كلما تناهى إلى سمعي خبر مطالبة السلطات التركية بإغلاق مدارس الخدمة في بعض دول المعمورة(1)؛ عرت الحزن والأسى، وتأكد لي بالملموس أن الانقاب الفاشل في 15 يوليو 2017 ، مجرد سيناريو محبوك لتصفية نموذج حضاري إصلاحي هدفه إسعاد الإنسان.. هذا النموذج الحضاري ارتضاه الناس من مختلف الأعراق والثقافات والأقاليم، ونوّهوا بملهِمه الأستاذ “فتح الله كولن”، واحتضنوا أبناء الخدمة وآووهم ونصروهم رغم كل محاولات الشيطنةوالاتهام.
أتحدث عن مدارس الخدمة التي زرتُها واطلعت عليها كشاهد عيان ومتتبع من عين المكان داخل تركيا وخارجها، أو قرأت عنها، أو سمعت شهادات أجمعت كلها على أنها مدارس رائدة في مجالها، شاهدة على غيرها، راشدة بأطرها ومجددة لمناهجها ومطورة لبرامجها.
والمقصود هنا بـ”مدارس الخدمة” تلك المؤسسات التعليمية والتربوية والأكاديمية، التي تنطلق من روضة الأطفال إلى الجامعة، مرورًا ببيوت الطلبة وصالونات القراءة، إلى مراكز البحث العلمي ومعاهد الدراسات المتخصصة.. والتي تستلهم رؤاها التربوية وآفاقها الإصلاحية من أفكار الأستاذ “فتح الله كولن”.
لقد استطاعت مدارس الخدمة أن تبني إنسان المستقبل بناءً شموليًّا تكامليًّا تجمع فيه بين الروح والعقل، بين العلم والإيمان، بين الإبداع والاتباع، بين الفكر والفعل..
مدارس الخدمة مدارس سعادة
أن تكون المدرسة فضاء للسعادة يعنى ذلك -بكل بساطة- أنك ربحت الرهان البيداغوجي، ودخلت إلى مصنع بناء الإنسان من أوسع أبوابه. فالمدرسة بهذا المعنى، فضاء للعطاء والأخذ، فضاء للتواصل والتفاعل، فضاء لحل المشكلات التعليمية والاجتماعية.
في ذات السياق أحكي لكم قصة عشتُها في زيارة لمدارس الخدمة بتركيا سنة 2013؛ كنت ضمن لفيف مكون من أساتذة باحثين ومشرفين على بعض المدارس الخاصة بالمغرب، ومما سجلته أن مشرفة على مدرسة خاصة بالمغرب كلما زرنا مؤسسة إلا وطرحت السؤال الحارق: كيف تتعاملون مع المشاغبين والمستهترين؟ وتكاد تكون الإجابة موحدة من طرف المشرفين على مختلف مدارس الخدمة، وكانت هذه إجابة مدير مدرسة “جُوشْكن” بإسطنبول قال فيها: إن المؤسسة التعليمية فضاء لتحرير طاقات المتعلم، وميدان للتدرب على فلسفة الحياة، ومجال لترشيد المدركات.. وعندما تقع مشكلة ما، فإن الحوار البنّاء والهادئ والهادف هو السبيل لحل المشكلات، والمنهج الأصيل في التعليم والتربية، بحيث يفتح المدرس حوارًا أخويًّا ووديًّا بينه وبين المتعلم بحضور أحد الأطراف الإدارية، وتُقدم في هذه الجلسة الحوارية كؤوس الشاي وبعض الحلوى، ولا يتوقف الحوار في هذه اللحظة بل يمتد إلى البيت والأسرة، حيث يتطوع المدرس بعد وقت الدراسة ليزور التلميذ في بيته ويتواصل مع والديه.
ومن القصص الجميلة التي سمعتها والتي تفتح باب الأمل، ما حُكي عن مواطنة أمريكية تتابع ابنتها الدراسة في مدرسة من مدارس الخدمة، وكيف أنها كانت لا تحب الرجوع إلى البيت من شدة توتر علاقتها بابنتها، ولكن بعد التحاقها بمدرسة الخدمة، لاحظت الأم تحسن معاملة البنت، وعندما سألتها عن ذلك التغيير قالت لها: الفضل يرجع إلى معلمي مدرسة الخدمة. فأصبحت الأم تتمنى أن تنتهي ساعات العمل بسرعة لترجع إلى البيت وتلتقي بابنتها.
مدارس الخدمة مدارس تعاون
في كثير من الأحيان تجد المناخ السائد داخل المؤسسات التعليمية مناخ صراع وتوتر بين الأطراف الإدارية والتربوية، غير أن المناخ السائد داخل مدارس الخدمة هو التعاون وخفض الجناح، والتواصل والبحث عن القواعد المشتركة، وإيجاد الحلول لكل المشكلات.. وقد أبدعوا لضمان هذا التعاون نظامًا أطلقوا عليه “نظام الزُّمَر”؛ فلكل تخصص زمرته ومجموعته، فللرياضيات زمرة، وللفن زمرة، وللرياضة زمرة، وللغة زمرة وهكذا دواليك.. وتكون لهم لقاءات أسبوعية خارج الدوام للتقاسم والتشارك.. وتكون لهم لقاءات شهرية على مستوى المقاطعة أو الإقليم، ودورات تكوينية مغلقة سنوية.
ومما أذكره ولا أنساه؛ كيف يتعاون كل الأطراف الإدارية والتربوية بـ”مدرسة قَهْرَمان رأفت” بمدينة بورصة، في تطوير أدائهم الديداكتيكي عبر استدماج تكنولوجيا الإعلام والتواصل في التدريس والتقويم.. ولا أنسى شرح مدير المدرسة -للوفد المغربي- كيفية الاستعمال الأمثل للحاسوب اللوحي من طرف الأساتذة والتلاميذ، هذا بالإضافة إلى تجهيز جميع القاعات بالسبورة الذكية أو السبورة التفاعلية.
وهذا التعاون يمتد إلى كل الفاعلين والمؤسسات التي تحيط بالمدرسة بشكل عمودي وأفقي.
مدارس الخدمة مدارس ذكاءات متعددة
بمجرد ما تضع قدمك اليمنى بالبهو البهيج لمدرسة “العزيزية” بمدينة “أرضروم”؛ حتى ينشرح صدرك لما تجده من نظافة ونظام، وبشاشة وابتسام، وسكينة واحترام، وجمالية وانسجام.. ولكن ما أدهشني صدقًا وحقًّا، ذلكم الكم الهائل من الجوائز والميداليات، والشهادات والنياشين التي تحصَّل عليها وفاز بها الطلاب المنتسبون إلى مدرسة “العزيزية” في مختلف المجالات والتخصصات، على المستوى المحلي أو الوطني أو الإقليمي أو الدولي.. فمن أولمبياد الرياضيات الدولية، إلى رياضة الكاراتيه، إلى لعبة الشطرنج إلى مسابقات الاختراعات في شتى العلوم، إلى بطولة اللغات والآداب شعرًا ونثرًا، رواية وقصة.
قلت ما وصلت إليه مدارس الخدمة، فاق وتجاوز ما نظر إليه “هوارد جاردينر” (Howard Gardner) من ضرورة اعتبار مفهوم الذكاءات المتعددة والتخلي عن مفهوم الذكاء التقليدي في عملية التعليم والتعلم، باعتبار الذكاء ملكة لحل المشاكل أو إنتاج أمور ذات قيمة بالنسبة لثقافة أو جماعة ما.. وقد بوّب هذه الذكاءات إلى سبعة أبواب: الذكاء اللغوي، الذكاء المنطقي الرياضي، الذكاء الفضائي، الذكاء الموسيقي، الذكاء الحركي، الذكاء التفاعلي، الذكاء الذاتي.
لقد استطاعت مدارس الخدمة أن تبني إنسان المستقبل بناءً شموليًّا تكامليًّا تجمع فيه بين الروح والعقل، بين العلم والإيمان، بين الإبداع والاتباع، بين الفكر والفعل.. كل ذلك في تناغم مع متطلبات العصر، وتوجيهات الأستاذ “فتح الله كولن” الذي يقول في كتابه “الموازين”: “مستقبل كل إنسان متعلق بما تأثر به وانطبع عليه في طفولته وشبابه من دروس التربية والسلوك، فإن كان قد قضى طفولته وشبابه في جو إيجابي يربي المشاعر العلوية؛ توقعنا كونه إنسانًا يحتذى به من الناحية الفكرية والخلقية”.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) كاتب وباحث مغربي.
الهوامش
(1) للأسف الشديد تم إغلاق المدارس المذكورة في المقال، إلى جانب أكثر من ألف مدرسة مماثلة من مدارس الخدمة في تركيا بعد الانقلاب المزعوم في 15 يوليو/تموز 2016 من قِبل الحزب الحاكم بدون أيّ مبرر قانوني، وتم طرد ما يقارب من 25 ألف معلّم يعملون في هذه المدارس من وظائفهم، وتم تشريد الطلاب إلى مدارس أخرى. (المحرر)