ولننعطف الآن على الضرب الثاني من الوصل بين الفلسفة والحكمة، وهو الضرب التصاحبي، فنبين كيف مارس عليه بديع الزمان هذا النقد المثلَّث، مع العلم بأن هذا الضرب يقوم على مبادئ ثلاثة هي: “مبدأ الاندهاش” و”مبدأ الاستشكال” و”مبدأ الاستدلال”.
2.1.2. نقد التصاحب بين الفلسفة والحكمة
أ- النقد المنطقي: فبالنسبة لمبدإ الاندهاش الفلسفي، الصواب أن الفلسفة لا تصدر عن الشعور بالعجيب الخارق، وإنما عن الشعور بالغريب الشاذ؛(1) وشتان بين الشعورين، فالأول مداره على كمال الخلقة الذي في الأشياء، بينما مدار الثاني على نقص الخلقة الذي فيها؛ والدليل على ذلك أن الفلسفة لا تتأمل المألوفات، بل تحسب كل مألوف معلوما، بل إن أكثر معلوماتها مبنية على المألوف والعادي، وليس على المعجز والخارق.(2)
وأما عن مبدإ الاستشكال الفلسفي، فالصواب أنه غير مضبوط في مقاصده المتعلقة بالكائنات، فيقع في الخبط والانتشار في كل اتجاه؛ كما أنه غير مشفوع بالجواب المطلوب، فيقع صاحبه في الحيرة البالغة، بل في العذاب الشديد.(3)
وأما عن مبدإ الاستدلال الفلسفي، فالصواب أنه سلسلة من القضايا التي يتهددها الوهم على الدوام؛ فلو فرضنا أننا نريد أن ندفع عنها هذا التهديد، فحينئذ يلزم أن نستدل على كل قضية من هذه القضايا بسلسلة أخرى من القضايا يتهددها بدورها الوهم، وهكذا دواليك؛ فلا نكاد ندفع الوهم عن سلسلة حتى نجلبه إلى سلاسل من دونها بلا انقطاع.(4)
بـ- النقد الأخلاقي: لما كان الاندهاش الفلسفي في أصله استغرابا، ولم يكن أبدا استعجابا، أوقع المتفلسف في محذورَين:
أحدهما، سد طريق الاعتبار: إذا كانت الفلسفة لا تتعجب من العاديات والمألوفات، فإنها لا تمكِّن صاحبها من استخراج العِبر والعظات منها.
والثاني، فتح طريق النكران: إذا كانت الفلسفة تُلقي بغطاء الإلفة على الأشياء، فإنها تحول دون معرفة القدرة الإلهية والإقرار بأفضالها غير المتناهية.
ولما كان الاستشكال الفلسفي تساؤلا غير منضبط، أفضى إلى أمرين كلاهما حرمان هالك:
أحدهما، فقدان سر التوحيد: إن كثرة الأسئلة بدون مقاصد موجِّهة ولا أجوبة مُرْضية تدل على أن صاحبها محروم من سر التوحيد، إذ إنه لو كان متحققا بهذا السر، لدارت أسئلته على مقاصد محددة، وظفر بالأجوبة عليها ضمن هذه المقاصد التوحيدية.(5)
والثاني، فقدان الشعور بالسعادة: إذا لم يجد المتفلسف أجوبة على أسئلته المتفرقة ولا استجابة لمطالبه المتباينة، فلا بد من أن يشقى شقاء عظيما.(6)
ثم لما كان الاستدلال الفلسفي سلسلة مهددة بالوهم، أفضى إلى أمرين كلاهما شر بالغ:
أحدهما، التعلق بالأسباب دون المسبِّب: تقتصر الفلسفة في استدلالاتها على الكائنات دون المكوِّن سبحانه، أي باصطلاح بديع الزمان تأخذ بالنظر الاسميّ، لا الحرفي؛(7) يلزم على ذلك أنها تُوقِع المشتغل بها في عبادة الأسباب.(8)
والثاني، التعلق بالذات دون غيرها: كما ينظر المتفلسف من الكائنات إلى أسبابها الطبيعية، فكذلك ينظر إلى نفسه نفس النظر الاسمي؛(9) يلزم من ذلك أنه يقع في عبادة النفس.(10)
جـ- النقد الإشاري: إن مَثَل الفيلسوف القائل بالتصاحب بين الفلسفة والحكمة عند بديع الزمان كمَثَل من يسلك طريقا على وجه الأرض في صحراء شاسعة، فتأتيه الأهوال من كل جانب بين غضب البحر وتهديد العاصفة وظلمة السماء، فتصيِّره أشلاء مبعثرة على حافة الطريق، وتكون منـزلته في القرآن الحكيم منـزلة “المغضوب عليهم”.(11)
وإذا قارنا بين هذا النقد الإشاري للتصاحب والنقد الإشاري السابق للتداخل، تبيَّن أن القائل بالتصاحب أسوأ حالا من القائل بالتداخل، ذلك أن في سلوك الأول لطريق فوق الأرض، أي طريق تحت السماء -التي هي رمز الوحي- وتحت الشمس -التي هي رمز النور-، إشارةً إلى أن تحديه لربوبية الحكيم يزيد درجات عن غرور الثاني؛ فهذا لا يسلك إلا طريقا تحت الأرض، لا يرى فيه شمسا ولا سماء؛ كما أن في إلقاء البحر أشلاء الأول على جانب الطريق إشارةً إلى أن عمله أشبه بعمل فرعون، فاستحق أن يلقى نفس المصير موتا واعتبارا،(12) بينما لا نظفر من الثاني إلا بشبح، فلا يكون عبرة للناس ببدنه، وإنما بآثاره وحدها.
من ثمَّ، يصبح الفيلسوف المشائي الكبير الذي لم يرد اسمه على لسان بديع الزمان إلا قليلا، وهو: ابن رشد، معدودا عنده في زمرة المغضوب عليهم،(13) إذ كان يقول بالتصاحب بين الفلسفة والحكمة ويعمل على مقتضاه، وهو عمَلٌ فَسق به فسوقا أشبه بتمرد اليهود؛(14) ولما كان بديع الزمان قد انخدع بدهائه هو الآخر -على حد تعبيره- واعتقد الصحة في رأيه، كاد أن يتعرض هو نفسه لغضب الله لولا أن الله تجلى عليه باسمه “الرحيم”، فهداه الصراط المستقيم.
وعلى هذا، فإن العمل بمبدإ تصاحب الفلسفة والحكمة يُنتج إنسانا غير بصير ولا معتبِر ولا معترف ولا سعيد ولا ناج.
وبعد أن أنهينا الكلام عن الجانب النقدي في الموقف الانقلابي الذي اتخذه بديع الزمان من العلاقة بين الفلسفة والحكمة، نمضي إلى بيان عناصر الجانب البنائي في هذا الموقف الجديد.
2.2. انقلاب بديع الزمان والقول بالفصل بين الفلسفة والحكمة؛
يتمثل الجانب البنائي من هذا الانقلاب الفكري في كون بديع الزمان يستبعد كلا الجمعين المذكورين بين الفلسفة والحكمة -أي جمع التداخل وجمع التصاحب- ويأخذ بضده، أي يأخذ بفصل أو تفريق مخصوص بينهما، متوسلا في ذلك بآلية خطابية محددة.
1.2.2. يستبعد بديع الزمان جمع التداخل الذي يُنـزل الفلسفة
1.2.2. الفصل الاستتباعي بين الفلسفة والحكمة: يستبعد بديع الزمان جمع التداخل الذي يُنـزل الفلسفة والحكمة رتبةً واحدة ما لم تتعارضا، ويأخذ بتفريق -أو فصل- في الرتبة بينهما ولو لم تتعارضا، ممارسا آلية القلب على المبدأين اللذين يتقوَّم بهما هذا الجمع، أي “مبدإ التأسيس العقلي للنقل” و”مبدأ التوسل بالعقل في النقل”؛ ومقتضى القلب، كما هو معروف، تغيير الرتبة، فإن كان الشيء مقدَّما، صيَّره مؤخَّرا، وإن كان مؤخرا، صيّره مقدما؛ وحينئذ، يصبح المبدآن اللذان ينبني عليهما هذا الفصل هما بالذات: “مبدأ التأسيس النقلي للعقل” و “مبدأ التوسل بالنقل في العقل”؛ وبيان ذلك كما يلي:
أ- مبدأ تأسيس العقل على النقل: يذهب بديع الزمان إلى أن العقل -أي العقل الدائر بين الناس- والنقلَ -أي النقل في معناه الأعم- كليهما يحتاج إلى التأسيس، ولا يمكن أن يأتي التأسيس من هذا العقل الناقص كما لا يمكن أن يأتي من النقل العام، بل لا بد من طريق ثالث لا يكون فيه نقصان العقل ولا عموم النقل، بل يجمع إلى العقل الأكمل النقل الأخص؛ وليس هذا الطريق الثالث إلا القرآن الحكيم، ففيه من أسباب كمال العقل ما يؤهله لتأسيس العقل الدائر بين الناس، وفيه من أسباب خصوصية النقل ما يؤهله لتأسيس النقل عامة.(15)
بـ- مبدأ التوسل بالنقل في العقل: يذهب بديع الزمان إلى أن العقل -وتمثله الفلسفة البشرية خير تمثيل- لا يقدر على أن ينفع الناس وأن يحقق لهم السعادة حتى يتوسط بالنقل -ويمثله الوحي الإلهي أفضل تمثيل-؛ وبدون هذا التوسط، لا يخلو العقل من أسباب النفع والإسعاد فحسب، بل ينقلب بالضرر على الإنسان ويبلغ فيه هذا الضرر أقصاه،(16) لأنه لا مفر من أن يضل الطريق ويتعرض لغضب الله.
وبهذا، يصير النقل -ممثَّلا بحكمة القرآن- هو الأصلَ، والعقلُ -ممثَّلا بفلسفة البشر- هو الفرع متى ثبتت موافقته لما جاء به النقل؛ لذا، جاز أن نسمي التفريق -أو الفصل- في الدرجة بين الحكمة والفلسفة الذي قابل به بديع الزمان الوصل التداخلي بينهما باسم “التفريق – أو الفصل – الاستتباعي”، حيث إن الفلسفة تصبح تابعة للحكمة وخادمة لها؛(17) وهذا بالذات ما يستفاد من تمييز بديع الزمان بين الفلسفة النافعة والفلسفة الضارة في رسالة موجهة إلى طلاب الفلسفة الحديثة(18) الذين أقبلوا على رسائل النور؛ فبصرف النظر عن الاعتبارات الظرفية التي قد تدعوه إلى مثل هذا التمييز كرغبته في استمالة هؤلاء الطلاب المتفلسفة وتشجيعهم على المضي في قراءة هذه الرسائل واتقاءِ شر الخصوم، فإنه يجعل الفلسفة النافعة خادمة لحكمة القرآن كما لو كانت متفرعة عليها، نظرا لأنها “تخدم الحياة الاجتماعية البشرية، وتعين الأخلاق والمثل الإنسانية، وتمهد السبل للرقي الصناعي”.(19)
ومن شأن العمل بهذا الفصل الاستتباعي أن يُخرج لنا إنسانا راسخ الإيمان قوي الحجة ناكرا لذاته غير متعلق بالظاهر ولا تائها عن الطريق، أو قل بإيجاز إنسانا مَهديا.
2.2.2. الفصل الاستبدالي بين الفلسفة والحكمة: يستبعد بديع الزمان أيضا جمع التصاحب بين الفلسفة والحكمة، ويأخذ بتفريق -أو فصل- في النوع (أو الطبيعة) بينهما، ممارسا لآلية الاستبدال عليهما؛ ومقتضى الاستبدال هنا هو جعل الشيء بدلا من غيره، بحيث يصير البدل قائما بوظائف المُبدَل منه على أحسن وجه؛ وحينئذ، تصبح الحكمة عند بديع الزمان بديلا عن الفلسفة، ناهضة على أفضل وجه بالمبادئ الثلاثة التي تدعي الفلسفة الاختصاص بها، أي “مبدأ الاندهاش” و”مبدأ الاستشكال” و”مبدأ الاستدلال”؛ وتوضيح ذلك كما يلي:
أ- مبدأ الاندهاش: يرى بديع الزمان أن الصورة الأبلغ والأكمل لمبدإ الاندهاش تتحقق في حكمة القرآن المبين، وذلك من وجهين:
• أن القرآن يخرق ستار العادة المسدول على الأشياء في أنفسنا وفي الآفاق من حولنا، فيجعلنا نتعجب من الأسرار المودعة فيها ونكتشف ما تنطوي عليه من خوارق القدرة الإلهية وعجائبها العظيمة.
• أن القرآن كلام معجز، ومعلوم أنه لا صفة أبلغ من “الإعجاز” في إثارة الاندهاش، فما بالك إذا كان إعجازا من قبيل الإعجاز القرآني! فعندئذ، لا بد أن يبلغ اندهاش المرء نهايته.
وعلى هذا، فإذا كان التفلسف، كما قيل، يبدأ بالاندهاش، فإن الاندهاش الذي هو بداية الحكمة ليس فوقه اندهاش، حيث إنها تحظى به في تأمل إعجاز القرآن الداعي إلى منتهى الاندهاش، بما أنه هو مَجْلى اسم الحكيم من أسماء الله الحسنى؛ ومن هنا، ندرك لِمَ بدأ بديع الزمان مساره في الحكمة بالاشتعال ببيان إعجاز القرآن، عملا بالرؤية الصادقة التي رآها، وهي رؤية انفلاق الجبل المذكورة أعلاه، إذ جاءه فيها شخص عظيم بِأمر مخصوص، قائلا: “بيِّن إعجاز القرآن”.(20)
بـ- مبدأ الاستشكال: يرى بديع الزمان أن الصورة الأصح والأتم لمبدإ الاستشكال تتحقق هي الأخرى في حكمة القرآن، وذلك من وجهين هما:
• أن القرآن يحدد أفضل نطاق يمكن أن توضع فيه الأسئلة، ذلك أن السؤال لا يستقيم إلا إذا دار على مقصد مخصوص، والقرآن له مقاصد أصلية هي: “التوحيد” و”الوحي” و”الآخرة” و”الاستقامة” أو بتعبير بديع الزمان، “إثبات الصانع” و”النبوة” و”الحشر” و”العدالة”؛(21) فما من آية من آياته البينات إلا وتتعلق بمقصد واحد أو أكثر من هذه المقاصد الأربعة، بل إن الآية الواحدة، على قِصَرها، قد تشتمل عليها جميعها، نازلة بذلك منـزلة القرآن كله؛ وأما ما جاء فيه من مقاصد أخرى تتصل بالكائنات وخصائصها، فهو تابع لهذه المقاصد الأربعة وخادم لها؛ وعلى هذا، ينبغي أن تدور أسئلة الحكيم على هذه المقاصد وحدها، ولا تخرج إلى التساؤل عن الخواص الطبيعية للموجودات إلا أن يكون ذلك بغرض تبيُّن هذه المقاصد الأصلية من ورائها.
• أن القرآن يجيب على أفضل وجه عن الأسئلة الموضوعة، فقد تقدم أن هذه الأسئلة ينبغي أن تتعلق بالمقاصد الأربعة المذكورة، أي أن تكون كالتالي: “من أين؟ وبأمر من تأتون؟ مَن سلطانكم ودليلكم وخطيبكم؟ وما تصنعون؟ وإلى أين تصيرون؟”؛(22) والقرآن هو وحده القادر على إيراد الأجوبة الصحيحة على مثل هذه الأسئلة والتي تكون شفاء لما في الصدور.
جـ- مبدأ الاستدلال: يرى بديع الزمان أن الصورة الأشمل والأيقن لمبدإ الاستدلال تتحقق هي الأخرى في القياس التمثيلي الذي تأخذ به حكمة القرآن، وذلك من الوجوه الآتية:
• أن هذا القياس يفيد في إقناع كافة الناس ولا يقتصر على فئة معدودة منهم، كما أنه يتسع لفنون مختلفة ولا ينحصر في فن واحد منها،(23) نظرا لأنه يُلْبس الحقائق المخبَر بها لباس مألوفات الجمهور ومتخيلاته، ولا يكلفه إدراكَها على صورتها المجردة.(24)
• أنه يُمكِّن من تحصيل منظور تقريـبيّ لِما يجاوز طور العقل المجرد من الحقائق الإلهية وشؤون الربوبية،(25) فيكون أقدر من هذا العقل.
• أنه يؤمِّن طاعة الخيال للعقل، فيحُدُّ من تشكيكاته وتهويماته التي تتهدد عادة استدلالاته غير التمثيلية،(26) فيكون أقوى من هذه الاستدلالات.
• أنه يجمع بين الطريقين الإدراكيين المتقابلين للإنسان، وهما: طريق العقل وطريق الوجدان،(27) فيكون استدلالا متكاملا.
• أنه يُثبِت قانونا كليا بإظهار حالة خاصة منه في صورة مثال جزئي؛(28) ومعنى هذا أن المثال عند بديع الزمان ليس مجرد شيء مشابه للشيء المُمَثَّل، بل يحكمه نفس القانون الذي يحكم هذا الشيء، بحيث يكون التمثيل عنده أقرب إلى الاستقراء منه إلى الاستنباط (أو القياس الجامع).(29)
ومما تقدم، يتبين أن الحكمة لا يمكن أن تجتمع مع الفلسفة، لأن الخير والحق يصيران كلَّهما في جانب الحكمة والشرَّ والباطلَ يصيران كلَّهما في جانب الفلسفة، فتكونان متباينتين تباين النوعين؛ لذا، صح أن نسمي هذا الفصل النوعي بينهما باسم “الفصل الاستبدالي”،(30) إذ تصبح الحكمة البديل الذي لا غنى عنه.
ومن شأن العمل بهذا الفصل الثاني أن يُخرج لنا إنسانا متبصرا ومعتبرا ومعترفا وسعيدا وناجيا، أو قل إنسانا مَرْضيا عليه.
وإذا اجتمعت للإنسان الهداية والرضى، كان إنسانا منعَما عليه؛ فإذن الحكيم الذي يختص بكونه يجعل الحكمة تسود الفلسفة، بل يجعلها تستغني كليا عن خدمة الفلسفة يكون حقّا من أولئك الذين أنعم الله عليهم.
وخلاصة القول من هذا التحليل لموقف بديع الزمان من العلاقة بين الفلسفة والحكمة هي أن بديع الزمان انقلب من حال الفيلسوف الذي يوافق فلاسفة الإسلام في القول بالوصل بين الفلسفة والحكمة، إما وصْل تداخل يجلب الضلالة أو وصْل تصاحب يجلب غضب الله، إلى حال الحكيم الذي يقول بضرورة الفصل بينهما، إما فصلا استتباعيا يجلب الهداية، فتكون الفلسفة في خدمة الحكمة، أو فصلا استبداليا يجلب رضى الله، فتكون الحكمة بديلا عن الفلسفة.
وواضح أن هذا الانقلاب انقلاب “كوبيرنيكي” بحق؛ فبعد أن كانت الفلسفة تُعَدّ موصولة بالحكمة، صارت تُعَدّ مفصولة عنها؛ وبعد أن كانت الفلسفة تستتبع الحكمة في حالة الاختلاف بينهما، أصبحت الحكمة هي التي تستتبع الفلسفة في حالة الاتفاق بينهما؛ وبعد أن كانت الفلسفة تضاهي الحكمة وجودا، أضحت لا تضاهيها في هذا الوجود، بل أضحت تفقده بوجود الحكمة.
وحينئذ، لا نستغرب أن يلح بديع الزمان أيما إلحاح على وجود طورين متضادين في حياته: سعيد القديم وسعيد الجديد؛ ولذا، نعتقد أن العناصر التي تفرِّق بين هذين الطورين ينبغي البحث عنها في الموقفين المتعارضين اللذين وقفهما من العلاقة بين الفلسفة والحكمة، بحيث يكون الوصل بينهما هو المعيارَ الذي نحدد به فكر سعيد القديم ويكون الفصل بينهما هو المعيار الذي نحدد به فكر سعيد الجديد.
لكن هذا الانقلاب “الكوبيرنيكي” هو نقيض للانقلاب “الكوبيرنيكي” الذي قام به “كانط”؛ فإذا كان “كانط” قد جعل الحكمة تابعة للفلسفة في حال اتفاقهما، فإن بديع الزمان، على العكس من ذلك، يجعل الفلسفة تابعة للحكمة في الحال ذاته؛ وإذا كان “كانط” قد جعل الفلسفة بديلا عن الحكمة في حال تعارضهما، فإن بديع الزمان، على العكس من ذلك، يجعل الحكمة بديلا عن الفلسفة في الحال ذاته.
ومن هنا، يظهر جليّا أن البعد الذي يكتسبه إنتاج بديع الزمان لا ينحصر في تركيا حيث آثار الفلسفة “الكانطية” قد فعلت فعلها وبدَّلت قِيَم أهلها تبديلا، ولا هو ينحصر في الأمة الإسلامية التي تفككت أوصالها وفقدت وِجهتها، وإنما يتعدى ذلك إلى العالم بأسْره لِيُنقذ الإنسان، خاصِيَّه وعامِيَّه، من سلطان فكر فلسفي أضرَّ بوجوده في هذا العالم؛ ومن كان هذا عمله، فما أجدر به أن يُعدَّ في حكماء العالم الذين رفعوا همة الإنسان إلى الاضطلاع بأمور روحه كاضطلاعه بأمور جسمه، ومهّدوا الطريق إلى تجديده، فاستوى إنسانا آخر في عالم آخر.
________________
الهوامش:
(1) “إن الفلسفة التي توصَّل إليها الإنسان تحجب معجزات القدرة الإلهية وخوارق رحمته تعالى بستار العادات، فلا ترى دلائل الوحدانية المضمرة تحت تلك العاديات وتلك النعم الجليلة، ولا تبينها ولا تدل عليها، بينما إذا ما رأت ما هو خارج عن العادة من جزئيات خاصة، تتوجه إليه وتهتمّ به”، الملاحق، ص 358.
(2) يقول: “أما حكمة الفلسفة، فهي تخفي جميع معجزات القدرة الإلهية وتسترها تحت غطاء الإلفة والعادة”، الكلمات، ص 150.
(3) يقول: “إذا تخبط ذلك العقل في وحل الضلالة والكفر، فإنه يصبح آلة تعذيب ووسيلة إزعاج، بما يجمع من آلام الماضي الحزينة ومخاوف المستقبل الرهيبة”، الشعاعات، ص 19.
(4) يقول: “إن الفرق بين طريقِي في “قطرة” المستفادة من القرآن وطريق أهل النظر والفلاسفة هو أني أحفر أينما كنت، فيخرج الماء؛ وهم تشبثوا بوضع ميازيب وأنابيب لمجيء الماء من طرف العالم ويُسلسلون سلاسل وسلالم إلى ما فوق العرش لجلب ماء الحياة، فيلزم عليهم بسبب قبول السبب وضع ملايين من حفظة البراهين في تلك الطريق الطويلة لحفظها من تخريب شياطين الأوهام”، المثنوي العربي النوري، ص 170.
(5) يقول: “وبسر التوحيد […]، ينكشف السر المغلق للأسئلة المحيرة: من أين يأتي سيل الموجودات وقافلة المخلوقات؟ وإلى أين المصير؟ ولم جاء؟ وماذا يعمل؟…”، الشعاعات، ص 14.
(6) “فلولا التوحيد لأصبح الإنسان أشقى المخلوقات وأدنى الموجودات وأضعف الحيوانات وأشد ذوي المشاعر حزنا وأكثرهم عذابا وألما.”، الشعاعات، ص 18.
(7) يقول: “فالنظرة القرآنية إلى الموجودات تجعل الموجودات حروفا، أي إنها تعبر عن معنى في غيرها، بمعنى أنها تعبر عن تجليات الأسماء الحسنى والصفات الجليلة للخالق العظيم المتجلية في الموجودات؛ أما نظرة الفلسفة -المادية- الميّتة فتنظر في الأغلب بالنظر الاسمي إلى الموجودات، فتزل قدمها إلى مستنقع الطبيعة.”، الملاحق، ص 90.
(8) “أما الفلسفة، فإنما تنظر من الموجودات إلى وجوهها الناظرة إلى أنفسها وأسبابها”، المثنوي العربي النوري، ص 77.
(9) الكلمات، ص 646.
(10) “إن أهل الضلالة في هذا العصر قد امتطوا “أنا”، فهو يجوب بهم في وديان الضلالة؛ فأهل الحق لا يستطيعون خدمة الحق إلا بترك “أنا”، وحتى لو كانوا على حق وصواب في استعمالهم “أنا”، فعليهم تركه، لئلا يشبهوا أولئك، إذ يكونون موضع ظنهم أنهم مثلهم يعبدون النفس”، المكتوبات، ص 549.
(11) “والطريق الثاني المشار إليه بـ ﴿الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾، فهو مسلك عبدة الأسباب والذين يحيلون الخلق والإيجاد إلى الوسائط ويسندون إليها التأثير، ويريدون بلوغ حقيقة الحقائق ومعرفة واجب الوجود جل جلاله عن طريق العقل والفكر وحده كالحكماء المشائين”، الكلمات، ص 650.
(12) وذلك مصداقا للآية الكريمة: ﴿فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ﴾ (يونس: 92).
(13) تحاشى بديع الزمان أن يذكر ابن رشد باسمه -على خلاف ما فعل مع الفارابي وابن سينا- ولكنه نبه عليه بالصفة التي اشتهر بها، وهي “المشائي”، إذ هو شارح “أرسطو” الأكبر؛ ولا نريد أن نخوض هنا في الأسباب التي تكون قد دعته إلى هذا التكتم، وإنما يكفي أن نقول بأنه يجوز أن يفعل ذلك، إشفاقا عليه ورفقا بأتباعه المعاصرين.
(14) إشارات الإعجاز، ص 36.
(15) يقول: “القرآن المبين أسمى وأغنى من أن يفتقر إلى تزكية العقل والنقل اللذين ألقيا إليه المقاليد، لأنه إن لم يزكهما، فشهادتهما لا تُسمَع”، صيقل الإسلام، ص 36.
(16) يقول: “فمتى استجارت الفلسفة بالدين وانقادت إليه وأصبحت في طاعته، انتعشت الإنسانية بالسعادة وعاشت حياة اجتماعية هنيئة؛ ومتى انفرجت الشقة بينهما وافترقتا، احتشد النور والخير كله حول سلسلة النبوة والدين وتجمعت الشرور والضلالات كلها حول سلسلة الفلسفة”، الكلمات، ص 639.
(17) لِتلاحظ أن الفصل الاستتباعي بين الحكمة والفلسفة، لما كان فصلا في الدرجة فحسب، جاز أن تجتمع فيه الحكمة والفلسفة اجتماع التابع مع المتبوع، بحيث يكون وضعه المنطقي أشبه بوضع ما يُسمى بـ”رابط الفصل الجامع”، وهو الفصل الذي يمكن أن يصدق فيه الطرفان المفصولان معا؛ ولا ينفع الاعتراض بأنه نوع من الوصل التداخلي، ذلك لأنه لا يشارك هذا الوصل إلا في هذه الحال من حالات الصدق، ويختلف عنه في إمكان أن يصدق بصدق أحد المفصولين دون الآخر، أو قل بإيجاز إن الجمع الذي يكون مع تخيير ليس كالجمع الذي لا تخيير معه.
(18) يرى بديع الزمان أن الفلسفة الحديثة أقل ضررا من الفلسفة القديمة، لأنها أكثر منها أخذا بأسباب العقل والنقد والعلم؛ انظر صيقل الإسلام، ص 41، وأيضا ص 35-36.
(19) الملاحق، ص 286-287.
(20) المكتوبات، ص 475؛ الملاحق، ص 183.
(21) إشارات الإعجاز، ص 24؛ صيقل الإسلام، ص 120.
(22) صيقل الإسلام، ص 29؛ وأيضا، إشارات الإعجاز، ص 23.
(23) صيقل الإسلام، ص 320.
(24) صيقل الإسلام، ص 59.
(25) المكتوبات، ص 376.
(26) يقول: “ولقد أكثر القرآن الكريم من التمثيلات إلى أن بلغت الألف، لأن في التمثيل سرا لطيفا وحكمة عالية، إذ به يصير الوهم مغلوبا للعقل والخيال مجبورا للانقياد للفكر…”، إشارات الإعجاز، ص 113.
(27) إشارات الإعجاز، ص 126.
(28) الكلمات، ص 735-736.
(29) معلوم أن فقهاء العلم اختلفوا كثيرا في تحديد البنية المنطقية لقياس التمثيل، فبعضهم جعلها بنية مستقلة وبعضهم جعلها أشبه ببنية الاستقراء في حين جعلها غيرهم أشبه ببنية الاستنباط، ورأينا أنها بنية كبرى مركبة من بنيتين فرعيتين: بنية استقرائية وبنية استنباطية، انظر التفاصيل في كتابنا: تجديد المنهج في تقويم التراث، المركز الثقافي العربي، بيروت، ص 65-66.
(30) لِتلاحظ أن الوضع المنطقي للفصل الاستبدالي أشبه بوضع ما يُسمى بـ “رابط الفصل المانع” (أو “الفصل الاستبعادي”)، ومعلوم أن هذا الرابط لا يصدق إلا بصدق أحد المفصولين دون الآخر.