لو لم يتم تحويل أجساد موتى الإنسان والحيوان والنباتات التي على سطح الكرة الأرضية وإعادتُها إلى التربة ولو لعدة سنوات فقط -بَلْهَ المدة المديدة- وبقيت كما هي؛ ماذا كان يحدث؟!
حكمة تحلل الأجساد بعد الموت
إذن لامْتلأ سطح الأرض بالمخلَّفات والقاذورات، ولما وجد بنو البشر مكانا حتى للسير عليها، ولغُطِّيَت الساحات الزراعية بالكامل بالأنقاض، ولما بقيت تربة للزراعة، ولهلكنا من الجوع. في الواقع إن تنظيف الكرة الأرضية من بقايا النباتات والحيوانات وموتى البشر، وإعادتها إلى تربة، وتغذية النباتات وتسميدها بها من جديد، لَتُعتبر من أهم الأحداث وأخطرها.
إذن كيف تم تحقيق هذه الأعمال الخارقة واستمرارها بدون أي تقصير لمئات السنين، أمام أعيننا جميعًا؟!
إن ربنا صاحبَ العلم والقدرة اللامتناهية قد أعدّ الأرض لكل مخلوقاته -وفي مقدمتها الإنسان- لتصبح مكانًا تستطيع أن تعيش عليه… وبناء على ذلك نظم آليات تنظيف هذه المنظومة الكونية؛ حيث تقوم مخلوقاتٌ بوظيفة حماية وجه الكرة الأرضية من أن تتحول إلى مزبلة وكأنها أجهزة تصفية وتنقية، وذلك بتجلٍّ لاسم الله “القدُّوس”.
تُرى كم يتطلب تنظيف منـزلنا الصغير وحارتنا المحدودة من الجهد والمال للحفاظ عليهما نظيفة كل يوم وكل ساعة؟ إن البلديات تقوم بجهود ومصاريف باهظة من أجل تنظيف شوارعنا. فالنظافة أمر صعب، وسيّدات البيوت يعرفن تمامًا كم تستغرق عملية التنظيف من الجهد يوميًّا، وكم هي عملية مرهقة. نحن والبلديات نترك الفضلات التي نجمعها في أماكن محدَّدة فقط، وحتى إنه لا يخطر على بالنا ماذا يحدث لها هنالك. كل ما نفعله؛ هو أن نتركها ونعود أدراجنا.. هذه الجبال من القمامة، تُرى كيف تُحوَّل إلى تُراب؟ ومن ينظف لنا ما وسّخناه، ويقدمه لنا من جديد نظيفا ونقيّا؟ وكيف يحقِّق ذلك؟ هذا بالإضافة إلى أنه لا يَطلب أيّ أجر مقابل ذلك؟
الكائنات المجهرية ودورها في التنظيف
فمِن أجل تقديم إجابة على هذه الأسئلة وأمثالها، يجب التعرف على عالم المُتعَضِّيات المجهرية أي الكائنات الدقيقة. إن الكائنات الدقيقة هي كائنات حيَّة متناهية الصغر، لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة؛ ولكن بعد اكتشاف الميكروسكوب (المجهر) أمكن التعرف على هذه الأحياء الصغيرة، وتمكّن عالم الإنسانية من اكتساب بعضٍ من المعارف عن تلك المخلوقات الصغيرة جدًّا خلال 150 سنة الأخيرة. وقبل هذا التاريخ لم يكن البشر على دراية أو علم بأنهم يتعايشون مع تلك الأحياء الدقيقة التي لا تُرى بالعين المجردة. إن مجموع الكثافة العددية لهذه المخلوقات التي لا تُرى بالعين المجردة تزيد عن مجموع كثافة البشر والحيوانات التي على وجه الكرة الأرضية بخمس وعشرين مرة. فكان الإنسان يرى أصناف الحيوانات التي تشغل جزءً قليلا من الأرض، ولكنه كان غافلا عن هذا الكم الهائل من الكائنات المجهرية الدقيقة.
وكما توجد آلاف الأصناف من الفيلة والحمام والأرانب والحيتان والنمل في عالم الحيوانات، فكذلك هناك أنواع كثيرة جدًّا من الكائنات المجهرية الدقيقة.
ويمكن دراسة الكائنات المجهرية الدقيقة تحت أربعة أنواع رئيسة: 1-البكتريات، 2-الفيروسات، 3-الفطريات، 4-الحيوانات الطفيلية ذات الخلية الواحدة أو المتعددة الخلايا.
إن الكائنات المجهرية الدقيقة موجودة في كل مكان؛ فهي تعيش في التربة والماء وعلى النباتات وعلى أجساد الحيوانات. وتحمِلها التيارات الهوائية مِن على سطح الأرض إلى الطبقات العليا من الجو ومن قارة إلى أخرى. وفي ملعقة واحدة من التراب توجد الملايين من البكتريا. كما أن الحيوانات وبني البشر يحملون الكثير جدًّا من الكائنات المجهرية الدقيقة؛ ففي مقابل كل عشرة تريليونات من الخلايا في الإنسان توجد مائة تريليون من الكائنات الدقيقة، بحيث إن كل خلية بشرية يقابلها عشر من الكائنات المجهرية.
إن الكائنات المجهرية الدقيقة غير مرغوبة أو محبوبة، لأن بني البشر يتذكرونها ويقْرِنونها دائماً بالأمراض والأوبئة القاتلة التي أَحْدَثتها طوال التاريخ. بينما الواقع؛ أن الغالبية العظمى من الكائنات الحيَّة الدقيقة لا علاقة لها ألبتّة بالأمراض. ففي مقابل الآلاف من البكتريا، فإن قسما ضئيلا جدًّا من هذه الكائنات المجهرية الدقيقة هي التي تضر بالإنسان. فالقسم الذي يسبب المرض للإنسان من هذه الكائنات الدقيقة كلها ربما لا يمثل واحدًّا في المليار من بين كل هذه المتعضيات المجهرية. ففي حالة مراعاة البشر لقواعد النظافة وتطبيقها؛ فإن هذه الكائنات الدقيقة -وحتى التي تُحدث الأمراض-، ستسهم في الحفاظ على التوازن الطبيعي بدلاً من أن تُحدث المرض. وليست الكائنات المجهرية الدقيقة هي السبب في الأمراض بل السبب هو الإنسان الذي لا يراعي أو يهتمّ بالنظافة.
علاوة على ذلك لو سلّمنا أن الكائنات المجهرية الدقيقة هي السبب في المرض، فالمضادات الحيوية التي تستخدم في علاج الأمراض هي أيضًا مستخلصة من الكائنات الدقيقة؛ فالقدرة التي أوجدت المرض وضعت الدواء في ثنايا الداء. أما الكائنات المجهرية الدقيقة التي تلعب دروًا مهمًّا في صناعة العديد من موادنا الغذائية اعتبارًا من الزبادي إلى الأجبان والخبز وحتى الخل فهي عالم آخر. ولهذا السبب، فعند تقييم المخلوقات يجب أن نُقيِّمها ليس من زاوية واحدة، بل في نطاق الوظائف الكليَّة الموجودة في النظام البيئي بشكل عام.
إن الله قد منح الكائنات المجهرية دور المفتاح من أجل استمرار الحياة على الأرض. ولدى مقارنتها بالكائنات الحيَّة الأخرى فإنها تحتلّ المقام الأول في المحافظة على التوازن البيئي بوظيفتها الحيوية، رغم حرمانها من ميّزات عدة مثل العقل والشعور والمخ والنظام العصبي.
فمن أجل تغذية النباتات وتسميدها تُستخدم المخلفات الحيوانية والزراعية، ولكن هذه المخلفات هي جزيئات عضوية يجب أن تحول وتفتت إلى جزيئاتها اللاعضوية، أي إلى حالتها الأصلية. وإذا لم يحدث ذلك، فإن جذور النباتات لا تستطيع أن تمتص هذه الذرات. فالكائنات المجهرية هي التي تنفّذ عملية تحويل موتى الحيوانات والنباتات إلى تراب بحيث يمكن للنباتات أن تمتصها.
ولا بد لتحويل كل عنصر كيميائي مِن عناصرِ ذوات الروح الميِّتة، وتغييرها إلى حالة لاعضوية في التربة، من صنف خاص من الكائنات المجهرية. ولكي يقوم كل عنصر في التربة بتقديم خدمة للنبات، فإن المشاركة بين الكائنات المجهرية المتنوعة أمر ضروري لا يمكن الاستغناء عنه لاستمرار الحياة. والحقيقة أن هذه العمليات هي أكثر تعقيدًا من العمليات التي تجري أثناء الإنتاج في مصنع للسيارات.
الكائنات المجهرية وتوازن الكربون
إن الكائنات المجهرية الدقيقة المختلفة الأنواع مكلِّفة بوظائف في عملية تحويل كل عنصر من عناصر الفوسفور والحديد والزنك وكل عنصر من العناصر الأخرى إلى أشكال لاعضوية. إن ما يربو على80 نوعا من العناصر توجد في الأحياء في حالة مركبات عضوية، فتفتيت كل عنصر من هذه العناصر من قبل مجموعة مختلفة من الكائنات المجهرية الدقيقة، وتقديمها لعالم الأحياء لهو تنظيم مُحَيِّر ومدهش.
إن كلا منا مُحاط من الداخل ومن الخارج بكائنات مجهرية دقيقة لا تُحصى ولا تُعد، تجعل الحياة تستمر بشكل مشترك وتتغير بشكل مطرد ومتوازن معنا ومع بعضها البعض.
وعندما اكتشف سنة 1850 أن الكائنات المجهرية الدقيقة كانت سببًا في أمراض مُهلكة ومعدية، أعلن الإنسان عداوته الضارية لهذه المخلوقات الدقيقة. وفي الحقيقة لم تكن هذه الكائنات هي المذنبة بل كان الإنسان هو المدان. فخلال الحرب التي بدأها القادة الظلَمة الذين لا يقيمون وزنًا أو حقًّا للإنسان والإنسانية بسبب أنانيتهم الذاتية، ولعدم اهتمام الكتل العسكرية بالنظافة، والاستخدام الأخرق لِمصادر ومواد الغذاء في الدول الفقيرة من قبل الدول الأخرى، وعدم إعطاء العناية الكافية لنظافة البيئة وأجسام البشر… بسبب هذه العوامل كلها أصيبت البشرية بأوبئة الفتاكة التي أودت بحياة ثلُث سكّان القارات طوال التاريخ.
لو استطعنا نحن كعقلاء أن نستوعب الحكمة من خلق هذه الكائنات الحيَّة؛ ولو بذلنا جهودنا من أجل منع تطور الأوساط المسببة للأوبئة الفتاكة؛ ولو فكّرنا أن المضادات الحيوية التي تستعمل لبعض الأمراض التي تظهر من حين لآخر إنما هي من الكائنات المجهرية الدقيقة أيضًا، وأننا إنما نأكل أغذيتنا بدءً من الخبز حتى الأجبان بواسطة الكائنات الدقيقة التي يُسمى جزء منها الخميرة؛ والأهم من كل ذلك لو استطعنا أن نُمْعن النظر والتفكير في كمون هذه الكائنات الحيَّة التي لا تُرى بالعين المجردة تحت هذا التوازن البديع المتكامل… لو فكَّرنا في ذلك كله لأمكننا أن ندرك الرحمة والشفقة التي أولانا إياها ربنا صاحبُ القدرة اللانهائية.
إن الكائنات المجهرية الدقيقة التي تجعل وجه هذه الأرض الشاسعة لامعةً ناصعة، والتي تستحق أن تسمّى “عمالقة النظافة” بما تقوم به من أعمال… لَتُظهر حكمة الخلق الباهرة ونظام الكون المتكامل العجيب، وتجليات اسم الله “القدوس” التي تشمل كل الوجود.
_______________
(*) الترجمة عن التركية: أ.د. الصفصافي أحمد القطوري.