بين المشاعر والشعائر: سلام الإيمان

قيم مؤسسة على الإيمان هي قيم مطلقة في نفس من يؤمن بها كيفما كان ذلك الإيمان، وعن أي مصدر صدر. والقيم والمبادئ التي جاء بها الإسلام مطلقة في وجدان من يؤمن به صلاحية وفاعلية، سواء اتصلت بأحد جوانب الحياة الإنسانية كالجانب النفسي أو الأسري أو الاجتماعي أو الدولي، أو كانت مبادئ وقيما عامة تشمل هذه المستويات كلها كمبدأ السلام.
من هنا نرى أهمية فهم المدخل الإسلامي لفكرة السلام من خلال أصالة المبدأ في التصور الإسلامي، كما في تجليات الإيمان ومستويات السلام الذي يحققه في حياة الفرد والجماعة، استمدادا من مصدر ذلك الإيمان المطلق، بدءً من مستوى الشعار وصولا إلى منـزلة الشعائر، فضلا عن اكتنافه مشاعر الإنسان المؤمن الذي تحصل له السكينة والأمان، وينعم في جوانحه بمعاني السلام الدائم المتجدد.

السلام شعارا للإسلام

إن الآصرة الوثقى للسلام بالإسلام تبدأ من مستوى الشعار، أي اسم هذا الدين نفسه. فكلمة الإسلام، وهي اسم الرسالة الموحى به من الله تعالى في القرآن الكريم: ﴿ وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾(المائدة:3) مشتق من المادة اللغوية “سلم” التي ترد بمعان ثلاث: أولها، معنى الخلوص والتعري من الآفات الظاهرة أو الباطنة؛ وثانيها، معنى الصلح والأمان؛ وثالثها، معنى الطاعة والإذعان.
فترى أن أحد معاني المادة اللغوية للإسلام هو الصلح والأمان، بل إن معاجم اللغة ومصادرها تبين أن كلمة “السلم” قد ترِد بمعنى الإسلام. وإذا علمنا وثوق صلة الاسم في اللغة بالمعنى بَانَ أنّ شعار الإسلام نفسَه، وعنوانَه الذي يدل عليه، هو الصلح والأمان الذي جاءت به الرسالة ودعت إليه ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾(البقرة:208).
ويتأكد ذلك الارتباط مع كل عناصر عقيدة المسلم؛ فمن أسماء الله تبارك وتعالى “السلام” ﴿هُوَ اللهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ﴾(الحشر: 23)؛ والجنة التي وعد بها المؤمنون، والتي يتطلعون إليها هي “دار السلام” ﴿لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾(الأنعام: 127)؛ وتحية المسلمين في الدنيا والآخرة “السلام” ﴿تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ﴾(إبراهيم:23)؛ وكتاب الله تعالى نزل في ليلة كلها سلام، ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾(القدر:1) ﴿سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾(القدر:5).
وقد كتَب بعض مفكري المسلمين في هذا العصر عن كلمة “السلام” في حياة المسلم وبيّنوا أنها أحد أكثر ما يتردد من كلمات العالم في كل يوم بفضل رسالة الإسلام، وكونها جزءً من عبادة المسلم (الصلاة، الحج) وعلاقته بمن حوله من الناس (التحية).. أوَليس السلام إذن هو شعار الإسلام الأول؟!

السلام النفسي في الإسلام

يرى كثير من علماء الاجتماع والسياسة أن الإنسان هو منطلق العالم نحو السلام، وأن سلام العالم إنما يبدأ من النفس الإنسانية؛ فإذا عاشت هذه النفس سلاما داخليا، أثمر ذلك سيادة معاني السلام في حياة الجماعة والدولة والإنسانية جمعاء، وإذا افتقدته عزّ على العالم أن يدرك هذه الغاية أو يلمس آثارها.
من هنا يُدرك كيف أن كثيرا من المجتمعات ماضيا وحاضرا فقَدت معاني السلام في حياتها، رغم كل المبادئ المعلنة والقوانين المسطرة والشعارات المرفوعة؛ إذ تظل هذه المعاني بعيدة في غياب شروط السلام الداخلي للإنسان وأسبابه. ولهذا ينطلق التصور الإسلامي للسلام الشامل من السلام النفسيّ؛ فالإنسان الحائر المضطرب، الفاقد معاني السكينة والاطمئنان الروحي هو أبعد ما يكون عن إقامة مبادئ السلام في الحياة.
ويقوم مفهوم السلام النفسي في الإسلام على جملة مبادئ عقدية وشعائر تعبدية وقيم أخلاقية، جاءت بها الرسالة، تبلغ في مجموعها النفس الإنسانية منـزلة الأمن والسلام، وتعصمها من الاضطراب والتناقض، وذلك من خلال منظومة قيم الإسلام وأحكامه عامة، ومقتضيات العقيدة والعبادة خاصة.

العقيدة مصدرا للسلام

إن الأساس الذي تقوم عليه عقيدة الإسلام وشريعته وسائر أحكامه هو الإيمان بالله وما يترتب عنه من التوكل عليه واللوذ به والإنابة إليه والاعتصام بحبله والتسليم له والأنس به ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾(الرعد: 28) بكل ما يحمله الإيمان من معاني التسليم لله بقضائه والانقياد لقدره والاعتقاد في أثرهما على مسار الحياة. فالإنسان الذي يظفر بالإيمان الحقيقي يستطيع أن يتحدّى الكائناتِ ويتخلّصَ من ضيق الحوادثِ، مستندًا إلى قوةِ إيمانه فَيبحرُ متفرجًا على سفينة الحياة في خضم أمواج الأحداث العاتية بكمال الأمان والسلام. وهو أمر يدفع الإنسان إلى العمل والسعي والاجتهاد موقنا بأن قدر الله ماض وأمره نافذ؛ فلا يأسى على ما فاته فتصبحَ النفس نهبا لليأس، ولا يفرح بما أتاه فتشط بعيدا عن دوام التذكر أن ما بها من نعمة فمن الله، وأن ما أخطأها لم يكن ليصيبها وما أصابها لم يكن ليخطئها وأن لها ربًّا قادرا متصرفا، بيده مفاتيح الغيب وأسرار المستقبل، والنفع والضرر، والعطاء والمنع، ومنه التوفيق والسداد.
ومن فطرة الإنسان المقترنة بخاصية الضعف البشري أنه دائم الحاجة إلى قوة أكبر منه، يشعر في وجودها بالأمان من قوى الكون التي لا طاقة له بها وصروف المستقبل التي يدّخرها، وهي حاجة عبّر الإنسان عنها على امتداد تاريخ الإنسانية في كافة الحضارات والثقافات. فإذا كان الإيمان بالله أساس العقيدة وجوهر التوحيد ومبتدأ الإيمان وأهمَّ مفاهيم الإسلام وأسمى أحكامه، أمِنَ الإنسان المسلم في حياته متى انقاد إلى مقتضيات هذه العقيدة، مدركا أن له ربا قويا قادرا وأن هذا الإله سميع بصير، قريب مجيب ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾(البقرة: 186). وحسب هذه الصلة بين العبد وربه، أنها تهب نفس المخطئ الرجاء والأمل، وتحفزه على الأَوبة والتوبة الدائمتين، استجابة لنداء الله ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾(الزمر: 53). وفي التوكل على الله راحة للنفس من عبء ثقيل تحمله النفوس التي لا تهتدي إلى توحيد الله.
أما المؤمن فيتحصَّن أمام كل مصيبة مستندًا إلى التوكل، فيمنحه إيمانه هذا الأمان التام والاطمئنان الكامل، وأما غيره فينوء بعبء الحياة الدنيا بهمومها وهواجسها واحتمالاتها، لذلك تظل الأسئلة الوجودية الكبرى التي تلحّ على الإنسان في أي زمان ومكان.. أسئلةُ المبتدأ والمآل، والمُوجِد، والغاية من الحياة ومصير الكون والإنسان.. تظَلّ حاضرة ملحّة، ما لم يجد لها أجوبة متكاملة، يقدمها الإسلام، ويَبْنيها في نفس المسلم الإيمانُ، لتحقق بذلك طمأنينة النفس التي هي أول درجات السلام النفسي الكامل.

شعائر العبادة مصدرا للسلام

لا شك أن الجو النفسي الآمن الذي تشيعه العقيدة في قلب الإنسان يحتاج إلى دوامٍ واستمرار لبقاء تلك المعاني ورسوخها. وهذه وظيفة ضمن وظائف أخرى للعبادة في حياة الإنسان المسلم. وإذا نحن تأملنا الشعائر التعبدية في الإسلام كلها وجدنا أن الخيط الناظم بينها أنها تُدخل الإنسان مجالا للأمن النفسي من خلال علاقته بخالقه، ليعيش معاني سلام داخلي دائم ومتجدد دوام العبادة في حياته.
فالصلوات مَحطّات يومية في خضمّ الحياة للاتصال بالله، وهو أمر لا يمنح المصلي شعورا بالأمان من مستجدات الأيام لارتباطه بالخالق المدبر فحسب، بل يزوّده بقوة نفسية -لمواجهة أعباء الحياة وتحمّل مشاقها- لا وجود لها إلا في العبادة. وفي الخطاب القرآني توجيه إلى هذا المعنى الذي جعل الفلاح والخير في الحياة الدنيا والآخرة معا مقصدا وغاية للصلاة، كما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾{س}(الحج:88)، وقوله سبحانه عن تلبية نداء صلاة الجمعة الأسبوعي ﴿إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ﴾(الجمعة:9)، من ما يجعلها في النهاية عنصرَ توجيه وترشيد للسلوك الإنساني باتجاه الفضيلة ومانعًا من الاعتداء على الحقوق ﴿إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾(العنكبوت:45).
ومن أراد أن يفهم البعد النفسي العميق للعبادة في حياة الإنسان، فليقرأ ما كتبه أولئك الذين حرموا هذه النعمة حينا من الدهر قبل إسلامهم، وما كان لها من أثر الغيث والرحمة على نفوسهم الظمآى بعد أن عرفوا الإسلام، وأثرها البالغ في إحساسهم بالسكينة والسلام.
وإذا كانت الصلاة محطة يومية وأسبوعية متواصلة، فقد أقام الإسلام محطة سنوية عامة يدخل فيها الإنسان والمجتمع المسلم دورة تكوين في قيم السلام النفسي والجماعي، هي عبادة الصيام، من خلال تقوية النفس وترويضها على التحكم في النوازع والأهواء ولجم الجوارح كلها، حتى عما يباح لها في غير رمضان من أصناف النعم والمتع، فتَسمُو بذلك نفس الصائم حتى يغدو عامل رحمة وسلام لنفسه وغيره. ثم إن شهر رمضان موسم للسلام الاجتماعي، يعيش فيه الناس معانيَ الصبر لا على شهوتي البطن والفرج وحدهما، بل على أذى الناس وجهلهم، فلا يغضب الصائم ولا يرفث ولا يجهل وإن بادره غيره بالاستثارة أو الأذى، لأنه يعيش موسم ترويض على معاني السلام؛ وفي الحديث القدسي “الصيام جُنّة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابَّه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم”(متفق عليه).
ثم يبلغ المسلم قمة العيش في ظلال السلام خلال الامتحان الذي فرض الإسلام اجتيازه مرة واحدة على الأقل في حياة المسلم، تتويجا لمحطات التربية اليومية (الصلاة) ودورات التكوين السنوية (الصيام)، حيث يعيش المؤمن رحلة سلام حقيقية وشاملة في الحج، يتدرب خلالها على كافة المبادئ والقيم التي جاءت بها الرسالة، ومنها مبدأ “السلام”؛ فعندما يحرم الحاج يتحول بمقتضى هذا الإحرام إلى عنصر طمأنينة وسلام في الأرض، للإنسان والحيوان والنبات، فلا يؤذي غيره ولا يسلك ما يؤدي به إلى فحش أو خصومة: ﴿اَلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾(البقرة:197)، ولا يصطاد حيوانا ولا يأكله إذا صِيد له: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا﴾(المائدة:96)، ولا يقطع شجرا، ولا يؤذي كائنا. وإنه لمن قبيل الاتساق مع جو هذه الرحلة التعبدية، أن يكون من دعاء الحاج عند رؤية الكعبة المشرفة قوله: “اللهم أنت السلام ومنك السلام، فحيِِّنا ربنا بالسلام”(رواه مسلم).
وفي الحج مبدأ آخر لا يقل أهمية في إشاعة معاني السلام في النفس والجماعة، وهو مبدأ المساواة بين الناس واتخاذها شعارا معلنا وسمتا ظاهرا، إذ يلبس المحرم لباسا لا يميزه عن غيره ليتوحد الجميع في مظهر واحد. وهذا أحد المؤرخين من المسيحيّين يتحدث عن هذه القيمة في عبادة الحج فيقول: “ولا يزال الحج على كرّ العصور نظاما لا يدارى في تشديد عرى التفاهم الإسلامي والتأليف بين مختلف طبقات المسلمين، وبفضله يتسنّى لكل مسلم أن يكون رحّالة، مرة على الأقل في حياته، وأن يجتمع مع غيره من المؤمنين اجتماعا أخَويا، ويوحد شعوره مع شعور سواه من القادمين من أطراف الأرض. وبفضل هذا النظام يتيسر للزنوج والبربر، والصينيين والفرس والترك والعرب وغيرهم، أغنياء كانوا أم فقراء، عظماء أم صعاليك، أن يتآلفوا لغة وإيمانا وعقيدة”.(1)
هذه أمثلة أولية مختصرة لجوانب السلام النفسي والاجتماعي من المشاعر الإيمانية إلى الشعائر العبادية في الإسلام، تمكّن من القول بكلمة: إن الإسلام يجعل من الأمن الروحي والنفسي للإنسان، عبر إشاعة معاني الطمأنينة والسلام بين جوانحه، المدخلَ إلى سلام الجماعة في دوائر الأسرة فالمجتمع والأمة ثم الإنسانية كلها، لأن الإنسان مادة ذلك كله، وركن بِنائه الركين.
_____________
الهوامش
(1) تاريخ العرب لفِيلِيب حِتّي، 1/187.