في مباحث علم الأصول يعرِّف العلماءُ “الدلالةَ” على أنها “اقترانٌ بين تصوُّر اللفظ وتصوُّر المعنى”، فإذا قلتَ “السماء” -مثلاً- انتقل تصوُّرك من “اللفظة” إلى “معناها الذي هو “ذلك الحيز الكوني العلويُّ الذي يعلوك ويعلو الأرض التي تستقلها”. ثم يفرِّقون بين “المدلول اللغويِّ” و”المدلول التصديقيِّ” بأنَّ الأول لا اعتبار فيه للقائل، وإنما هو علاقة انتقال من “اللفظ” إلى “معناه” الموضوع له، بغضِّ النظر عمَّن صدر الحكم منه.
اللغة خاصية من خصائص الإنسان، كرَّمها الله سبحانه الذي كرَّم ذاتَ الإنسان.
أمَّا “المدلول التصديقيُّ” فيعتبِر القائلَ، وينظر فيه إلى إرادتين هما: الإرادة الاستعمالية، والإرادة الجدِّية. فـ”حال المتكلِّم” هنا هي مصدر الدلالة التصديقيَّة، فإن قال -مثلاً-: “أنا عادل” لم نكتفِ بالقول، ولا بالدلالة اللفظية لهذا الحكم، وإنما ننظر في القائل، فإن كان عادلاً حقًّا صدَّقنا ادعاءه؛ أمَّا إن كان جائرًا في حقيقته وفي عادته وفيما عُرف عنه؛ فإنَّ نسبة الحكم إلى هذا القائل لا تعني إلاَّ ضدَّها، وفي مثل هذا قال فرعون: “وما أهديكم إلاَّ سبيل الرشاد”، فهل سيرة فرعون تقرِّر الدلالة التصديقية للجملة، أم تنفيها؟
هذه مقدِّمة أصولية يراد من خلالها معالجة مشكلة حضارية، تبدأ من هذا السؤال، هل يمكن لمن يفتقد الإرادةَ أن يكون للغتِه (لأحكامه، لخطاباته، لتقريراته…) دلالة تصديقيَّة معتبَرة، أي يكون له إرادة استعمالية، وإرادة جدِّية، مجتمعتان؟
نظرة سريعة في وسائل الإعلام تضع أمام أعيننا مثالاً “لصحفيٍّ” يقال له ثم يقولُ، ويراد له أن يقول فينفِّذ ما يراد، وهو في ذلك لا يريد؛ أي أنه مسلوبُ الإرادة، ولا اعتبار لإرادته ولا لاعتقاده الصدقَ أو الكذب فيما يقول؛ فإرادته منفصمة تمام الانفصام عن لغته، ولغتُه مجتثة تمام الاجتثاث عن إرادته؛ ويسمَّى ذلك في عرف العصر: “الضمير المهني”، أو “متطلبات المهنة”؛ ولا يهمُّ بعد ذلك إن كان ما قاله مقدِّمة أو سببا أو نتيجة لدماء تسيل، أو لأعراض تهتك، أو لبلدان تنتهك، ثم لو تأملنا الكثير مما يردِّده الناسُ من كلام ومن أخبار يحشرونها من هنا وهنالك، وجدناها لا تصدر عن إرادة من القائل لأنْ يبلِّغ دلالة تصديقية، وإنما هو “واسطة” بين الحدث والمحدَّث؛ أي أنه يعتبر نفسه فاعلا سلبيًّا، ويتخلَّى عن مسؤولية مقولِه وحُكمِه؛ وهنا مرَّة أخرى تنفصم العلاقة بين اللغة والإرادة.
ولذا سمَّى القرآن الكريم الناقلَ لهذا النوع من الأخبار الكاذبة “فاسقا” حتى قبل أن يُتمَّ عملية النقل، فقال جلَّ وعلا محذِّرًا منه ومن فعله الشنيع: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا)(الحجرات:6). وداعي التبيُّن كون صفة الانفصام بين القائل ومقوله بالتحوير والكذب هو نوع من التضليل المؤدِّي إلى فساد كبير، ونوع ثالث ممن فقد قوله آثاره الواقعية، وصار نوعًا من الكلام لمجرَّد الكلام، هو “الواعظ” حين يأمر الناس بالزهد –مثلا-، ثم يسوق النصوص ليستدلَّ على حكمه، ويشنِّع العاقبة على من تملَّكت الدنيا قلبه، وعلى من ركن إلى ملذاتها وزهرتها؛ وهو – أي هذا الواعظ – مع ذلك، في حياته اليومية، وفي حقيقة أمره، أبعدُ الناس عن الزهد؛ إمَّا لأنَّ ما قاله يجانب الصواب في حدود الشرع، أو لأنَّه ممن “يقول ما لا يفعل”، و”يفعل خلاف ما يقول”.
نظرة سريعة في وسائل الإعلام تضع أمام أعيننا مثالاً “لصحفيٍّ” يقال له ثم يقولُ، ويراد له أن يقول فينفِّذ ما يراد، وهو في ذلك لا يريد؛ أي أنه مسلوبُ الإرادة، ولا اعتبار لإرادته ولا لاعتقاده الصدقَ أو الكذب فيما يقول.
ولقد سمى الله تعالى هذا الفعل الشنيع “مَقتا”، فقال سبحانه: (كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ)(الصف:3)، ومثال آخرُ يتمثل في “رجل السياسة” الذي يصدر من حكم “حزبه” أو “رئيسه” فاقدًا كلَّ إرادة؛ وأسوء منه ذلك الحاكم التابع لجهة خارجية تملي عليه ما يفعل وما لا يفعل؛ فلا يصدر عن مصلحة عليا لوطنه وأمَّته وشعبه، وإنما يصدر عن إملاءات قهرية تأتيه من هيئات سياسية، أو مالية أو بحثية، وفي جميع الحالات تضرب على وتر “مصلحته الشخصية” على حساب “المصلحة العامَّة”، ثم هو يخون أمانته، ويرفع شعارات كلامية لفظية لا تمتُّ إلى الحق والصدق بصلة، وتذر لغتَه وكلامَه خواء لا أصل له ولا فصل.
ويمكن أن يمثَّل لهذا الانفصام بـ “المعلِّم” في القسم، حين يلغي إرادته لصالح “سيادة المقرَّر” خوفا من التفتيش، فيقول ما لا يُفهم، ويأمر بما لا يُستطاع، فيعنِّت التلاميذ، ويرسم ندوبا وتشوُّهات على وجوه الملائكة مِن حوله، وهو مع ذلك غير مقتنع بما يأتي وما يذر، غير أنه مسلوب الإرادة، لا معنى لقوله ولا دلالة في لغته، إلا ما تحمل من ظِلال مشوَّهة في واقع الناس؛ وتأتي على إثر أمثال هؤلاء “البصائرُ حُولاً”، وتُفتح من جهتهم ثغرات يدخل منها الشيطان إلى كافة ساحات الأوطان.
فاللغة خاصية من خصائص الإنسان، كرَّمها الله سبحانه الذي كرَّم ذاتَ الإنسان، وامتدح نفسه تعالى بأنه “علَّم آدم الأسماء كلَّها”، أي اللغةَ وملكة الكلام والحديث والكتابة؛ غير أنَّ ذات اللغة لو افترض صدورُها من آلة مسجِّلة، أو من ببغاءٍ، أو حتى من جبل يردُّ الصدى، لما كان لها أيُّ قيمة في ذاتها، إلاَّ ما يعود إلى صاحبها الأوَّل؛ ومن ثم كان بين اللغة والإرادة وثاق ووشاج، فإذا ما فقد المرء إرادته سلبَ لغته معناها ومغزاها، ومن ثم كان “مسلوب الإرادة مسلوب اللغة” بالضرورة، إذ المعتبَر ليس هي الألفاظ والعبارات، وإنما المعاني والدلالات، بل العبرة بالمؤدَّى والثمرة العملية من القول والكلام والحديث.
فعلى مُريد النطق أن يحقق في إرادته ابتداءً، ويضمن أنه ليس عبدًا لأحد أو لشيء غير الله جلَّ جلاله، ثم إذا تحقَّق من ذلك، جاز له أن يقول وأن يحدِّث وأن يحرِّك لسانه بناءً على إرادته، وإلاَّ كان الخرسُ أنفع له، والسكوت أوسع له، والحياء أسلم له. فهل نعتبر؟