ما من شك أن كيان أيّ أمة -ابتداءً واستمرارًا- موصول بحرص أبنائها على كُنه ثم حفظ ثم تزكية مخزونها الخلُقي والقيمي استجلابًا ليانعِ ثماره المتمثلة في تبصُّر القصد الذي تؤمه، ثم تفعيل هذا التبصُّر في شتى مجالات الحياة الأخرى لتحقيق التنمية المنشودة. ولا يمكن لأي اجتماع إنساني فاقد أو مفرط في ذلكم المخزون، سوى أن يهوي من رتبة الأمة إلى مجرد التجمع البشري، وهل الأمة إلا المجتمع آخذًا بالقيم التي ارتضاها أبناؤه؟
وهذا التصور يفيد أن هذه الأمة الخاتمة بما لها من الوسع الخلُقي والأفق القيمي، لن تحقق لاحق تقدمها إلا بسابق تخلقها، أو بالعبارة المأثورة عن السلف “لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها”؛ أي أن تجعل من مخزونها الخلُقي أساس تقدمها المادي، فلا يأتي أبناؤها سببًا ماديًّا إلا وقد حصّلوا أصله الخلُقي وأُسَّه القيمي.
ولما كانت التنمية غاية المجتمع ومسعى الجهود المبذولة من لدن أفراده، لزم القول بأن أبناء الأمة الخاتمة لا بد أن يعوا -من حيث فَقد غيرهم هذا الوعي- ضرورة وصل التنمية بالتزكية، وربط أسباب الحس بأسباب المعنى حتى تتحقق لهم الخاتمية والخيرية، إذ لو فُقد هذا الوصل، لتساوت مع غيرها في النظر لأمور الدنيا وهموم الإنسانية وعواقبها، ولكان غيرهم أقدر عليهم وأغلب.
ونقصد بالأسباب المعنوية؛ كل عمل ديني انطوى على قيمة خلُقية تؤهل الإنسان لأن يَصِل ظاهرَه بباطنه وقلبَه بقالبه، بحيث إذا لم يحصل هذا الوصل فقد لزمه طلب تزكية ذلك العمل وتطهيره من الشوائب إلى أن يصير سببًا يقرّبه لعالم الروح.
وشواهد هذا المعنى جاءت -في كثير من الآيات والأحاديث النبوية وأحداث السيرة العطرة التي تشكل مركز دائرة القيم لدى هذه الأمة الخاتمة- دالة على تحقُّق العبودية الخالصة، وداعية إلى الصدق في طلب الحق سبحانه وتعالى، ومنبهة إلى عوالم روحية ترسخ قيم الاتصال بالله تعالى.. فاتحة بذلك آفاقًا في التعامل والتخالق، لا تنتهي إلى حد في رُتب السموّ، ولا تقف عند نهاية في مواقع الجمال، من ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكسب المعيشي: “لعلك تُرْزق به”؛ والإشارة في الحديث منبهة ليس فقط على دخول السبب المعنوي -المتمثل هنا في لزوم محراب التعبد- في الكدح المعيشي، بل على اعتبار هذا السبب أصلاً متَّبعًا تؤوب إليه أفئدة المتوجهين إلى الله، وقاعدة لا ينبغي التفريط فيها، وإلا وقع المؤمن في ضيق الـ”أنا” وعَنت البعد عن الرزّاق سبحانه ومشقة الانفصال عن الحقيقة الاستخلافية للإنسان.
ومنها قوله عليه أزكى الصلاة والسلام: “لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم” (رواه مسلم)، وقوله لطلحة رضي الله عنه يوم أُحد لمّا قُطعت أصابعه فقال: حَسِّ، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: “لو قلت باسم الله لرفعتك الملائكة والناس ينظرون”، ففتح عليه الصلاة والسلام بالذكر أمام الصحابة عوالم السعادة الأبدية، وحرّك فيهم كوامن الاتصال والوصال في مواقف اليسر والرخاء كما في ميادين العسر والعناء؛ إشعارًا للأمة بمركزية الذكر في الإمداد بالنعم الإلهية، وتحقيق التوازن الإنساني المنشود بين عالم الحس وعالم المعنى، وبين الغيب والشهادة.
وكذلك ما وقع من أمره صلى الله عليه وسلم عشية “بدر”، حيث “ما زال يهتف بربه مادًّا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه على منكبيه”، إبرازًا لحالة العبودية والتذلل التي عليها المعول في حصول النصر: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(آل عمران:123). وكذلك وقع في تاريخ المسلمين، ومن سير السلف والصالحين كثير مثل هذا.
فهاك صورة تشرق بهذا المعنى في فتح القسطنطينية جسّدها الشيخ “محمد بن حمزة” الدمشقي المعروف بـ”آق شمس الدين”، وهو شيخ السلطان محمد الفاتح ومربّيه؛ فقد أراد السلطان أن يكون شيخه بجانبه أثناء الهجوم، فأرسل إليه يستدعيه، لكن الشيخ كان قد طلب ألّا يدخل عليه أحد الخيمة، ومنع حراس الخيمة السلطانَ من الدخول.. غضب محمد الفاتح وذهب بنفسه إلى خيمة الشيخ ليستدعيه، فمنع الحراس السلطانَ من دخول الخيمة بناءً على أمر الشيخ، فأخذ الفاتح خنجره وشق جدار الخيمة في جانب من جوانبها ونظر إلى الداخل، فإذا بشيخه ساجدًا لله في سجدة طويلة وعمامته متدحرجة من على رأسه، وشعْرُ رأسه الأبيض يتدلى على الأرض، ولحيته البيضاء تنعكس مع شعره كالنور، ثم رأى السلطان شيخَه يقوم من سجدته والدموع تنحدر على خديه.. فقد كان يناجي ربه ويدعوه بإنزال النصر، ويسأله الفتح القريب. عاد السلطان محمد الفاتح عقب ذلك إلى مقرّ قيادته ونظر إلى الأسوار المحاصرة، فإذا بالجنود العثمانيين قد أحدثوا ثغرات بالسور وتدفقوا منها إلى القسطنطينية، ففرح السلطان بذلك وقال: ليس فرحي لفتح المدينة، إنما لوجود مثل هذا الرجل في زماني.
فلو أمعنت النظر فيما سيق من الشواهد، لمحت بسرعة ركنَين عظيمين يتطلبهما كل استئناف يتشوّف إلى بصائر الوصال وحقائق التعرف، وهما الذكر والدعاء.
وأما ركن الذكر فلا يكون كذلك حتى يقع من صاحبه على وجه الإكثار وتخليص الوجهة للمذكور سبحانه، وأما ركن الدعاء فلا يكون أيضًا كذلك حتى يحصل على وصف الاضطرار لله والإلحاح عليه، وإلا فلا يكمل نتاج هذه الأسباب ولا يرقى أفراد الأمة إلى رتبة الانخراط في مواكب الذكر والدعاء في هذا الكون الفسيح، قال تعالى: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا)(الإسراء:44).
ومن تلكم المواقف ما جاء في سيرة فخر المرسلين صلى الله عليه وسلم؛ حيث خاطب الأنصار بعد أن بلغته مقالتهم وقال: “أترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟” (رواه البخاري).
فتأمل هذا الموقف الجليل تجده يُجلي مسألة في غاية الأهمية، وهي أن الأسباب المعنوية ليست مطلوبة الأخذ وحسب، بل هي الأصل في الأخذ والامتداد لبقاء هذه الأمة واستمرارها في أداء رسالتها الكونية السامية، إذ إن الذهاب والرجوع برسول الله صلى الله عليه وسلم الوارد في الحديث مشيرٌ إلى حتمية الاعتصام بمنابع وموارد القيم بدل التشوف إلى لعاعة الدنيا الزائلة، والرضا بذلك يُعدّ من أولى مقومات التقدم والسير الروحي للفرد والأمة على حد سواء. وهذا التنبيه النبوي البليغ حاجة ماسة للذين ذهلوا عن الأسباب المعنوية التي جسّدها من كان أعظم سببٍ، وسببَ كل فضل عليه أزكى الصلاة والسلام في كل أحواله.
ألا إن من فضيلة هذا الدين الخاتم وفضله، أن منابع القيم والأخلاق فيه لا تنضب قطعًا، رغم تغيرات الحياة ومستجداتها، ورغم تلونات النفوس وتناسل العلاقات بين الأفراد والمجتمعات والأمم، ورغم تكاثر التوجهات والمعتقدات.. فأمكن لنا بهذه الفضيلة أن نستَقي من معينها الفياض في كل وقت وحين؛ فنغيث نفوسنا من خضخاضها الذي تتوحل فيه يومًا بعد يوم، ولا يكمل تحقق ذلك إلا إذا حصل منا تحريك الأسباب المعنوية مقدار تحريك غيرنا للأسباب المادية أو يزيد، فنشهد المنعم قبل شهود النعمة، حيث غفل غيرنا عن المنعم بانغماره في تعاطي النعم.. فلا شيء يُرقّي إنسانيةَ الإنسان مثل دخوله في تخلُّق يَصِل طينيته بروحانيته ومن ثم عالم شهوده بعالم غيبه، حتى تتنسم الروح عبير أصلها ونسمة وطنها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) باحث في الرابطة المحمدية للعلماء / المغرب.