لعل ابن المقفع اختاراسم “كليلة ودمنة” عنوانًا لكتابه القيم، لما عرف عن ابن آوى من ذكاء مبطن بالحيل والخداع. و”كليلة ودمنة” هما اسمان لأنثى الحيوان “ابن آوى” وهو الثعلب، رغم أن العرب تسميها “أم عويل” أو “ثعالة”. والثعالب أنواع تتجاوز العشرة، وهي من فصيلة الكلاب والذئاب. تعيش في بيئات مختلفة، وتتكيف مع الظروف الطبيعية وتأخذ أشكالاً مختلفة، وتتواجد في غالب القارات الخمس، وتتكاثر بالمناطق الحضرية قريبًا من الإنسان. وللتواصل فيما بينها وبين مجموعاتها تستعمل الثعالب البراز والبول كآليات لذلك. ولاصطياد فرائسها ومطاردة أهدافها تعتمد على روائحها الكريهة وسمعها الحاد.
ولعل أوصاف هذا الحيوان الوديع ظاهرًا الخطير والخبيث باطنًا، هي التي جعلت ابن المقفع وهو الأديب المفوه والفيلسوف الحكيم والسياسي المحنك، أن يختار “ابن آوى” بل لعل اختيار الأنثى منه بدل الذكر، قد يعد إمعان في كل تلك الأوصاف، لما هو معلوم من غلبة جملة من الطباع على الأنثى أكثر من الذكور، وذلك لشدة الذكاء وغلبة العاطفة وقوة ردود الفعل. ذلك وغيره ماسنحاول بحول الله وقوته بيانه، مما يبدو لنا من حكم في هذه القصص العالمية، هذا ما يشير إليه ابن المقفع من حين لآخر كما فعل في نهاية القصة الموالية، وذلك إن قدر الله في العمر بقية، إن شاء الله. وفيما يلي قصة جديدة من قصص”كليلة ودمنة”.
قال ابن المقفع:
مثل اللص المخدوع:
“زعموا أنه كان تاجر في منزله خابيتان، إحداهما مملوءة حنطة والأخرى مملوءة ذهبا. فترقبه بعض اللصوص زمانًا، حتى إذا كان في بعض الأيام تشاغل التاجر عن المنزل في بعض أشغاله فتغفله اللص ودخل المنزل وكمن في بعض نواحيه. فلما همّ بأخذ الخابية التي فيها الدنانير أخذ التي فيها الحنطة فاحتملها. ولم يزل في كد وتعب حتى أتى منزله. فلما فتحها وعلم ما فيها ندم.
فقال الخائن للتاجر: ما بعّدت المثل ولا تجاوزت القياس وقد اعترفت بذنبي، غير أن النفس الرديئة تأمر بالفحشاء. فقبل الرجل معذرته وأضرب عن توبيخه وعن الثقة به، وندم هو عندما عاين سوء فعله وتقدم جهله.
وقد ينبغي للناظر في كتابنا هذا أن لا يجعل غايته التصفح لتزاويقه، بل ليشرف على ما تضمن من الأمثال حتى يأتي على آخره ويقف عند كل مثل وكلمة ويعمل فيها رويته.