وا صلاتاه!

ولّى ضوء النهار، وزحف الظلام إلى غرفته الضيقة المتواضعة، وهو متمدد على الأريكة يستريح. سمع صوتا رحيما من الغرفة المجاورة:
– أعتمت الدنيا.. فات الوقت.. صلاة المغرب يا ولدي!..
كانت جدّته في غروب عمرها، ورغم ذلك كانت حريصة كل الحرص على أداء صلاتها في أوقاتها.. بينما حفيدها الشاب اليافع تعود ألا يقوم للصلاة إلاّ قبيل انقضاء وقتها معلّلاً ذلك باستغراقة في الدراسة. وثب من مكانه بقلَق:
– آآه.. فات الوقت!..
فتوضأ بسرعة ثم وقف إلى الصلاة دون أن يجفف وجهه وذراعيه.. أتم صلاته على عجل ثم اتّكأ على الأريكة وراح يتمتم بالأوراد..
حلّ عليه التعب، فوضع رأسه على ذراعه على طرف الأريكة واستمر في التسبيح. وما لبث أن ران عليه النعاس وملك عينيه..

ساحة تعج بالخلائق.. رؤوس ناظرة، وقلوب واجفة، وأبصار خاشعة، وأصوات صاخبة متداخلة.. لا يدري أحد ماذا يُصنع به وما تكون عاقبته!. جال ببصره هنا وهناك ثم أرسل نظراته إلى بعيد فرأى منصة عالية يجلس عليها بضعة نفر في ملابس بيضاء.. وإذا بهتاف يدوّي:
– لمن الملك اليوم.. لله الواحد القهار..
قال في غاية من الدهشة والاستغراب وقلبه يخفق خفقا:
– يا إلهي، أين أنا؟!..
وإذا بموجة شرية عارمة تأخذه في دوامتها وتجعله يفيق من ذهوله.. وإذا بمنادٍ ينادي من مكان بعيد:
– مراد بن سميّة…
تلفّت يمنة ويسرة ثم قال بصعوبة:
– أأأنا!
تفصّد جبينه عرقا وتلاحقت أنفاسه وشعر بالاختناق.. فأمسكه حارسان عملاقان من ذراعَيه وساقاه إلى المنصّة..
بدأت رحلة الحساب التي تبدو بلا نهاية.. كلما طُرح عليه سؤال خاب سعيه ولم يتحقق ما كان يأمله.. تصبّب العرق من جبينه تصببا. طالت المحكمة واشتد الكرب، وعيناه مركوزتان على الميزان باضطراب وقلق.. ثقُل عمله تارة وخفّ تارة أخرى.. أمل الفوزَ تارة وخابت آماله تارة أخرى.. وأخيرًا.. رجحت سيئاته على حسناته، وصدر الحكم:
– خذوه إلى جهنم..
تحول العالم في عينه إلى كتلة من السواد الكالح.. لا يكاد يصدق ما يسمعه. شعر بإنهاك رهيب فأرخى يديه وحدّق بعينين مرعوبتين..
– ماذا!.. إلى جهنم!! كلاّ!!..
تذكر صلاته التي كان يؤديها في اللحظات الأخيرة من وقتها.. فاغرورقت عيناه وفاضت دموعه حزنا وندما. قال بحرقة قلب:
– يا لحماقتي وغبائي.. يا لمصيبتي وبلائي!..
أقبل الزبانية عليه.. فأشاح بيده في رعب وأطلق صيحات استرحام خرقت الفضاء. جعل يستغيث بربه، يدعوه ويناشده. فما عاد ينطق سوى بكلمتَي “الرحمة” و”الصلاة”.. راح يلتفت إلى الوراء علّ الله يتداركه برحمته، وعسى صلاته تدركه فتشفع له وتنقذه.. ولكن هيهات هيهات..
سحَبه الزبانية إلى جهنم سحبًا. وكلما اقترب منها خدش سمعَه أصوات العذاب الذي تقشعرّ منه الجلود. التفت وراءه مرة أخرى مستغيثًا بالله راجيا رحمته.. وما إن وصل إلى شفير جهنم حتى صاح وصرخ بكل ما أوتي من قوة:
– أما سعيتُ جاهدًا في خدمة ديني مطيعًا أوامر ربي!؟ أما أدّيتُ دَوري في سبيل عقيدتي!؟ أما وهبتُ نفسي لخدمة الإنسانية والرسالة الربانية!؟ أما صلّيت!؟ رحماك يا رب!..
انتهى كل شيء.. خسر الدنيا والآخرة.. وأخيرًا، دفعه الزبانية إلى النار الحامية.. وبينما كان يتدحرج إلى قعرها وإذا بيد تمسكه وتجذبه إلى الأعلى وتخرجه من بين ألسنة النيران الملتهبة..
– يا إلهي ماذا يجري!!؟..
رفع رأسه وإذا برجل ذي لحية ورداء بيضاوين يفيض النور من حوله، يقف أمامه:
– لا تخف!..
حدّق فيه باندهاش وهو يلهث:
– مَن أنت؟!
– أنا صلاتك!..
– أنقذتَني في آخر لحظة!.. ما الذي أخّرك عني؟ كادت النار تبتلعني!.
هز رأسه وقال باستغراب:
– أما تذكر أنك كنتَ تؤخرني إلى اللحظات الأخيرة من وقتي؟..

انتفض من غفوته على صوت ندي ربّاني.. إنه أذان العشاء.. رفع رأسه وجبينه يتفصد عرقا.. وثب من مكانه وهرع إلى مكان الوضوء..
_______________
(*) الترجمة عن التركية: نور الدين صواش.