذهب به إلى بيته وأخذ يقرأ فيه ليلاً ونهارًا، فلما جاءه إمام المسجد يطلب إعادة المصحف إلى المسجد ردّ عليه بكل ثقة ” ما أراد الواقف إلا أن يقرأ فيه الناس، وأنا من الناس، وكل ما أقرأه سيكون في حسناتي وحسنات صاحب الوقف”..
فما كان من الإمام إلا أن بيّن له أنّ الله طيِّبٌ لا يقبل إلا طيِّبًا، وأنّ فعله ذاك سرقة كتبها الله تعالى عليه، ولم يقبل منه القراءة بسبب ذلك. ارتفع صوته : – قلت لكم مرارًا أنا واحد من مئات، بل ألوف الأشخاص من داخل تركيا ومن خارجها، ولدينا معاهد رسمية، وقد استلمناها بطريقة رسمية من جهة رسمية. أجبته على الفور:
– كيف تقول هذا وأنت رجل عالم وعاقل، وتعلم أنّ حُكم القاضي أو المحكمة لا يجعل الحرام حلالاً أو الحلال حرامًا. الذي يحكم بمشروعية هذا الفعل هو الله تعالى، وقد حذرنا من الاعتداء على حقوق الآخرين بقوله : “وَلاَتَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ” ، وقد بين لنا رسول الله الحلال والحرام، والمشتبه بينهم، وأنّ تَرْكه استبراءٌ للدِّين والعِرض، وقال لنا في الحديث الصحيح وهو على صعيد عرفة : “إنّ دماءكم وأموالكم، وأعراضكم حرام عليكم، إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا “.
وقال في الحديث الصحيح الآخر: “لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه “، وحذرنا عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح كذلك من أخذ شيء من مال المسلم بدون إذنه فقال: “من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه، فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة ” ، فقال له رجل : وإن كان شيئًا يسيرًا يا رسول الله؟ قال : “وإن قضيبًا من أراك”، وقال في الحديث الصحيح الآخر محذرًا من الاعتداء على حقوق الآخرين: “من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين”.. ألم تسمع بكل هذا؟ رفع فنجان الشاي إلى فمه، ورشف منه رشفه، ثم سكت، وتناول الحضور بعدها موضوعًا آخر.
(*) المشرف العام لمركز رؤية الثقافي بـ” مكة المكرمة ” / المملكة
العربية السعودية .