أعراض الوحي المنزل على ذات النبي المبجل: محمد صلى الله عليه وسلم

ظل محمد صلى الله عليه وسلم يواظب على ما اعتاده من لذة خلوته، ومناجاة ربه في غار حراء، شهرا من كل سنة، إلى أن أشرق عليه اليوم الذي تحقق فيه الاصطفاء، وتأكد فيه الاجتباء، ليكون آخر لبنة في صرح العناية الربانية، وآخر جوهرة في نظم الرعاية الرحمانية، استجابة لسنة التعهد المرعية، تفقدا للبشر بالتوجيه والترشيد والهداية، مباشرة ليظلوا على صلة بخالقهم وبارئهم ورازقهم، قال عليه الصلاة والسلام: “مَثَلي ومثل الأنبياءِ منْ قبلي كَمَثَلِ رَجُلٍ ابْتَنَى بُيُوتاً فأَحْسَنَها وأَكْمَلَها وَأجْمَلَها إلاّ مَوْضعَ لَبِنَة في زاوِيَة من زَواياها، فَجَعَلَ النّاسُ يَطُوفُونَ ويَعجَبونَ من البُنيان بالبيت فَيقولونَ: ألا وَضَعتَ ها هنا لَبِنَةً فيتمَّ بُنيانُك؟”قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:” فكنتُ أنا اللَّبِنةَ”(1)
في مغارة من مغارات جبل حراء الذي سيصطلح على تسميته بـ”غار حراء” تحقق الاصطفاء بالمخاطبة عن طريق ما اصطلح على تسميته بـ”الوحي”، فما هي الحمولة الدلالية لهذا اللفظ الغريب على بيئته، الجديد على معجمه؟
وهل كان الوحي يأتي على صورة واحدة، أم كان على صور متعددة؟
وإذا كانت له صور متعددة، فما حقيقة تلك الصور؟
وهل كان الوحي مجرد تفهيم وتعليم في سرعة وخفاء كما يدل على ذلك معناه اللغوي، ليس له أعراض أو آثار يراها المشاهد؟
أم كانت له أعراض غاية في الوضوح والبيان حفظها تاريخ الرسالة الإسلامية الخالدة، وتراث النبوة المحمدية الباقية؟
ذلك ما سأحاول رصده من خلال هذة المقالة الوجيزة، فأقول:
الوحي لغة هو “الإشارة والكتابة والرسالة والإلهام والكلام الخفي وكل ما ألقيته إلى غيرك”(2)، ومن معانيه أيضا الإعلام في خفاء، ومنه الوَحَى ومعناه العجلة والسرعة.(3)
ويمكن اختصار معاني الألفاظ التي ذكرت في القول بأن الوحي هو الإعلام الخفي والسريع.
أما اصطلاحا فهو ما يوحيه الله تعالى إلى أنبيائه ورسله من كلام أو معنى أو غير ذلك مما يعلمونه في خفاء وسرعة.
والوحي هو الركن الأساس الذي تستند عليه النبوة بحيث ينعدم مدلولها بدونه، وهو المصدر الوحيد لكافة الأخبار الغيبية، والمبادئ العقدية، والأحكام التشريعية، وهو الذي يميز بين الإنسان الذي يعتمد فكره ورأيه، وبين الإنسان الذي يصدر عن ربه بأمانة.(4)
والوحي هو آية النبوة الكبرى، ومظنة التصديق بها، وهو عماد اليقين الذي لا ينبغي أن يتطرق إليه الشك، إلا انهار كل ما ترتب عليه مما ذكر.
كما أن الموقف من الوحي تصديقا أو تكذيبا هو الفرقان بين الإيمان والكفر، والفيصل بين الإسلام والشرك.
وهو أيضا سنة من سنن الله مع أنبيائه، قال تعالى: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلىَ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْراهيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقوبَ والأَسْباطِ وَأيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا دَاوودَ زَبُوراً وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لمَ ْنَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْليماً﴾(النساء:ا163-164).
ولذلك يتعين على الباحث عن الحق في أمر الوحي أن يستقصي حقيقته، ويتأمل صوره، ويستكشف آثاره، من خلال النظر فيما حفظ في هذا الشأن من نصوص غاية في الدقة، وآية في الحجة، تبعث على التعجب والذهول، زيادة في البيان، وإمعانا في ترسيخ اليقين في الوجدان، مظنة الإيمان المكين، وأساس الاعتقاد المتين، الذي يبعث على الثقة والتصديق ويرقى بصاحبه إلى مقام الإحسان.
فكيف كانت آثار هذه التجربة الفريدة على النبي الكريم، والخبرة اليتيمة على محمد عليه الصلاة والسلام؟ وما هي كافة مظاهر هذا الأمر على جسمه الشريف عليه الصلاة السلام؟
لقد كان حقا لِعملية استقبال الوحي آثار مادية ظاهرة، وأعراض فسيولوجية بادية للمشاهدة والمعاينة يدركها كل من حضر، وهو ينظر إلى النبي الكريم وهو يكابد استيعاب التنزيل، ويعاني استقبال الترتيل، نذكر منها الأعراض الآتية:

1-تصبب العرق

قالت عائشة رضي الله عنها: “ولقد رأيتهُ ينـزل عليه في اليوم الشديد البرد، فيُفْصَمُ عنه وإنَّ جبينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقاً”،(5) وهذا يدل على المعاناة الشديدة الناجمة عن ضخامة الجهد الذي كان محمد صلى الله عليه وسلم يبذله أثناء هذه العملية.

2-تبدل لون الوجه

من الأعراض التي كانت تعتري جسمه الشريف عليه الصلاة والسلام، تغير لون بشرته، وقد جاء في ذلك نصوص متعددة دلت على الحقائق الآتية:
أ-احمرار الوجه
وقد جاء هذا الحديث الصحيح الذي روي عن يعلى بن أمية حيث ورد فيه: “… فإذا النبي صلى الله عليه وسلم محمر الوجه…”.(6)
وأعتقد -والله أعلم- أنه ربما قد لا يكون هناك تلازم بين عرض احمرار الوجه وعرض تصبب العرق، إذ قد يحمر الجسم دون أن تكون هناك إفرازات عرقية، كأن يتصبب الجسم عرقا دون أن ترتفع درجة حرارته.
بـ-الرُّبْدَةُ
وقد دل على ذلك الحديث الذي أخرجه مسلم عن عبادة بن الصامت: “أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه الوحي كرب له وتربَّد وجهه”.(7)
والرُّبدة في اللغة هي الغُبرة، ومن معانيها السواد المختلط، أو الحمرة التي خالطها سواد، وتربّد وجهه: أي تغير من الغضب، وقيل صار كلون الرماد، وتَرَبَّدَ الرجل: إذا تَعَبَّسَ، وتَرَبَّدَت السماء: تَغَيَّمَت.(8)
وحُقَّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعتريه الكرب العظيم لهيبة المقام، وهَول التجربة، وجسامة التبعة، يتفاوت الكرب بتفاوت الواجبات والمعاني والمقامات والأحوال التي تتحدث عنها الآيات والسور، أكّد هذا ما روي عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، قال: “كان إذا نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم السورة الشديدة أخذه من الشدة والكرب على قدر شدة السورة، وإذا نزلت عليه السورة اللينة أصابه من ذلك على قدر لينها”.(9)
وزيد بن ثابت رضي الله عنه يتحدث عن موضوعٍ خبرتُه به عظيمة، لاضطلاعه بأمانة تدوين وحي السماء بأمر من الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.

3-تتابع الأنفاس وترددها

وهذا مما قد يدل على أن عملية التلقين والإلقاء في الرُّوع لم تكن عملية ذهنية صرفة، وأن العملية، مهما كان محلُّ الأمرِ المُلَقَّنِ الذهنَ والدماغَ والقلبَ بصفة عامة كما تقرره اللغة، فإن لها تأثيرا على أجهزة كثيرة من جسم النبي الكريم عليه السلام، إن لم نقل الجسم برمته، وبخاصة جهاز التنفس الذي له علاقة بإمداد الهواء، ودقات القلب، التي هي أظهر الأمور وأبينها في المواقف التي لا تطاق.
هذا طبعا إذا لم يكن مراد الله عز وجل إظهار الأعراض إمعانا في الإتيان بالحجة البالغة لإقامة الدليل.

4-الغطيط

روى الإمام البخاري عن يعلى بن أمية، أنه كان يقول لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: ليتني أرى نبي الله يوحى إليه، فلما كان بالجِعْرانة(10)، وعلى رسول الله ثوب قد أظل به، ومعه ناس من أصحابه منهم عمر، إذ جاءه رجل عليه جبة متضمّخة بطيب، فقال: يا رسول الله كيف ترى في رجل أحرم بعمرة في جبة بعدما تضمَّخ بطيب؟
فنظر النبي صلى الله عليه وسلم ساعة، ثم سكت فجاءه الوحي فأشار عمر إلى يعلى: تعال، فجاءه يعلى فأدخل رأسه، فإذا النبي صلى الله عليه وسلم محمرّ الوجه يغط كذلك، فمكث كذلك ساعة، ثم سري عنه، فقال:” أين الذي سألني عن العمرة آنفا؟”…إلى آخر الحديث.(11)
والغطيط: صوت تنفس غير عاديّ يحدثه النائم عندما يكون على هيئة غير مريحة، ينبعث من الحنجرة والخيشوم، أو عندما يلم به كابوس مزعج.
5-انبعاث الأزيز ناحية رأسه
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: ” كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه الوحي يُسْمَعُ عند وجهه كَدَوِيِّ النحل، فأُنزل عليه، فمكثنا ساعة، ثم سري عنه، فقرأ:﴿قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنونَ﴾ (المؤمنون:1)” إلى آخر الحديث.(12)
وهذا الصوت كما يفهم من الحديث لا علاقة له بعملية التنفس التي مركزها الصدر والفم والأنف التي هي عَرَضٌ بذاتها، وإنما له علاقة بالدماغ ولا شك، وربما كان الصوت منبعثا من الرأس، أو لربما كان منبعثا من الأذن أو منهما جميعا.

6-ثقل الوزن

وقد جاء في ذلك أحاديث طريفة منها ما ورد في صحيح البخاري عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، قال: “أنزل الله على رسوله وفخذه على فخذي، فثقلت عليّ حتى خفت أن ترض فخذي”.
وروي عن أبي أروى الدّوسي: “رأيت الوحي ينـزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنه على راحلته فترغو وتفتل يديها حتى أظن أن ذراعها ينفصم، فربما بركت وربما قامت مؤبدة يديها حتى يسرى عنه، من ثقل الوحي وإنه لينحدر منه مثل الجمان”.(13)
وعن أسماء بنت يزيد قالت: “إني لآخذة بزمام العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ نزلت عليه المائدة كلها، وكادت من ثقلها تدق عضد الناقة”.(14)
ولقد شاهد الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف أن ناقته التي تقله وهو يكابد الوحي لا تقوى على حمله فتخر على الأرض راغمة، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: “إن كان ليوحى إليه وهو على ناقته فتضرب بجرانها من ثقل ما يوحى إليه”.
وصدق الله العظيم إذ يقول: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقيلاً﴾ (المزمل:5)، وقوله: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ﴾(الحشر:21) فالثقل هنا إذا ليس معنويا فحسب وإنما هو أيضا ماديا حسيا، بما أوحت به كافة النصوص الدالة على ذلك.
هكذا كانت أعراض الوحي كما قررتها الآثار المختلفة التي دلت بجلاء على شدة التجربة ومضائها على كيان محمد النبي عليه الصلاة والسلام بكليته.
إنها خبرة لم تكن سهلة عليه كما قد يتبادر إلى أذهان من لم يطلعوا على حالها كما وُصِفت، وصورتها كما جليت، أما حقيقتها في جليتها فلا يعرف كنهها إلا الله سبحانه وتعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام.
_______________
الهوامش
(1)البخاري، المناقب، 18؛ مسلم، الفضائل،7؛ السنن الكبرى، للبيهقي، 9/5، دلائل النبوة، للبيهقي، 1/365- 366؛ المسند، للإمام أحمد، 3/361.
(2)لسان العرب، لابن منظور، 6/4787.
(3)انظر: لسان العرب، لابن منظور، 6/4788.
(4)كبرى اليقينيات الكونية، لمحمد سعيد رمضان البوطي، ص: 154.
(5)البخاري، بدء الوحي، 2؛ مسلم، الفضائل، باب عرق النبي صلى الله عليه وسلم في البرد وحين يأتيه الوحي؛ الموطأ، للإمام مالك، كتاب القرآن، باب: ما جاء في القرآن، 1/202. دلائل النبوة، للبيهقي، 2/52
(6)البخاري في صحيحه، 2/167. ومسلم في صحيحه، كتاب الحج، 8.
(7)كتاب الفضائل، باب عرق النبي صلى الله عليه وسلم في البرد وحين يأتيه الوحي، حديث 88.
(8)لسان العرب، لابن منظور، 3/1555.
(9) الوفا بأحوال المصطفى، لعبد الرحمن بن الجوزي، ص: 166.
(10)اسم موضع مابين الطائف ومكة وهو إلى مكة أقرب. الروض المعطار، ص: 176-177.
(11)أخرجه البخاري في صحيحه، 2/ 167. ومسلم في صحيحه، كتاب الحج، 8.
(12)المستدرك، للحاكم النيسابوري، 1/ 535؛ المسند، للإمام أحمد، 1/34؛ الترمذي4/151؛ الدلائل، للبيهقي، 7/55.
(13)الوفا بأحوال المصطفى، ص: 168.
(14)الوفا بأحوال المصطفى، ص: 168.