كان جالسًا في منزله خلف شرفته الزجاجية يتأملُ النجومَ في السماء البيضاء، يستمع إلى الموسيقى الهادئة مُمسكًا بيده بايب التدخين الذى لا يفارق يده كثيرًا، يتدلى حاجبيه المليئين بالشعر الأبيض على عينيه، ولكنهما لا يستطيعان منع عينيه من التحديق، يمد يده اليمنى إلى طاولة بجواره ليرفع فنجانًا من القهوة تتصاعدُ منه الأبخرة لتملأ ريحته الزكية أرجاء المكان، يرتشف منه رَشفةً تلو الأُخرى مستمتعًا بطعم البن الذكي الذى كان قد جلبه معه من البرازيل في سفره الأخير.
فقد اعتادوا هناك على زراعة أفضل أنواع البن، ينظر إلى السماء ويرى السحب المتخالجة كأنها تتصارع على أسبقية المرور وكأنها تسير في شارع مزدحم في وضَح النهار وضوء القمر الخافت يبدو من خلالها كأنه سهام مرسلة في الفضاء في مثل هذا الوقت من فصل الشتاء، يَلبس روبًا من الصوف الثقيل يكاد جسده يشتعل داخله من شدة تدفئته له، يخطف نظرة بريق نور برق مفاجئ في السماء ومن بعدة يطرق أُذنه صوت الرعد، يتأمل في السماء فيرى السحب قد تشابكت مع بعضها في سرعة طفأت ضوء القمر ومَحتهُ من السماء.
يتسارع ضوء البرق ليضيء أرجاء المكان عابرًا لزجاج نافذته ليحول لون الغرفة إلى الأزرق الأرجواني، يقع في نفسه أنه لم يعد وحيدًا في هذا المنزل الكبير فقد وجد من يؤنس وحدته بعدما ماتت زوجته منذ سنة ولم يعد يعرف عن ابنته الوحيدة سوى أخبار متباعدة بعد سفرها مع زوجها، ينظر إلى الضوء مبتسمًا ومستشعرًا بالأنس من حوله، ترتخي أعصابه و يتأمل بمنظر المطر ينهمر خلف الزجاج يتخلله ضوء البرق الذى يجعله مثل لوحةَ جميلةِ متحركةِ، يُطيل النظر في لوحته حتى يظن أنه بداخلها يحرك أجزائها بنفسه، يُفاجئه صوت قرع جرس الباب في هذا الوقت المتأخر من الليل، يدق قلبه متهيبًا فلم يعتد كثيرًا أن يستقبل أحدًا في مثل هذا الوقت من الليل مع هذا الجو المتقلب، يتتابع صوت الجرس مزعجًا إياه ومُخرجًا له من لوحته الجميلة، لا يجد أمامه سوى أن ينظر من يطرق بابه.
الأن يقوم من مقعدة الدافئ وعينه لا تريد أن تفارق مشهده المفضل، يُشعل الأنوار ويُخرج مسرعًا نحو الباب، يضع يده على المقبض في تخوف وحيرة، يشعر برعشه تتخلل يده ولكنه يتغلب عليها سريعًا، ثم يفتح يُفاجأ أمامه بامرأة يبدو عليها أنها في نهاية العقد الثالث من العمر، يشع النور من وجهها المستدير كأنها القمر قد نزل من السماء هربًا من أضواء البرق التي طالت غرفته، تتقاطر المياه من شعرها المبلل على وجهها كأنها اللؤلؤ يتناثر على سبائك الذهب.
قد ابتلت ملابسها وجسدها يرتعش بردًا، نظرت إليه في رِفق وخجل يتخلله جمال يظن أنه لم يرَ مثله من قبل ، قالت “عذرًا سيدي فقد تأخرت عند صديقتي وطالني المطر أثناء عودتي لمنزلي ولم أجد سوى منزلكم لأحتمي به من شدة المطر”، تبسم في وجهها رافعًا حاجبيه معجبًا، وردّ عليها مُشيرًا بيده إلى الداخل تفضلي يا ابنتي، أوصلها إلى المدفأة وأجلسها أمامها وزاد من نارها ، نظر إليها مبتسمًا وأحضر لها بمنشفة واضعًا لها فوق كتفيها.
-قائلاً “يمكنك أن تدفئي نَفسك قليلاً من البرد إلى أن أصنع لكى فنجاناً من القهوة فأنا لدىّ قهوة برازيلية قلما تجدينها هنا”.
تبسمت في وجهه ويديها تحتكان في بعضهما أمام نار المدفأة قائلةً له: “شكراً لك سيدي فأنت حقا نعم مُنقذَ الطريق.
أعاد الابتسام لها ثم انصرف تجاه المطبخ ليصنع القهوة وهو يختلس النظر إليها ويرجو ألا يتوقف المطر عن الهطول فلم تدخل منزله امرأة منذ شهور، يدق قلبه بشدة ويشعر أن شبابه قد عاد من جديد، تُخالجه مشاعر يظن أن شيبته قد أنسته إياها، يصنع فنجانًا مُتقنًا من القهوة.
ويعود إليها في خُطى متسارعةِ ليجدها قد فارقت مكانها، يتعجب ويبحثُ في المكان فلا يجدها، يبحث في الغرفة فلا صوت ولا حركة، يتجه إلى باب البيت فإذا هو مفتوح، تتبادر في ذهنه فكرة فيجري سريعًا إلى مكتبه فيجد ساعته الذهبية قد اختفت من فوق المكتب، يصمت قليلاً ثم يضحك ضحكة تَضج في أرجاء منزله الخاوي، يذهب في صمت ويحضر فنجان القهوة الذى كان قد أعده لها ويعود إلى مكانه أمام النافذة مبتسمًا، يُتابع النظر إلى هطول المطر في صمت وحزن.!