شباب أطهار، ذوو قلوب فتية نابضة بالإيمان، وإرادات شمّاء، وعزائم لا تعرف المستحيل، يقود خطاهم إلى فجاج الأرض شوق مُبَرِّح، ويلهّب حماسهم فكر دعويّ إبداعي، ورؤية فيّاضة بالوضوح، وحدّة في البصر والبصيرة… أخذوا كتاب الله بقوة، وضَمّوه إلى صدورهم وكأنه عليهم يتنـزَّل، وإياهم يخاطب، يحرصون عليه حرصهم على ماء عيونهم، ويرومون إيصال رسالته إلى أيِّ إنسان في أيِّ مكان من العالم، حتّى لو خاضوا إليه أشدّ البحار نأياً واستيحاشاً، أو جابوا إليه قرارة الكون، أو غاصوا إليه طبقات الأرض، أو اعتلوا إليه أطباق السماء… معهم مدرسة ينشئونها، وكتاب يدرسونه ويدرِّسونه، وقلَم يُعَلِّمون به ويتعلمون منه. إذا ما رأيتهم في حومة الفكر أو العمل، وهم يشفون عن روح مشرق، وقلب وَضَّاء، وفكر خصب.. لك أنْ تتساءل: أهم أَنْداء سماوية منهلَّة على عطش الأرض، وجَدب الحياة؛ أم هم جنس إنساني جديد غير هذا الجنس، انشقت عنهم أرض غير هذه الأرض؛ أم قذفتْ بهم أمواج الغيب على ضفاف الدنيا لكي يشاركوا في إصلاحها قبل أن تطيش وينقلب عالِيها سافلها.
أما البؤساء المثقلون بالآلام والدموع والدماء فهم يرقبونهم من بعيد، رافعين نحوهم أذرُع الضراعة، ومعبرين عن شوقهم للقياهم ومنتظرين يدهم الآسية، وروحهم المواسية، وقلبهم المعَزِّي، ونداهم الهابط على القلب القاحل، والنفس اليابسة، والذهن الناشف. إنهم طاقة إيمانية كبرى أحسبها لو سلطت على جبل لجعلَتْه دكًّا ولخرَّ صَعِقاً.
إنهم إبداعيون ابتكاريون، غير تقليديين، قادرون على تجديد فكرهم الدعويّ بين يوم وآخر، وفي ذهنهم دائماً السؤال الملحّ: هل من المحتمل أنه على الرغم من كل التجارب الدعوية التي عرفناها وعرفها الدعاة منذ قرنَين من الزمن فإننا ما نزال نعاني من السطحية والضبابية في الفهم والعمل؟! وهل من المحتمل أننا قد أخطأنا فهم تاريخ العمل الدعوي وقصرناه على أنماط تقليدية واحدة ولم نحاول التجديد فيها، وهذا هو الذي يسبب لنا اليوم الكثير من الإحباط؟! أجل إنَّ ذلك قد يكون محتملاً.
وكما يضرب هؤلاء الفتية في الأرض -كُلِّ الأرض- لا يَصُدُّهم شيءٌ، ولا يحول بينهم وبين مبتغاهم حائل، فإنهم يضربون كذلك في “النفس البشرية” وينطلقون وراء أشدّ تخوم النفس ظلمةً، وأكثرها رعباً واستعصاءً، حيث تتصارع في الأعماق مئات من الـ “أنا” ليصالحوا بينها، وينشروا الأمن والسلام في أرجائها، ويسلكوا بها نحو “المعرفة القرآنية” التي تسوّي جميع صراعات الإنسان مع نفسه ومع الكون ومع الله تعالى.
إنّه الإصلاح العقلي والروحي الذي ينشده هؤلاء الفتية لأنفسهم وللآخرين، وهم في الوقت نفسه يبشرون بطريقة جديدة للحياة يتعاون فيها “العقل القرآني” -إذا صَحَّ التعبير- مع جِدَّة التجربة، وشدّة المعاناة التي تنجي الإنسان من السطحية والتفاهة، وتشعره بقدسية الحياة من حيث كونها مرآة واسعة تعكس المفهوم القرآني في إعجازيتها وكونها آية من آيات الخلق والإيجاد.
والداعية من هؤلاء الفتية سهل هيّن ليّن، لا يبني حول نفسه جداراً عقلياً أو نفسياً، ولا يحيط نفسه بهالة فخمة لا يستطيع الآخرون أن ينفذوا منها إليه، بل هو على استعداد دائم لقبول الآخرين والاستماع لآرائهم والإفادة من تجاربهم بكل صدق وحميمية، وهذا هو الجانب الأخلاقي المطلوب من كل داعية يتصدى للدعوة إلى الله.