إن القرآن المجيد قد أثبت البعث بعد الموت بأسلوب فريد ينفذ إلى القلوب ويقنع العقول بسهولة عجيبة. وإن ثلث القرآن -تقريبًا- يعالج هذه الحقيقة الخالدة.
إن ثلث القرآن تقريبًا يعالج حقيقة البعث الخالدة.
مصب الآخرة
إن البشرية وأفكارها وأحاسيسها ومشاعرها ونواياها وأعمالها وتصرفاتها تجري في هذه الدنيا جريان السيل، وتصب في النهاية في مصب يناسب طبيعة المجرى وماهيته. ألا ترى أننا في هذه الحياة لا نُوفَّى ما نستحقه من مكافأة أو عقوبة! فكم من ظالم بزّ الفراعنة بظلمه مات وغادر الحياة دون أن يلقى أي عقاب.. مات دون أن يؤلمه ضرس أو يشتكي من صداع.. غادر الدنيا دون أن يعاني من وجع في الظهر أو المفاصل، وكأنه الرابح المنتصر رغم ما اجترحه من مظالم وآثام! وفي المقابل هناك مَن تجرّع آلاف المصائب، وتعرض لآلاف البلايا لم تفارقه مدى حياته، غادر الدنيا مظلومًا منكوبًا.
إذا كان للظالم خطط ومشاريع ينفّذها في هذه الدنيا، فإن للمظلوم -كذلك- أفكارًا ونوايا ينفذها، ولكنها مختلفة -بالتأكيد- تمام الاختلاف عن أفكار الظالم، ولا شك أن هذين المجريين المتناقضين كلّ التناقض، والمتدفقَين كالشلال باتجاهين مختلفين، سوف يصبّان في الآخرة في مصبّهما، ويقفان في حضرة رب العزة من أجل الحساب عن الأحوال والأفعال التي قاما بها في الحياة الدنيا الفانية، ولكن في نهاية الحساب، سيجد المظلوم نفسه في الجنة التي آمن بها وصدق بوجودها في حياته الدنيا، في حين سيجد الظالم نفسه ملقى في نارٍ لم يخطر بباله مرة أنه سيُقذف فيها كما يقذف الحطب في النار.
إن لم يكافأ الطيبُ ويعاقَب الخبيثُ من البشر ويميَّز بينهما في هذه الدنيا، فذلك مؤجل إلى حين فقط.
فرز محتم
أجل، إن تمييز الأخيار عن الأشرار الذي لم يتحقق في هذه الدنيا، سيحققه المَلِك العدل الديّان في دار البقاء لا محالة، وساعتها سيقول لحشود الظالمين: (وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ)(سُورَةُ يس: 36/59).
أجل، إن لم يتم مكافأة الطيب ومعاقبة الخبيث من الناس والتمييزُ بينهما في هذه الدنيا، فذلك مؤجل إلى حين، وها نحن نرى أن التمييز قد تم بين الكائنات الأخرى، فتميَّزَ الخبيثُ من الطيب، والقبيحُ من الحسن، والناقص من الكامل.. فهل يُعقل أن يُستثنى الإنسان، ذلك الكائن الذي خُلق ليكون أنموذجًا فذًّا وجوهرةً فريدة في الكون، هل يعقل أن يستثنى من هذه القاعدة؟! كلا، وبما أن الفَرْز لم يتحقق هنا، فإنه سيتحقق في عالم آخر لا محالة.
كم من ظالم بزّ الفراعنة بظلمه مات وغادر الحياة دون أن يلقى أي عقاب.. مات دون أن يؤلمه ضرس أو يشتكي من صداع..
ربيع مؤكد
تُنثر البذور في باطن الأرض، وعندما تَبلى وتموت تَنبت منها حياة جديدة؛ حيث تنمو شجرةٌ منها، وتعلو نحو السماء، تزدان بالأوراق الخضر والفواكه اللذيذة، وحين يحلّ الشتاء، تُلقي هذه الشجرة كل ما عليها من ثمار وأوراق وتتحوّل إلى شجرة جرداء يابسة عديمة الحياة، ولكن في مطلع ربيع جديد، تتزين بحليّها مرة أخرى، وتعرض جمالها وبهاءها للأنظار.. وكذلك الهوامّ والحشرات تتعرض إلى حالة شبيهة بالموت بعد استغراقها في نوم عميق طيلة الشتاء، ثم يتم بعثها ونشرها من جديد في مطلع ربيع ثانٍ، والسؤال: هل يعقل أن يُستثنى الإنسان من هذه القاعدة التي يخضع لها كل موجود؟!
لقد مُنح الإنسان كذلك ربيعًا، وشتاءً، ثم ربيعًا ثانيًا، لأنه تكوّن هو أيضًا من النواة، ثم نما كالشجرة، وأثمر فكرًا وسرًّا وخفيًّا وأخفى.. ثم تحوّل بعد ذلك إلى كائن لا يُسمن ولا يغني من جوع.. ثم وُضع في التراب مرة أخرى مثل البذرة تمامًا.. ثم راح ينتظر ربيعه الثاني.. وعندما تأتي الساعة ويُنفخ في الصور، فسيتحقق ذلك الانبعاث من جديد لا محالة.
المصدر: نفخة البعث، شواهد الحياة بعد الموت، فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.