عرض الكاتب في هذه الدراسة لعدد من المبادئ الكلية التي تُعَد موازين دقيقة في التعامل مع المحن والأزمات. واعتمد أسلوب المقاربة والاستلهام بالنظر في مجالين اثنين: المبادئ الكلية التي قامت عليها الخدمة من جهة، والأخلاقيات التي حددها الأستاذ محمد فتح ﷲ كولن لرجالها الذين ظل يتعهدهم ويصقل شخصياتهم. وقد صدّر الباحث هذه المقاربات الاستلهامية بثلاث حقائق كبرى: 1-التأكيد على أن الطيّب هو الأصل الباقي وإن كَثُر الخَبَث. 2-التأكيد على أن الصادقين العقلاء أصحاب المبادئ والقيم، هم أكثر من يعاني في هذه الأزمات، وعلى أيديهم ينبلج الحق وتنقشع الأزمات. 3-أن الأزمات، مدرسة الأخلاق التي تتكشف فيها حقائق الرجال أكثر من أزمنة الأمن والرخاء. بعدها شرعت الدراسة في تناول أبرز الأخلاقيات التي لا غنى عنها حين تدلهمّ الخطوب وتثور الأزمات والفتن.
في وقت الضحى وأثناء انشغالي بأحد البحوث، أقبَلت ابنتي الصغرى تطلب أن أسمعها أنشودة للأطفال من الحاسب الآلي، توقفت عن الكتابة ثم خاطبتها قائلاً: «لا يمكن، فالجيران نائمون».. نظَرَت إليّ بكل براءة ثم قالت: «إذن لماذا يأتي الصباح»؟ لم أنس هذا الحوار وأنا أرقب كثيرًا من الحقائق الراسخة التي سريعًا ما تغيب عنّا في غمرة الانشغال بأزماتنا الطارئة، وإن كانت مفتعلة في كثير من الأحيان، ولا يراد منها إلا تعويق حركتنا، وتفريق كلمتنا، واستهلاك أوقاتنا، وإدخالنا قسرًا في متاهات حلقة مفرغة، تبعدنا أكثر فأكثر عن هدفنا، وقبل ذلك عن قيمنا ومبادئنا.
حين يجفّ دفق القلب، وتنضب طاقة الروح؛ يغيب وعي العقل، وعندها تظهر شرور النفس، وتحدث الأزمات.. وهناك تدعو الحاجة إلى “حركة النظم الإيمانية“ بحسب تعبير الأستاذ كولن.
“الطيّب” هو الأصل الباقي
الأزمات جنودُ ﷲ تعالى يمتحن بها قلوب عباده ليرى صدقهم، ويسمع تضرّعهم، ويميز الخبيث من الطيّب في صفّهم.. فكأنها بمثابة الزلازل العاتية التي تضطرب الأرض لها بقوة، لتتساقط بها الأوراق الصفراء التي ظلّت تشوّه نضرة الأشجار الباسقة، وتهوي معها الثمار المعطوبة التي ظلّت تمتصّ الشهد الغالي من رحيق العروق، وتخرج بسبب اضطرابها الهوام السامة مذعورة من جحورها، وتُقلّب التربة من جديد لتكون صالحة للحرث والزرع.
وهكذا الأزمات.. تزلزل الكيان الطيّب بأكمله؛ زلزلة قوية عنيفة تستخرج من بين جذوره الضاربة في أعماق الأرض، وأوراقه النضرة الباسقة، وثماره المباركة اليانعة، كل خبيث ظل يقتات عليها وينسب إليها زورًا وبهتانًا.. قال ﷲ تعالى: ﴿مَا كَانَ ﷲُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ ﷲُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾(آل عمران:179.
ومع أن المنطق يقتضي أن يحدث التمايز بإخراج القليل من بين الكثير، ومع كون الوحي يخبرنا بأن الخبيث هو الأكثر في كل شيء على مدار التاريخ عدّة وعددًا، إلا أن الآية الكريمة تؤكد هذا المعنى البديع، تؤكد بأن الرسوخ والثبات إنما يكون للطيّب على الرغم من قلة عدده وعُدّته، وهي لفتة مقاصدية كبرى حريّة بالتأمل. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول ﷲ صلى الله عليه وسلم: “مثَل المؤمن كمثَل الزرع لا تزال الريح تميله، ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء“ (أخرجه مسلم).
حين يتجلّى الحق ويظهر أئمته
الصادقون من الأفراد والمؤسسات، أحرى بمعرفة منافع الأزمات وآثارها من غيرهم، ويدركون أنها -في أزمنة الغربة خاصة- تُسفِر عن مكسبَين عظيمين لا يمكن أن يتحققا معًا في ظروف أخرى؛ ظهور الحق بانقشاع الباطل عنه، وظهور أهل الحق بتبرئة ساحتهم واجتماع القلوب الصادقة عليهم. قال ابن القيم رحمه ﷲ: «ابتلاء المؤمن كالدواء له، يستخرِج منه الأمراض التي لو بقيت فيه أهلكته، أو نقّصت ثوابه وأنزلت درجته.. وهل وصَل مَن وصَل إلى المقامات المحمودة والنهايات الفاضلة، إلا على جسر المحنة والابتلاء».(1)
كذا المعالي إذا ما رُمت تُدركها
فاعبر إليها على جسر من التعب
ولمّا قيل للإمام الشافعي: أيبتلى المؤمن أم يُمكّن؟ قال رحمه الله: “لن يُمكّن قبل أن يُبتلى“. قال شيخ الإسلام بن تيمية عن الإمام أحمد رحمه الله: “الإمام أحمد صار مثَلاً سائرًا يُضرب به المثل في المحنة والصّبر على الحق، وأنه لم تكن تأخذه في ﷲ لومة لائم حتى صار اسم “الإمام“ مقرونًا باسمه في لسان كل أحد، فيُقال: قال الإمام أحمد، هذا مذهب الإمام أحمد.
قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾(السجدة:24). فإنه أعطي من الصبر واليقين ما يستحق به الإمامة في الدين، وقد تداوله ثلاثة خلفاء مسلّطون من شرق الأرض إلى غربها، ومعهم من العلماء المتكلّمين والقضاة، والوزراء والسُّعاة، والأمراء والولاة، مَن لا يُحصيهم إلا ﷲ، فبعضهم بالحبس، وبعضهم بالتهديد الشديد.. بالقتل وبغيره.. وبالترغيب في الرياسة والمال ما شاء ﷲ، وبالضرب، وبعضهم بالتشريد والنفي.. وقد خَذَلَه في ذلك عامة أهل الأرض، حتى أصحابه العلماء والصالحون والأبرار.. وهو مع ذلك لم يُعطهم كلمة واحدة مما طلبوه منه، وما رجع عمّا جاء به الكتاب والسنة، ولا كتم العلم، ولا استعمل التُقية، بل قد أظهر من سنّة رسول ﷲ صلى الله عليه وسلم وآثاره، ودفع من البدع المخالِفة لذلك ما لم يتأتّ مثله لعالم من نظرائه وإخوانه المتقدمين والمتأخرين“(2).
للأزمات دورة زمنية لا تحيد عنها؛ فهي تبدأ هادئة، ثم تثور وتتصاعد فتعصف وترعد، ثم تتطامن وتهدأ من جديد قبل أن تضمحلّ وتتلاشى بما جرفته معها من العَصْف المأكول!
من أدب الأزمة وأخلاقيات رجالها
للأزمات دورة زمنية لا تحيد عنها؛ فهي تبدأ هادئة، ثم تثور وتتصاعد فتعصف وترعد، ثم تتطامن وتهدأ من جديد قبل أن تضمحلّ وتتلاشى بما جرفته معها من العَصْف المأكول! ويظل “الطيّب“ بعدها راسخًا بثباته، شامخًا بتواضعه، متجذّرًا بسكونه وهدوئه، متحلّيًا رجاله بأدب «الأزمة» وأخلاقياتها وقيمها التي رأيتُ أن أتناولها في هذه المقاربات، مستنطقًا فيها كتب الأستاذ محمد فتح ﷲ كولن ومقالاته المترجمة التي وصلت إلينا؛ فقد وجدتُ في حال صَبْره، ومقال سَبْرِه للأزمات المعاصرة وآدابها، موازين دقيقة يندر نظيرها عند غيره.
1- الباحث عن قبَس الإيمان في ظلمات التيه
حين يجفّ دفق القلب، وتنضب طاقة الروح؛ يغيب وعي العقل، وعندها تظهر شرور النفس، وتحدث الأزمات.. وهناك تدعو الحاجة إلى “حركة النظم الإيمانية“ بحسب تعبير الأستاذ كولن.
أ- سيأتي على قدرٍ إلى مولاه:
تتلخص فاعلية هذه الحركة للنظم الإيمانية، في ضبط مسار الفرد والمجتمع، وتوجيه البوصلة من جديد إلى ﷲ تعالى عبر تحقيق التوحيد، ورعاية الإخلاص، وتمحيص القصد، وتذكّر الآخرة. وضبط هذه الحركة في زمن الرخاء تظهر آثاره الحميدة في أوقات الشدّة والبلاء؛ حين يُمدّ القلب والروح والعقل بنور البصيرة، الذي تتبدّد معه ظلمات الفتن، وتتكشّف طريق الاستقامة. ولأن الإنسان مطالَب بتحقيق الإخلاص في كل أحواله، فإن بقاء جذوة الإيمان في قلبه كاف بعودته للصواب. ومع أنه قد يتحرك بضعف عند اضطراب الأزمات، ولا يكون بالضرورة قاصدًا هذا القصد أو متحرّيًا هذا الأمر، إلا أن “حركة النظم الإيمانية“ في قلبه تقود كل تصرفاته -بإرادته أو من غير إرادته- إلى هدف معين.
ومن طبيعة الحال أن تنعكس ألوان “حركيته“ الداخلية وأداؤها على نوع حياته وأسلوبه وشخصيته ومناسباته الاجتماعية.. وكذلك تبرز تلك اللهجة والأداء والأسلوب في أعماله الفنية وأنشطته الثقافية، لأن موقع الإنسان في الوجود، وغايةَ خلقه، ومقصودَ فعالياته، وتداعياتِ الفكر عن هذه الغاية وذلك المقصودِ، ووظيفته ومسؤولياته، ستحيط مع الزمان بكيانه وتحاصره، وتُوجِّهه في كل ساعة نحو التميّز والفائقية إزاء الوجود الأوسع والأعلى بأشد المشاعر حيوية وتأثيرًا“(3).
الأزمات جنودُ ﷲ تعالى يمتحن بها قلوب عباده ليرى صدقهم، ويسمع تضرّعهم، ويميز الخبيث من الطيّب في صفّهم..
ب- وسوف يجد عند «النور» هدى:
في أضواء النبوة وموازين السنّة يسير «رجل الأزمة» الذي أمدّته «حركة النظم الإيمانية» بدفق الحبّ، ونور القصد، واتزان حركة الإخلاص في العمل.. وآثار محمد صلى الله عليه وسلم عليها نور وهّاج لا يبصره إلا ذوو البصيرة من أهل العلم والحركة والخدمة الإيمانية. ولهذا فإن ضمانة النجاة عند ظهور الفساد، مرتبط بضمانات النجاح في تطبيق السنن، كما يلخّص الأستاذ فتح ﷲ كولن ذلك بقوله: «لا يوجد الآن طريق غير طريق السنّة يؤدي إلى الهدف بشكل مضمون لا شُبهة فيه. لذا فمن الطبيعي أن يكون إحياء السنة عند انتشار الفساد، أي إحياء الطريق الذي يبيّن الفرائض والواجبات والسنن، والقيام بأي خدمات وجهود لجعله سالكًا من جديد، ومضمونًا وآمنًا حتى يوم القيامة، تعدّ خدمات وجهودًا مقدسة تَرفع أصحابها إلى مرتبة الشهداء(4)، بل هناك العديد من بين هؤلاء من يحصل على أجر عدّة شهداء في كل يوم من أيام عمره. أما الذين يحاولون من بين هؤلاء إحياء أركان الإيمان، فهم يكسبون ثوابًا أكثر من ثواب مائة شهيد(5).
جـ- ويبصر آثار الملكوت في نفسه:
قرن ﷲ تعالى حصول اليقين والثبات برؤية مظاهر القدرة والملكوت في السموات والأرض، وهناك يقين آخر يتفضل ﷲ تعالى به على «رجال الأزمة» ساعة الغربة حين يجدون جنّة الدنيا داخل قلوبهم رغم ما يحيط بهم من محن وابتلاءات.. ويثقون بمسيرهم إلى غايتهم الواضحة أشدّ الوضوح، ويشعرون بالتناغم التام الذي يظهر في حسن تعاملهم مع الأحداث التي تعصف بهم، ويجدون «نشوة الانسجام» مع أنفسهم ومع الناس من حولهم، بل مع الكون كله.. كما يجدونه في ثباتهم على مبادئهم حين يمضون في طريقهم رغم الأسى ولوعة الترقّب.. يروون الجدب بيقينهم، ويتعهدون بذور الحياة في قلب الصخر بمضاء عزيمتهم، ويقيّمون الاعوجاج بأكفّ رحمتهم وصفحهم؛ كل ذلك لأنهم ضبطوا مناهل الريّ لشجرة الإيمان في قلوبهم، ويصححون مسارات الحركة في أعمالهم، وينظرون «إلى الوجود ومصدر الوجود، بعدَسة الكتاب والسنة.. ويقومون باللجوء إلى الموازين الدقيقة لهذَين المصدرين مع الانفتاح على أبعادهما الماورائية الفسيحة. ذلك لأن منشأ الإنسان وموقعه في الكون، وغاية وجوده والصراط الذي يسير فيه، ونهاية هذا الصراط في هذين المصدرين، منسجم انسجامًا عجيبًا مع فكر الإنسان وحسه وشعوره وتوقعاته فلا نملك دونه -إذ نحس بهذا الانسجام- إلا الإعجاب والاندهاش. هاتان المحجَّتان البَيضاوان، هما لأرباب القلوب منبع العشق والشوق، ومَنْجَم الجذب والانجذاب.. لن يعود خاليًا من يراجعهما بصفوة الحس وحافز الاحتياج، ولن يموت أبدًا من يلجأ إليهما»(6).
2- قيم راسخة لا محيد عنها
حين تختلط الأوراق في الأزمات، ويسقط الكثير من أصحاب الأهواء على إثر التجاوزات والمبالغات والانحرافات، ويقعد القليل الصالح عن الارتقاء في معراج الكمالات طلبًا للسلامة.. يظل رجل الأزمة؛ «بطل القلب الحي» بحسب تعبير الأستاذ كولن.
أ- نزاهة وصفاء قلب:
بطل القلب الحي هذا، لا تختلط عنده الأوراق مهما أظلمت السبل، ولا يعتمد أساليب الباطل للوصول إلى الحق مهما اشتدت العوائق، بل يظل يحاسب نفسه «مُبرمَجًا حسب الحياة القلبية والروحية، عازمًا على البقاء، بعيدًا عن كل المساوئ المادية والمعنوية، حذِرًا على الدوام من الرغبات الجسدية، يقظًا ومستعدًّا لمصارعة الحسد والحقد والكراهية والأنانية والشهوات.. كل ذلك مع تواضع باهر ونكران للذات عظيم. فهو يبذل قصارى جهده دومًا لمساندة الحق ونشره في كل مكان. وهو رمز الإيثار يتأجج شوقًا لكي ينقل إلى الآخرين ما أحسّه وشعر به في عالم الملك والملكوت»(7).
ب- مسير حتى يأتي اليقين:
بطل القلب السائر في زمن الفتنة لا يكتفي بالوقوف لمحاسبة نفسه والحفاظ على نقائها ودفع الممارسات السلبية عن عقله وروحه وسلوكه فحسب، وإنما هو «إنسان مثالي» كذلك، يواصل حركته ويمضي في طريقه كأنّ شيئًا لم يكن. لا تُبهره الأضواء البرّاقة، ولا تصمّه العبارات الرّنانة، ولا تأسره الألقاب والمكاسب الوهمية المؤقتة، «وحتى لو أصابته أشدُّ المِحَن قسوة وفتكًا، وأحدقت به أكبرُ الدوامات رهبة وعتوًّا، فلسوف يرى نفسه سائرًا في ممرّ طويل من الامتحانات، ينتهي به إلى ألوان شتى من التوفيق المؤكد والفوز المبين، ولسوف يحس -في أسوأ خطوبه وعند أصعب لحظاته- بنسمات من الأنس والسكينة القادمة من وراء الحُجُب، تطوّف في أرجاء روحه بِرقّة ونعومة، فيركع بين يدي ﷲ تعالى خاضعًا منكسرًا وقد امتلأت نفسه بمشاعر الحمد والعرفان، وفاضت بأحاسيس الشكر والامتنان.
حين تختلط الأوراق في الأزمات، ويسقط الكثير من أصحاب الأهواء على إثر التجاوزات والمبالغات والانحرافات، ويقعد القليل الصالح عن الارتقاء في معراج الكمالات طلبًا للسلامة..
“بطل القلب، ورجل الأزمة” إنسان مثالي، يمتلك ثقة لا حدّ لها، وطمأنينة لا غاية بعدها، لأنه يؤمن إيمانًا لا يخالجه شك بعناية القدرة المطلقة، ويوقن بأن ﷲ قادر على كل شيء، وأن حُكمه نافذ في كل شيء.. وإن ذلكم الإيمان الصافي الرقراق المتجذّر في أعمق أعماق قلبه، وكذلك تصوّرُه ورؤيتُه وعقيدتُه التي أكسبت عالم روحه أبعادًا جديدة تتجاوز جميع مقاييس العقل، كلُّ ذلك يرقى به إلى قمة تسمو على كل إحساس، وتتفوق على كل شعور. فلو تَمكّن في تلك اللحظة من أن يُنصت إلى ذاته بأذُن تعي تلك الأعماق، فلسوف يسمع همسات ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا ﷲُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾(فصلت:30)، أو﴿سَلاَمٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾(النحل:32)، ولسوف يَسبح في متعة أكرِم بها من متعة، ويغوص في نشوة ما بعدها نشوة(9).
جـ- لا بديل عن طلب مرضاتك:
لا عجب بعد كل هذا، أن يترفّع رجال الأزمة هؤلاء عن أثقال الدنيا وشهواتها وبهرجها، وهذا «أهم جانب يستدعي النظر، ويجلب التقدير والإعجاب» كما يقول الأستاذ كولن؛ ذلك أن «هؤلاء الأبطال الذين أحبّوا ﷲ تعالى، ونذروا حياتهم في سبيل رضاه، وارتبطوا بغاية مُثلى هي نيل محبته.. إنّ أهم جانب لدى هؤلاء وأهمّ مصدر من مصادر قوتهم، هو أنهم لا يبتغون ولا ينتظرون أيّ أجر مادي أو معنوي، ولن تجد في خططهم وحساباتهم أنهم يُعيرون أهمية لأمور يسعى طلاب الدنيا للحصول عليها كالأموال والأرباح والثروة والرفاهية.. هذه الأمور لا تشكّل عندهم أيّ قيمة، ولا يقبلون أن تشكّل عندهم أي مقياس. إن القيمة الفكرية لهؤلاء الناذرين أرواحهم تعلو على القيم الدنيوية، إلى درجة يصعب معها تحويل محور هدفهم المرتبط برضا ﷲ دون أي غرض آخر ودون أي تنازل.. أما ربطهم بهدف بديل فمستحيل(9).
3- منازل الوعي
في سَيره الطويل إلى غايته لا يغفل رجل الأزمة أين يضع قدمه، فهو يعرف مصدر الأزمات المعاصرة بدرجة رفيعة، ولديه حساسية مرهفة من مقدماتها تجعله في يقظة وحذر على الدوام.. وهذا ما يظهر في اختياره لأساليب المراغمة بما يتناسب وطبيعة الخطر الجديد؛ ذلك أن «شكل الخطر حاليًّا قد تبدّل عمّا كان عليه في الماضي؛ فبعد أن كان يأتي في السابق من الخارج، أصبح الآن يأتي من الداخل، مما يجعل مقاومته أصعب»(10)، ويؤكد الأستاذ فتح ﷲ كولن -على وجه الخصوص- على ضرورة الوعي حال التعامل مع شريحتين مهمتين في هذا «الداخل» الجديد:
أ- الوعي بحجم التشويه والفوضى في واقع العامة:
يعاني رجال الأزمة في مسيرهم، كثيرًا من أولئك الذين تشوّهت تصوراتهم، وانتكست قناعاتهم، واضطربت شخصياتهم، وفسدت أخلاقهم؛ نتيجة عقود التغييب والتغريب طوال «العهد الشيطاني»، ويدركون -مع كل ذلك- أن لا سبيل سوى الصبر وتحمّل طيش هؤلاء المساكين حتى يفيقوا من سكرتهم، لأن «السقوط الأخلاقي الذي سرى كَوَباء إلى جميع مفاصل المجتمع، هدم الركائز التي تحفظ المجتمع وسوّى بها الأرض، والأجيال التي انتُزع منها التوقير والاحترام لقيمنا المقدّسة بوساطة النماذج المجنونة لِما سمّوه بالخُلُق اللاديني، والخُلُق الفوضوي، والخلق الشيوعي، هذه الأجيال أصبحت ضحية للفكر وللروح المشوه، وغافلة عن تخبّطها في فوضى مخيفة من المصطلحات والمناهج»(11).
في مقابل هذه المعرفة يؤكد الأستاذ كولن بأن طريق الإلحاد وتشويه فطرة عامة المسلمين اليوم، يُمرر من خلال «العلم»، وأن «أعداء الدين من أصحاب الفكر المادي، يحاولون استعمال العلم كوسيلة للإلحاد والإنكار. لذا فنحن مضطرون لاستعمال السلاح نفسه لإزالة الأوهام والشبهات التي تجول في أذهان البعض من المخدوعين، وإثبات أن العلم لا يناقض ولا يعادي الدين. وبعبارة أخرى، فعلى عكس قيام الماديّين بتقييم العلم وجعله واسطة للإنكار والإلحاد، فقد وجب علينا أن نستعمل العلم كأداة إثبات وبرهنة على صحة الدين». ويتقدم خطوة عملية بدعوته كافة دعاة الإيمان لحل هذه المعضلة بقوله: «إنني أدعو دعاة الإيمان إلى التزود بهذا السلاح -أي سلاح العلم الكوني المادي- لأن آيات القرآن الكريم تأخذ بأيدينا وتجول بين النجوم والمجرات؛ لتعرّفنا ببديع السماوات وبديع الكون، وببديع صنع ﷲ تعالى وقدرته وسلطانه.. وتُلْفت أنظارنا إلى أعضائنا وروعتها، وتبسط أمام أنظارنا الوجود بأكمله، وتذكّرنا بأن العلماء هم الذين يخشَون ﷲ حقًّا.. أي تقوم الآيات القرآنية بتشويقنا لاستحصال العلم، وتُومئ إلى مسائل علمية أخرى، وتدعو الإنسان إلى التأمل والتفكر في ملكوت السموات والأرض»(12).
بطل القلب، ورجل الأزمة” إنسان مثالي، يمتلك ثقة لا حدّ لها، وطمأنينة لا غاية بعدها، لأنه يؤمن إيمانًا لا يخالجه شك بعناية القدرة المطلقة، ويوقن بأن ﷲ قادر على كل شيء
ب- الوعي بأثر التشويه في واقع الخاصة من أهل الإيمان:
ولا يفوق الوعي بحجم التغييب الذي تعرضت له العامة، سوى الوعي بأثر التشويه الذي حل بكثير من أهل الإيمان خاصة، ورفقاء الطريق الذين لا يتورّعون عن الاحتكاك بأبطال القلوب من إخوانهم، والسعي لتحقيق أهداف العدو بوعي أو غير وعي. هذه حقيقة كما يقول الأستاذ كولن: «لا يمكن لأحد أن يدّعي أن هذه الفوضى واختلاط الحابل بالنابل، لم يؤثر على أهل الإيمان. إن القوى الخارجية كثيرًا ما تمدّ يدها إلى المفاهيم المذهبية، أو إلى المدارس التصوفية، أو إلى نبش المسائل العنصرية والعرقية.. لذا يجب الانتباه والحذر. صحيح أنه لا يوجد دليل جدّي على انخداع الجماعات الدينية بمثل هذه الإيحاءات، أو أنها تُموَّل وتُدار من قِبل القوى الخارجية -رغم ورود مثل هذه الادعاءات والشائعات في حق بعض الجماعات- إلا أن الشواهد على أن الجماعات القرآنية والإيمانية لا يمكنها تلقي الأوامر من الخارج، أرجح وأقوى. غير أننا لا ننسى أن ظهور التعصب في بعض الجماعات التي لم تصل إلى النضج الفكري والروحي المطلوب، شيء واقعي وموجود، مما يؤدي إلى احتكاكات داخلية، وهذا يخدم الآمال الشريرة للأعداء دون قصد منها(13).
إن أبطال القلب إذن، ليسوا أغبياء إلى هذه الدرجة؛ فكلما ظن العدو فيهم البلادة والغباوة فاجؤوه بيقظتهم المفرطة، وبقدرتهم الفائقة على هتك أستار أوليائه، وكشف خططه للإيقاع برجال المصير، ومن بينها إيجاد القرين المنافس الذي يدّعي -زورًا وبهتانًا- أنه يحمل الهمّ معهم، ويشاطرهم الطريق نفسه، وهو في واقع الأمر لا طريق له سوى ما رسمه أسياده، ولا مبدأ إلا ما أملاه هواه. وأنى يرتجى لطريق السلامة أسيرٌ وهو يسير؟! وأنى يبصر مكمن الداء طبيب وهو عليل؟!
جـ- الوعي بضرورة التصدي لوسائل التفريق ومحفزات التصادم:
الوعي بخطط العدو أقصر السبل لتحقيق رباطة الجأش ولزوم الحكمة ما أمكن حال التعامل مع أوليائه الأدعياء. ولقطع طريق التصادم والتلاحم الذي يستعجله عدو الداخل والخارج، يحذّر الأستاذ كولن من أن الجماعات الإسلامية الصادقة في تركيا وفي العالم الإسلامي، مقبلة على مرحلة جديدة من المواجهة، غايتها تحقيق ثلاثية الفشل التي حذّرنا ﷲ تعالى منها بقوله:
﴿وَأَطِيعُوا ﷲَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ ﷲَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾(الأنفال:46)، مؤكدًا في الوقت ذاته بأن هناك أساليب مكشوفة بات العدو يتخذها عن طريق أدعياء الفجر الكاذب، للإيقاع بركبان الفجر الصادق، منها:
1- استغلال حبّ الجاه والشهرة لدى بعض زعماء هذه الجماعات، ودفعهم إلى التنافس مع الجماعات الأخرى.
2- ظهور محاولات هدم الجماعات الأخرى تحت دعوى العمل باسم الإسلام.
3- ترقّب ثمرة آنية في الدنيا من كل عمل صغير أو سعي قليل، مع أن استحصال ثمرة العمل يكون في المستقبل البعيد عادة، وربما في الآخرة.
يؤكد الأستاذ كولن بأن طريق الإلحاد وتشويه فطرة عامة المسلمين اليوم، يُمرر من خلال «العلم»، وأن «أعداء الدين من أصحاب الفكر المادي، يحاولون استعمال العلم كوسيلة للإلحاد والإنكار.
4- من أجل كسر المساعي والجهود الإيجابية المثمرة والمستمرة لجماعة ما، يتم تشكيل وتكوين جماعة أخرى لكي تكون بديلة عنها، ثم إحداث احتكاك بينهما وإنتاج الشقاق والفرقة واستهلاك جهود تلك الجماعة.
5- بدلاً من أن تعيش الجماعات التي نذرت نفسها لخدمة الأمة في ظل المحبة التي هي شعار طريقهم ومشربهم(14).
كما ينبه إلى أن: «عدم إشباع روح إنساننا الحالي، يجعله سهل الانقياد إلى بعض النظم الفكرية التي تشكو من الفراغ القلبي والروحي، مما يجعله يبتعد عن قلبه وضميره». وفي نبرة حادة قلما تصدر عنه، يحذّر الأستاذ فتح ﷲ كولن من أن هذا الإنسان: «حين يبتعد عن كل ركيزة داخلية ووجدانية من جهة، فإنه يتم توجيه انتباهه -من قِبَل شرذمة قليلة أو أقليّة مُرفّهَة تعيش حياة سائبة ومخمورة- من جهة أخرى إلى جو من الانطلاق البهيمي، وإلى دغدغة شهواته وإبعاده عن خطه الإسلامي».(15)
4- نحو فضاء رحب من التآلف والاجتماع
مهما كان طيش الإخوة وجهل الأتباع فإن رجال الأزمات لا يعيرون ذواتهم اهتمامًا، فمهما نيل منها بالأذى والبهتان، والألقاب المشينة، والألفاظ السوقية، يظلون هم الرحماء الذين يمدّون أيديهم للجميع، ويدعون المخطئين إلى صدر الأمومة الحاني متناسين كل طيشهم وفوضويتهم.. بل سريعًا ما يقدّمونهم إلى الأمام بعد لحظات الحنو والرحمة، فإذا علموا صدقهم، وأبصروا مواهبهم، تراجعوا «خطوة إلى الوراء» -بحسب تعبير الأستاذ كولن- فاسحين لهم المجال، كي يعملوا وينتجوا ويبدعوا.
أ- فرح بنجاحات الآخرين وإصابتهم الحق:
إن الترفّع عن حظوظ النفس، والتسامي عن الأثرة، وعن التطلع إلى شهادات التكريم وأوسمة التقدير من أعظم سمات رجل الموقف، وهي من أكبر أسباب التلاقي واجتماع الكلمة. ولأن شرارة الأزمة الأولى إنما تنبع من مطامعنا، وتنافسنا على الأرصدة والمكاسب، فأنت ترى الأستاذ فتح ﷲ كولن ينصب موازين التلاقي والتعاون بين العاملين بقوله: «لا يوجد في عالم رجل القلب ادعاءات أمثال «فعلتُ أنا»، «أنجزت أنا»، «نجحت أنا».. فهو يفرح بكل إنجاز حقّقه آخرون وكأنه هو الذي أنجزه، ويعدّ نجاحات الآخرين نجاحًا له، ويتبعهم تاركًا لهم شرف الريادة ومرتبتها.. بل يقوم بأكثر من هذا، فهو يرى أن الآخرين سيكونون أكثر لياقة ونجاحًا، لذا يهيئ لهم جوًّا أكثر أمانًا وراحة في أداء خدماتهم وجهودهم، ثم يتأخر خطوة إلى الوراء ليكون فردًا عاديًّا ضمن الأفراد الآخرين.. ونظرًا لكون رجل القلب مشغولاً بعيوبه ومجاهدًا لنفسه على الدوام، فهو لا ينشغل بعيوب الآخرين ونقائصهم، بل لا يجد فرصة للانشغال بها. ولا يكتفي بعدم تعقّب أخطاء الآخرين وعيوبهم، بل يحاول توجيههم إلى آفاق أرحب بالابتسامة، ويدرأ بالحسنة السيئة، ولا يفكر بإيذاء أي شخص، وإن تعرّض للأذى خمسين مرة، فهو بذلك أنموذج مثالي للإنسان الفاضل»(16).
الوعي بخطط العدو أقصر السبل لتحقيق رباطة الجأش ولزوم الحكمة ما أمكن حال التعامل مع أوليائه الأدعياء.
ب- حذر من عواقب التفرق والفشل:
لا يتحقق الاجتماع إلا بالنظر في عواقب الفرقة، ولا يحصل النجاح بمعزل عن خوف الفشل، وما لم نعرف مكمن الخطر فلن يتحقق لنا الأمن، وهذا ما حدا بالأستاذ فتح ﷲ كولن إلى التأكيد دون تردد بأنه: «لا يوجد ولا يمكن تصور وجود خطر أكبر من هذا الخطر الداهم أمام نهضتنا من جديد. إن كثيرًا من مجتمعات المسلمين اليوم، ضعيفة من ناحية بنيتها العلمية والفكرية، وفقيرة من جهة حياتها الروحية والقلبية، ومحرومة من القيادة والتوجيه إلى درجة يرثى لها. وما لم يتم القضاء على الأجواء التي تغذي التعصب وعدم المسامحة، فمن العبث الحديث عن الاتفاق والاتحاد»(17). وتراه يكرر هذه الحقيقة مرة أخرى بقوله: «إن البغضاء والحقد لم ولن يحل أي مشكلة، واعلموا أن النصر عند المدنيين والمتحضرين، لا يكون إلا عن طريق الإقناع. إذن تعالوا نعاهد ﷲ للمرة الأخيرة على الوحدة وعلى التساند»(18).
جـ- فتح لقنوات التعاون والتواصي بالحق والصبر:
إن العهد ميثاق غليظ. والعهد على الوحدة وعلى التساند بحاجة إلى تصوّر واضح لمقدمات لا محيد عنها؛ فإذا استبان خطر الفرقة، وظهرت منزلة الإيثار والترفّع عن حظوظ النفس، والتسامي عن أمراض الأثرة، وتحقق إنصاف الصادق على صدقه في ميزان التلاقي على الحق بين أهله، فإن الأستاذ كولن يتقدم كذلك خطوة متقدمة أخرى لترسيخ عهد التآخي، ألا وهي المبادرة لمدّ جسور التعاون وعدم انتظارها من الطرف الآخر، مؤكدًا على أن هذه المبادرة أضحت ضرورة من أجل البقاء، وأن: «التهيؤ لمناخ جديد أصبح ضروريًّا، ومن الأمور المهمة التي لا يمكن الاستغناء عنها حاليًّا(19)، وأنه: «لم يبق أمامنا سوى الإصغاء إلى صوت النبوة، والاستجابة إلى النداء القرآني العام:
﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ ﷲِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا﴾(آل عمران:103). وكما تأسّست أخوة صادقة في الماضي يمكن تأسيسها أيضًا الآن، ولكن بشرط أن يتم تناول هذه المسألة المهمة بالعقل والمنطق، وتوضع تحت المجهر الإلهي»(20).
ولتعزيز عهد التآخي يرسم الأستاذ كولن أسسًا لتأمين وحدتنا، ويدعو إلى: «ضرورة تناول العوامل التي تشكل أساس وحدتنا، تناولاً عقليًّا يأخذ في نظر الاعتبار أيضًا جميع عوامل التفرقة الداخلية منها والخارجية؛ أي يجب تعيين الغايات والوسائل والأهداف والمقاصد من جديد، مع الارتباط بموثق وعهد قلبي. فلأجل تأمين وحدتنا التي هي أساس سعادتنا المادية والمعنوية وسعادتنا في الدنيا وفي الآخرة، نحتاج إلى صيغة اتحاد حاجة ماسة جدًّا، على الأقل كالاتحاد الأنكلوسكسوني والغال.
ومع أننا لا نتقن فن إشغال أعدائنا وعدم إعطاء فرصة لهم للتفكير أو التدبير، ولا نملك مثل هذه الدراية والقابلية، فالمطلوب منا -على الأقل- إبداء النضج الضروري في عدم الوقوع في مصايد الأعداء وعدم قيامنا بحفر قبورنا بأيدينا.
الاختلاف في الفكر والفهم، نتيجة طبيعية لاختلاف التكوين والخلق، وهذه إرادة ﷲ تعالى وله فيها رحمة وحكمة. ولكن الإنسان مكلّف أيضًا بتأمين النظام والتلاؤم الموجود في الشريعة الفطرية بإرادته.. ومع أن قانون الجبرية يحكم العالم الكبير (الكون)، إلا أن الإرادة الإنسانية التي تعدّ شرطًا عاديًّا، لها دور في عالم الإنسان. ادفع السيئات بالحسنة، ولا تهتم كثيرًا بالسلوك المفتقر إلى الذوق، فكل إنسان يعكس طبيعته وأخلاقه بتصرفاته وسلوكه.. أما أنت فاختر لنفسك طريق المسامحة، وكن كريمًا عالي النفس حتى أمام الذين لا يعرفون قواعد السلوك والخلق»(21).
مهما كان طيش الإخوة وجهل الأتباع فإن رجال الأزمات لا يعيرون ذواتهم اهتمامًا، فمهما نيل منها بالأذى والبهتان، والألقاب المشينة، والألفاظ السوقية، يظلون هم الرحماء الذين يمدّون أيديهم للجميع،
د- لا تثريب ولا عتاب:
وختامًا، فإن ترك مساحة لرجوع المخطئ، من خلال الصفح والعفو وعدم مقابلة الإساءة بمثلها، خير من سدّ جميع الأبواب وإغلاق جميع القنوات التي يستحيل معها اللقاء والتصافي إلى الأبد: «والمؤمن الذي يتمنى ويأمل أن يكون ﷲ معه غفورًا ورحيمًا، يجب أن يتخلّق بهذا الخُلُق، ويجعل العفو والصفح جزءًا لا يتجزأ من خُلُقه. لن يخسر الإنسان الذي جعل شيمته العفو والصفح أبدًا في أي مرحلة من مراحل حياته.. والذي يضع المستقبل نصب عينيه -وهو يعيش حياته الحالية- إنسان قد وهبه ﷲ تعالى موهبة خاصة وحكمة.. والذين يكونون مظهرًا لمثل هذا الفضل، سيكونون هم ورثة المستقبل في هذه الدنيا»(22).. «ولكي يتم الوصول إلى فضائل الوفاق الاجتماعي، على القلوب أن تكون اجتماعية، وتبتعد عن الأنانية، وتكون مليئة بحب الإنسانية وبالشهامة والمروءة.. وما لم يتم الابتعاد عن الأنانية وعن عبادة النفس وإرجاع كل شيء وكل الوسائل والأهداف إلى سلطان النفس الذي هو شرك خفي، والابتعاد عن القول: إن لم يكن هذا العمل بيدي فلا أريده حتى وإن كان خيرًا ما دام يتم بيد الآخرين وليس بيدي.. إن لم يتم التخلص من مثل هذه العقلية التي ترى أن الحق فقط معها وتابع لها، والتي تكفّر وتضلّل وتجرّم كل من لم يتبعها، وإن لم يتم تخليص القلوب من مثل هذا التعصّب الأعمى، فلا يمكن الوصول -حسبما أرى- إلى أي تفاهم أو اتفاق»(23).
«لندع كل واحد يعمل بالطريقة التي يفضّلها ويراها أصلح من غيرها، لأنه من المعروف أن من الصعب على الكثيرين تغيير أفكارهم، بل يستحيل ذلك في كثير من الأحيان. كما أن الإجبار ليس طريقًا سليمًا، بل يؤدي إلى مشاكل وانشقاقات لا يمكن التئامها، بينما التسامح واللين والتفاهم بالحسنى، هو الطريق الذي أوصانا به القرآن. والذين يتبعون طريق الحكمة والموعظة الحسنة، يحلون مشاكل مستقبلية مهمة».(24).
هكذا تتجلى أخلاقيات رجال الأزمة إذن، ويؤكد عليها الأستاذ فتح ﷲ كولن الذي يكرر تذكير أصحاب الخدمة بموازينها، ويحذر من نتائج التخلف عنها بقوله: «إنْ لم يقم الذين أوصلوا الخدمة الإيمانية والقرآنية إلى هذا المستوى، بالمحافظة على المستوى نفسه من الإخلاص والحماس، فستؤخذ الأمانة منهم وتودع إلى آخرين، أي سيتم نبذهم ورفضهم. ونحن -إذ ندرك ونقدّر العناية الربانية- نعرف بأننا إن بذلنا كل طاقاتنا، وصرَفنا كل جهدنا، واستفدنا من اللطف والرعاية الإلهية، فإننا نستطيع اجتياز الامتحان ونكون مظهَرًا لألطاف أخرى. وكم نتمنى أن يستمر أصدقاؤنا -حتى يأتيهم اليقين- بالهمة نفسها والحماس نفسه والجدّ في خدمة القرآن والإيمان.. هذه الخدمة التي تُكسب صاحبها في كل آن ثواب شهيد»(25).
قد يغطّ «الجيران» في نومهم العميق مجددًا رغم الضوضاء وهدير الأقدام من حولهم، لكنّ ذلك لن يغير من الحقائق شيئًا حين ينبلج الصبح، ويتجلى الفجر الصادق أمام السائرين من رجال الأزمة.
(1) مفتاح دار السعادة، (ج1/ص301).
(2) كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في التفسير، (ج12/ص439).
(3) ونحن نبني حضارتنا، ط2، ص52.
(4) أخذًا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «المتمسك بسنّتي عند فساد أمتي له أجر شهيد»، ذكره الهيثمي وقال: رواه الطبراني في الأوسط، وفيه محمد بن صالح العدوي، ولم أر من ترجمه وبقية رجاله ثقات. (انظر: مجمع الزوائد ج1/ص172). وجاء في رواية عن بن عباس رضي الله عنه مرفوعًا بزيادة (مائة شهيد)، وفيه: الحسن بن قتيبة الخزاعي المدائني، قال بن عدي: أرجو أنه لا بأس به، وقال أبو حاتم: ضعيف، وقال الأزدي: واهي الحديث، وقال العقيلي: كثير الوهم. (انظر: لسان الميزان ج2/ص246).
(5) أسئلة العصر المحيّرة، للأستاذ فتح الله كولن، ترجمة: أورخان محمد علي، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، 2008، ج:2.
(6) ونحن نقيم صروح الروح، للأستاذ فتح الله كولن، ترجمة: عوني عمر لطفي أوغلو، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، 2007، ط:6، ص:36.
(7) مقال: صورة قلَمية لرجل القلب، للأستاذ فتح الله كولن، مجلة حراء، العدد: 14 (يناير – مارس) 2009.
(8) مقال: المجتمع المثالي، للأستاذ فتح الله كولن، مجلة حراء، العدد: 31 (يوليو – أغسطس) 2012.
(9) مقال: صورة قلَمية لرجل القلب، للأستاذ فتح الله كولن، مجلة حراء، العدد: 14 (يناير – مارس) 2009.
(10) الموازين، أو أضواء على الطريق، للأستاذ فتح الله كولن، ترجمة: أورخان محمد علي، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، 2006، ص:185.
(11) المصدر نفسه، ص:185.
(12) أسئلة العصر المحيّرة، للأستاذ فتح الله كولن، ترجمة: أورخان محمد علي، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، 2008، ج:3.
(13) الموازين، أو أضواء على الطريق، للأستاذ فتح الله كولن، ترجمة: أورخان محمد علي، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، 2006، ص:185.
(14) المصدر نفسه، ص:185.
(15) المصدر نفسه، ص:185.
(16) مقال: صورة قلَمية لرجل القلب، للأستاذ فتح الله كولن، مجلة حراء، العدد: 14 (يناير – مارس) 2009.
(17) «نقاط الالتقاء والاتحاد»، الموازين أو أضواء على الطريق، للأستاذ فتح الله كولن، ترجمة: أورخان محمد علي، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، 2006.
(18) الموازين، أو أضواء على الطريق، للأستاذ فتح الله كولن، ترجمة: أورخان محمد علي، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، 2006.
(19) أسئلة العصر المحيّرة، للأستاذ فتح الله كولن، ترجمة: أورخان محمد علي، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، 2008، ج:2.
(20) الموازين، أو أضواء على الطريق، للأستاذ فتح الله كولن، ترجمة: أورخان محمد علي، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، 2006، ط:7، ص:72.
(21) أسئلة العصر المحيّرة، للأستاذ فتح الله كولن، ترجمة: أورخان محمد علي، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، 2008، ج:2.
(22) الموازين، أو أضواء على الطريق، للأستاذ فتح الله كولن، ترجمة: أورخان محمد علي، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، 2006، ص:75-76.
(23) أسئلة العصر المحيّرة، للأستاذ فتح الله كولن، ترجمة: أورخان محمد علي، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، 2008، ج:2.
(24) المصدر نفسه، ج:1، ط:1، ص:161.
(25) المصدر نفسه، ج:2.
المصدر: نسمات، الإصدارة الأولى، نوفمبر ٢٠١٦2.