من آفاق الذات المحمدية صلى الله عليه وسلم

إن جلّ اهتمام كتّاب السيرة النبويـة -جزاهم الله خيراً- قد تركَّز على كمال بشريّته صلى الله عليه وسلم بجميع جوانبها المتنوعة طوال حياته المباركة. فهذه الوقائع الحياتية الكثيرة والمتعددة الجوانب التي سجّلها الصّحب الكرام رضوان الله عليهم أجمعين بأدقّ تفاصيلها، لا تمثل إلا جانباً يسيراً من كمال شخصيته المعنوية أو الروحية الذي لا يمكن لحوادث بشرية قليلة أن تعبّر عنه أو تعكسه على صفحة الوجود، فـ«أنّى لهذه الشخصية المباركة الذي كان كلُّ من جبرائيل وميكائيل مرافقَين أمينَين(1) له في غزوة بدر أن تنحصر في حالة ظاهرية أو أن تُظهرها بجلاء حادثةٌ بشرية».(2) ذلك لأنه تضاف يومياً، بل حتى الآن، وفي كل دقيقة منه، إلى صحيفة كمالاته صلى الله عليه وسلم أثوِبةٌ عظيمة وعبادةٌ خالصة بقدر ما يغنمه كل مؤمن من أمته بأكملها. وذلك في ضوء «من دلّ على الخير فله مثل أجر فاعله».(3) وكما ينال صلى الله عليه وسلم بما وهبه الله من استعداد غير متناه نفحاتِ الرحمة الإلهية غير المتناهية بشكل غير متناهٍ وبقدرةٍ غير متناهية، كذلك ينال يومياً دعاءً غير محدود ممن لا يُحدّ من أمته.
لذا ففي الوقت الذي نفكّر في حياته البشرية أو نسمع معجزاته الباهرة، يلزم أن نرفع عينَ الخيال عالياً ونتصوّر هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم الذي هو أَنبلُ نتائج الكائنات وأَكملُ ثمراتها والمبلِّغ عن خالق الكون، وحبيبُ رب العالمين وممثل الإنسانية وإمام المخلوقات جميعا، وهو يعرج السماوات العُلا ويطوف في أرجاء الملكوت. فيطلعه سبحانه وتعالى على الآيات الكبرى والآثار الجليلة واحدةً تِلو الأخرى وقد «عَلا به البُراق وقطع به المراتبَ كالبرق من دائرةٍ إلى دائرة، ومن منـزلٍ إلى منـزل، كمنازل القمر، ليُريَه ربوبيةَ أُلوهيته في السماوات، ويلتقي إخوانه الأنبياء فرداً فرداً، كلاًّ في مقامه في تلك السماوات، حتى عَرج به إلى مقام ﴿قَاب قَوْسَيْن﴾، فشرّفَه بالأحدية، بكلامه وبرؤيته؛ ليجعل ذلك العبدَ عبداً جامعاً لجميع الكمالات الإنسانية، نائلاً جميعَ التجليات الإلهية، شاهداً على جميع طبقات الكائنات، داعياً إلى سلطان الربوبية، مبلّغاً للمرضيات الإلهية، كشّافاً لطلسم الكائنات».(4)
نعم، إنه حبيب رب العالمين، فهو الذي أراه جميع أنواع تجلي محبته المبثوثة في جميع الموجودات.. فاصطفاه -وهو ثمرةٌ منوّرةٌ من شجرة الخلق- بالمعراج مُظهراً محبوبيته أمام الكائنات قاطبة «فرقاه إلى حضوره، وشرّفه برؤية جماله، وأكرَمه بأمره، وأناط به وظيفةً جعل ما عنده من حكمةٍ قدسية تسري إلى الآخرين».(5)
وبهذه النظرة الصائبة التي تتخذ من أحوال الرسول صلى الله عليه وسلم البشرية وصفاته الإنسانية أساساً ومَدخلاً للتعرف على ذاته الحقيقية وشخصيته الروحية النورانية ينجو الإنسان من النظرة القاصرة إليه صلى الله عليه وسلم . فلولاه لظلَّ الإنسان بل الكون كله هملاً ضائعاً سَقَطاً لا يلتفت إليه أحد، ولا يثير اهتمام أحد، ولظلَّ هذا المخلوق المكرم عائماً فوق سطحية نفسه الخاوية، وجدب روحه، وقَفْر عقله. فهو صلى الله عليه وسلم الذي أثار قوى الإنسان الخفية، وأعانه على اكتشاف نفسه، والعثور على جوهر إنسانيته.
وهو الذي وَسَّعَ من أفق تفكيره، وعلَّمه كيف يكون كونيَّ التفكير، يشارك الكون في أفكاره باعتباره جزءً لا يتجزأ منه، ويغوص في خفايا الوجود بعقل قوي وإرادة حيوية متأججة. وقد استطاع صلى الله عليه وسلم أن يجعل الانتشاء العقلي والروحي الإيماني هو الانتشاء الأقوى والأعمّ والأهمّ على كل الانتشاءات الجسدية والعاطفية التي كان الانسان غارقاً فيها من أخمص قدميه حتى قمة رأسه.

كيف السبيل لمعرفة شخصيته صلى الله عليه وسلم الحقيقية؟

ولكن كيف يمكن لأذهاننا أن تستوعب هذه الشخصية العظيمة التي تُعطي للكون معنى ومغزى؟ نرى الأستاذ النورسي يأخذ بأيدينا في سياحة قلبية لرؤية ملامح هذه الشخصية فيقول:
«هو الذي لعظمته المعنوية صار سطحُ الأَرض مسجدَه، ومكةُ محرابَه، والمدينة منبرَه؛ وهو إمام جميع المؤمنين يأتـمّون به صافّين خَلْفَه.. وخطيب جميع البشر يبيّن لهم دساتير سعاداتهم.. ورئيس جميع الأَنبياء يزكّيهم ويصدّقهم بجامعية دينه لأَساسات أَديانهم.. وسيد جميع الأَولياء يُرشدهم ويُربّيهم بشمس رسـالته.. وقطبٌ في مركز دائرة حلقة ذكرٍ تركّبَت من الأَنبياء والأَخيـار والصديقين والأَبرار المتَّفقين على كلمته الناطقين بها.. وشجرةٌ نورانية عروقُها الحيوية المتينة هي الأَنبياء بأَساساتهم السماوية، وأَغصانها الخَضِرة الطرية وثمراتها اللطيفة النيّرة هم الأَولياء بمعارفهم الإلهامية. فما من دعوًى يدّعيها إلاَّ ويشهدُ له جميعُ الأَنبياء مستندين بمعجزاتهم، وجميعُ الأَولياء مستندين بكراماتهم؛ فكأَنَّ على كل دعوىً من دعاويه خواتمُ جميع الكاملين، إذ بينما تراه قال: «لا إلـه إلاّ الله» وادّعى التوحيد، فإذا بنا نسـمع من الماضي والمستقبل من الصفَّين النورانيين -أَيْ شـموس البشـر ونجومها القاعدين في دائرة الذِّكر- عينَ تلك الكلمة، فيكررونها ويتفقون عليـها، مع اختلاف مسالكهم وتباين مشاربهم. فكأَنَّهم يقولون بالإجماع: «صَدَقت وبالحق نطقتَ». فأنّى لِوهمٍ أَنْ يَمدَّ يده لردِّ دعوىً تأَيّدتْ بشهادات مَنْ لا يُحَدّ من الشاهدين الذين تزكّيهم معجزاتُهم وكراماتُهم».(6)

محمد صلى الله عليه وسلم والكون

إن الأستاذ النُّورْسي يربط سيرة الرسول العطرة وحياته المادية والمعنوية بالكون كله وبالحياة بأجمعها وكيف أنه صلى الله عليه وسلم هو معنى الوجود إذ يقول: «نعم، كما أن الحياة هي خلاصة مترشحة من هذا الكون، والشعور والحس مترشحان من الحياة، فهما خلاصتها؛ والعقل مترشح من الشعور والحس، فهو خلاصة الشعور؛ والروح هي الجوهر الخالص الصافي للحياة، فهي ذاتها الثابتة المستقلة.. كذلك الحياة المحمدية -المادية والمعنوية- مترشحة من الحياة ومن روح الكون، فهي خلاصة خلاصتها؛ والرسالة المحمدية مترشحة من حسّ الكون وشعورهِ وعقلِه، فهي أصفى خلاصته؛ بل إن حيـاة محمد صلى الله عليه وسلم -المادية والمعنوية- بشهادة آثارها حياة لحياة الكون؛ والرسالة المحمدية شـعور لشعور الكون ونـور لـه؛ والوحي القرآني بشـهادة حقائقه الحيوية روح لحياة الكون وعقل لشعوره.. أجل… أجل… أجل».(7)

إنه صلى الله عليه وسلم معنى الوجود

نعم، إن نوره صلى الله عليه وسلم هو الذي يفصح عن معنى الوجود ومغزى كل حادث. فلولاه لظل كتاب الكون الرائع هذا بلا معنى ولا مغزى.
أجل، إن فخر الكائنات وخاتم الرسل صلى الله عليه وسلم هو أساس الوجود وخلاصته وخميرته، فليس هناك موضع في الكون يخلو من حقيقة نوره. فمثَله كمثل نواة بذرة شجرة باسقة تضم كل خصائص تلك الشجرة. فنوره أساس للوجود كله، ألا يقول سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ اْلإِسْلاَمُ﴾ (آل عمران: 19) واستسلمت الأرض والسماوات كلها له سبحانه ﴿فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ (فصلت: 11) أليس الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يمثل الإسلام أصدق تمثيل؟! فهو الإسلام بعينه، وهو القرآن الحي الناطق، كما وصفته أمنا عائشة رضي الله عنها عندما سئلت عن أخلاقه صلى الله عليه وسلم : «كان خلقه القرآن».(8) وأثنى عليه الرب الكريم ثناء لا يليق إلاّ به: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ (القلم: 4).
ومن هنا نرى أن الأستاذ النورسي عندما يصف نور محمد صلى الله عليه وسلم بأنه الإسلام بعينه وحقيقة الوجود بعينها، يقول: «اعلمْ أنه بينما ترى العالم كتاباً كبيراً ترى نور محمد عليه الصلاة والسلام مداد قلم الكاتب.. وبينما ترى العالَم يلبس صورةَ الشجرة ترى نورَه عليه الصلاة والسلام نواتها أولاً، وثمرتها ثانياً.. وبينما ترى العالم تحوّل إنساناً كبيراً ترى نوره عليه الصلاة والسلام عقله.. وبينما ترى العالم حديقةً مزهرةً ترى نوره عليه الصلاة والسلام عندليبه.. وبينما ترى العالم قصراً مزيَّناً عالياً ذا سرادقات تتظاهر فيها شعشعة سلطنة سلطان الأزل وخوارق حشمته، ومحاسن تجليات جماله، ونقوش خوارق صنعته، إذن ترى نوره عليه الصلاة والسلام نظّاراً يرى لنفسه أولاً، ثم ينادي بـيا أيها الناس تعالَوا إلى هذه المناظر النـزيهة، وحَيهلوا(9) على ما لَكُم فيه شيء من المحبة والحيرة والتنـزه والتقدير، والتنور والتفكر وما لا يحد من المطالب العالية. ويريها الناس، ويشاهِد ويشهَد لهم.. يتحير ويُحيِّرهم.. يُحب ويُحبِّبُ مالِكَه إليهم.. يستضيء ويُضيء لهم.. يستفيض ويفيض عليهم».(10)

معجزة المعجزات

أترانا قلنا شيئا عن هذا النبي الحبيب صلى الله عليه وسلم الذي هو كالشمس يدل على ذاته بذاته، إذ قد «أجمعت الأمة -حتى الأعداء- على أنه جامعٌ لجميع الخصال الحميدة، بل اشتهر حتى قبل البعثة النبوية بـ«محمد الأمين» لكمال أخلاقه، وقد ثبت بالتواتر المعنوي القاطع وبإجماع الأمة: أنه أجملُ الناس صورةً، وأحسنُهم سيرةً، وألطفُهم حلماً، وأزيدُهم شكراً، وأشـدُّهم تواضعاً، وأصبرُهم، وأزهـدُهـم، وأعفّهم، وأجودُهـم، وأكـرمُهم، وأرحمُهم، وأعدلُهم، وأكثرهم مروءةً ووقاراً، وأفضلُهم صَفحاً وسَداداً وأزيدُهم شفقةً على الخلق… فهو أكملُ خلاصةٍ نورانية لهذه السجايا العالية والخصال السامية وأمثالها كلها.
ونقطة الإعجاز في هذه الخصال هي: أنه على الرغم من أن الأخلاق الحميدة لا تتخالف ولا تتباين فيما بينها، فإنها تتزاحم في درجة الكمال، فلو تفوقت إحداها ضعفت الأخرى.
فاجتماعُ كمالِ الحلم مع كمالِ الشجاعة، وكمالِ التواضع مع كمالِ الشهامة، وكمالِ العدالة مع كمالِ المروءة والرحمة، ومنتهى الاقتصاد والاعتدال مع منتهى الكرم والسـخاء، وغايةِ الوقار مع منتهى الحياء، وغايةِ الرأفة مع منتهى البغض في الله، وغاية العفو والصفح مع منتهى العزة بالنفس، وغاية التوكل مع منتهى الاجتهاد والسعي… فاجتماعُ أمثال هذه الأخلاق الراقية المتزاحمة في شـخص واحد، كلٌّ في ذروتها، دفعةً واحدة، وانكشافها من دون تدافع و تزاحم هو معجزة المعجزات».(11)
نعم، ليس لنا أن نقول إلا كما قال الشاعر العظيم:
ما إن مدحتُ مُحمداً بمقالتي
لكنْ مدحت مقالتي بمحمدٍ
ونختم هـذا الكلام المقتضب بالصلاة والسلام على ذلك الحبيب المحبوب، ذي المعجزات بصلوات وسـلام تشير إلى قسم من معجزاته: على من أُنـزل عليه القرآن الحكيم من الرحمن الرحيم من العرش العظيم. على سيدنا محمد أَلفُ ألفِ صلاةٍ وسلام بعدد أنفاس أُمّته. على مَن بشّر برسالته التوراة والإنجيل والزبور والزبر. وبشّر بنبوّته الإرهاصات وهواتف الجن وكواهن البشر وانشقَّ بإشارته القمر.. سيدنا محمد أَلفُ ألفِ صلاةٍ وسلام بعدد حسنات أُمته. على من جاءت لدعوته الشجرُ، ونـزل سرعةً بدعائه المطر، وأظلَّته الغمامة من الحر، وشبع من صاعٍ من طعامه مئاتٌ من البشر، ونبع الماء من بين أصابعه ثلاث مرات كالكوثر، وأَنطقَ اللهُ لـه الضبَّ والظبي والذئب والجـذع والـذراع والجمل والجبل والحجر والمدر والشجر.. صاحب المعراج وما زاغ البصر.. سيدنا وشفيعنا محمد أَلفُ أَلفِ صلاة وسلام بعدد كل الحروف المتشكلة في الكلمات المتمثلة بإذن الرحمن في مرايا تموجات الهواء عند قراءة كل كلمة من القرآن من كل قارئ من أَول النـزول إلى آخر الزمان، واغفر لنا وارحمنا يا إلهنا بكل صلاة منها.. آمين.»(12)
_______________
الهوامش:
(1) انظر: البخاري (5/ 103) باب شهود الملائكة بدراً.
(2) المكتوبات لبديع الزمان سعيد النورسي، ص 123.
(3) مسلم، الإمارة 133؛ كشف الخفاء للعجلوني، 1/399.
(4) الكلمات للنورسي، ص 672.
(5) الكلمات للنورسي، ص 685.
(6) الكلمات للنورسي، ص 255
(7) الكلمات للنورسي، ص 119
(8) جزء من حديث عائشة رضي الله عنها. أخرجه مسلم 746 واحمد 6/54، 91، 163 وأبو داود 1342 والنسائي 3/199 .
(9) حيهلوا : اسم فعل بمعنى أقبلوا وعجّلوا وهلمّوا.
(10) المثنوي العربي النوري ص 219.
(11) شعاعات معرفة النبي صلى الله عليه وسلم .
(12) الكلمات للنورسي، ص 263.