الثالثة إلا عشر دقائق

هتفت وهي تنـزل السلم مسرعة:
– حسنًا!.. حسنًا!.. أتيتك!
الظاهر أن طارق الباب كان على عجل!… لأنه ما إن لمس مطرقة الباب لم يدع الطَّرْق… كان يطرق باستمرار… وعندما فتحت الحاجّة حسيبة الباب بقلق ممزوج بالغضب، ذهلت ولم تصدق عينيها:
– جميل!!..
لفظتْ اسم ابنها في صرخة نداء من بين شفتيها…

كانت العمة حسيبة قد ودّعت فلذة كبدها جميل إلى “سيبيريا” مدرّسًا قبل ستة أشهر، ولم يجُلْ في خيالها أنه سيعود هكذا مبكرًا.
وقبل ذهابه إلى سيبيريا كانت قد انتظرته أعواما وأعواما بنافذ الصبر لينهي دراسته الجامعية. فبينما هي تأمل أن تنقضي أيام الفراق وتتحقق آمالها الحلوة فيه، إذا به يفاجئها بقوله:
– يجب أن أذهب… يجب أن أذهب يا أمي!.. عليّ أن أكرّس عمري من أجل هدف إنساني!..وعليك أنت أن تهبي ابنك لهذا الهدف، مثلما فعل أسلافنا، فوهبوا أعمارهم وثرواتهم وأبناءهم.
فحقّ فيها ما قيل:
“فارَقَتْه لم تكن عالمة أنّ يوم الملتقى يوم اللّقاء”

هكذا هي امرأة الأناضول.. رمز التضحية والبراءة والصفاء… فكلّما استمعت إليه لاحت لها بوارق الحق في كلامه، قالت له:
– اذهب يا بني!..
ودّعته كالأمهات اللواتي أرسلن أبناءهن للدفاع عن الوطن من محطة “بِيلَجِكْ”، قائلة:
– اذهب يا بني!.. اذهب.
فذهب إلى سيبيريا القارسة البرد التي ما لبثت حتى تحولت في عزيمته إلى أكثر الأنسام عذوبة ودفئاً.
ولكن في المساء الأخير قبيل ذهاب ابنها، وكان رأس ابنها في حجرها، تداعب شعر رأسه كما كانت تفعل عندما كان طفلاً فتحت صندوق عرسها وأخرجت منه ساعة بسلسلة وقدمتها له قائلة:
– خذ يا بني!.. هذه الساعة ذكرى من والدك، ورثها هو من والده… ستتذكر أمك وستدعو لأبيك كلما نظرت إليها..
قبّل يدي أمه ومسح وجهه بيديها:
– وهل يمكن أن أنساكِ يا أمي؟!.
ثم نهض وأخرج ساعة دقاقة من حقيبته:
– ما دام الأمر هكذا… إذن أترُك لك ساعتي هذه… ليست ساعة اعتيادية يا أمي!.. إنها تدق مع دقات قلبي…
كان جميل قد أضاف ثلاث حلقات إلى الساعة. كان هناك سهم متّجه من كل حلقة نحو مركز الساعة. في الحلقة الأولى كانت توجد كلمة “الفجر” وفي الثانية كلمة “الضحى” وفي الثالثة حرف “ت”(1) فقط. كانت هذه الحلقات موجودة على الساعة وحسب الأوقات.
فتح عينيه على جو جديد من الحياة، لذا فما إن يصحو في الفجر ويصلي حتى يعيّر ساعته على حلقة الضحى ثم على حرف “ت”. شرح هذا لأمه ثم قال لها:
– اعملي أنت الشيء نفسه يا أماه!!.. وادْعي لي!
ثم حدثها عن أشياء كثيرة…
أيقظته أمه في ساعة صلاة الفجر وودعته.

سافر إلى سيبيريا كأنه فارس على صهوة جواد من نور ينطلق في الظلام مودعا أمه في الفجر… ينطلق إلى أماكن لم تر بعد نور الشمس ولم يلمسها بعد شعاعها الذي يحيي الموات. وبينما كانت تتوقع أن تتأخر هذه العودة إذا بها تراه أمامها. وكما تفعل كل أمّ فقد فتحت ذراعيها إلى أقصى ما تستطيع واحتضنته…
فتحت عينيها على غرفة مظلمة، فصحتْ من رؤياها… تقلبت في فراشها ببطء وهي تتنهد قائلة: “آه يا بني!” كانت الساعة تشير إلى وقت حلقة “ت”، تمتمت بوهن وهي تضغط على زر الساعة:
– هذه الليلة لم تبق لي حاجة إليكِ… لقد أيقظني صاحبكِ.
قامت وتوضأت… وعندما فرشت سجادتها ألقت نظرة على الساعة… كان مِيلاَ الدقائق والساعات متوقفين، وكانت الساعة تشير إلى الساعة الثالثة إلا عشر دقائق. تناولت الساعة وتمعّنت فيها… عجباً! كانت الساعة متوقفة… وبدون أن تشعر، ودون أن تَدري السبب هتفت:
– آه يا بني!.. كيف عرفت أن الساعة متوقفة فقمت بإيقاظي؟!!..
وقفت خاشعة للصلاة… كانت في حالة روحية غريبة… تضرعت وقرأت الأدعية حتى الصباح.
…..
بعد أيام دُق بابها دقات وجلة ومترددة… نزلت ودرَجُ البيت القديم يصرّ تحت قدميها، وفتحت الباب… كان هناك شابّان وضيئا الوجه… قال الشاب الطويل بصوت خافت:
– هل أنت العمّة حسيبة؟!
– أجل!
– هل نستطيع الدخول يا عمة حسيبة؟.. نحن أصدقاء “جميل”.
لمعت عينا العمة حسيبة. قالت بفرحة غامرة:
– طبعًا!.. طبعا!.. تفضلوا يا أولادي!..
ثم أردفت بانفعال:
– “جميل”… هل أتى “جميل” أيضاً؟
– كلا!.. لم يأت جميل يا عمة حسيبة.
– ولكن هذه الحقيبة في يدك هي حقيبته!.
نكّس كلاهما نظرهما إلى الأرض… ربّاه!.. كم كان هذا الأمر صعبًا.. تمالك أحدهما نفسه بصعوبة وقال:
– هذه الحقيبة حقيبته يا عمة حسيبة! ولكنه…
لم يستطع أن يكمل الجملة… تحولت الكلمات عنده إلى دموع… فهِمتْ العمة حسيبة… وهل هناك أحد يفهم أفضل من الأم لغةَ الدموع؟ تهاوت في مكانها… مَن يدري كم استمر ذرفها للدموع… ثم قالت أخيراً:
– “إنا لله وإنا إليه راجعون”…
ارتسم التوكل وتسليم أمرها لله خطوطا على وجهها. سألت:
– كيف حدث هذا؟
– مرض قليلا.. ذهبنا به إلى الطبيب… كان يسير نحو الشفاء… في تلك الأمسية أيضًا كان وضعه جيدًا حتى إن طلابه جاؤوا لزيارته، وبعد أن غادروا قال:
– أعتقد أنني تعبت…
وذهب إلى غرفته. نام ولم يستيقظ.
– وأين نعشه؟..
قالت هذا، وأخذتها نوبة أخرى من البكاء.
مدّ الشاب الطويل بعض الأوراق إليها وقال:
– وجَدْنا في الصباح هذه الأوراق في جانبه… وكأنه أحسّ بدنو أجله… كان يصرّ في هذه الأوراق على دفنه في اليوم الثاني في البلدة التي تُوفّي فيها… لم نجد بُدّاً من تنفيذ وصيته فقمنا بدفنه في حديقة مدرستنا… أي في مكان يستطيع فيه سماع أصوات طلابه الذين أحبهم كثيرًا.
ثم أخرج من جيبه ساعةً بسلسلة وظرفَ رسالة، وقدّمهما للعمة حسيبة قائلا:
– لقد ترك هذه الأغراض لكِ يا عمة… هذه ساعة ابنك، وهذه هي الرسالة الأخيرة التي كتبها لك.
لفّتْ العمة حسيبة السلسلة على ذراعها وأخذت الساعة في راحة يدها. ثم -وبيد مرتعشة- أخذت الرسالة… قربتها من شفتيها وقبلتها ثم بكت طويلا. وعلى الرغم من حالها المؤلم فقد حافظت على رقّتها وأدبها الجم وقالت لهما:
– أرجو المعذرة منكما…
ثم قامت وذهبت إلى الأريكة الطويلة التي جلست عليها مع ابنها لآخر مرة… كان ابنها قد وضع رأسه في حجرها… تذكرت كلماته الأخيرة لها:
– لم يبق لي يا أمي سوى الدعاء لك… أما أنا، فمُهمّتي تقديم خدماتي حتى الرمَق الأخير… وربما سنجلس معا يا أمي في الجنة على أريكة من الزمرّد، وسأضَع هناك رأسي في حجرك وستلمسين شعري وتنشدين لي أغنية من أغاني الأطفال… وما أجمل أن يضع ابن رأسه في حجر أمه ليسمع أغنيتها الحنونة الصادرة من قلبها في مقرٍّ فوق الزمان والمكان… آه! ما أجمل هذا!!..
وبصعوبة فتحت الرسالة:
– أماه!.. لا أدري هل أستطيع إتمام رسالتي هذه قبل وفاتي أم لا؟.. أريد أن تحتفظي برسالتي هذه سرًّا بينك وبيني… ما أبرد هذا البلد يا أماه… أشعر بالقُشَعْرِيرة وهي تسري في جسدي… أشعر بالبرد يا أمي… أكتب هذه الرسالة على فراش المرض… جاء تلاميذي في المساء لزيارتي… طلبت منهم الدعاء لي بالشفاء… آهٍ يا أمي، لو شاهدت كيف دعوا… لو شاهدت أسلوب وكيفية دعائهم… لو كانت لي ألف روح وتجمّدت كل منها واحدة إثر أخرى لَما ترددت في المجيء إلى هذا البلد البارد. لو كنت هنا إلى جانبي لهيأتِ لي شراب النعناع واللّيمون لأعرق وأشفى. لم أعُد الآن أحزن لعدم كونك معي وبجانبي، لأنني غفوت لحظة فإذا ببابي يُفتح ويدخل شخص نوراني… ما إن رأيته حتى حاولت أن أهبّ من مكاني.. ولكني لم أستطع.. فقد كنت خائر القُوى.. قال لي:
– هل أصبت بالبرد يا جميل؟ هل بردت كثيرا يا جميل؟..
تصوري! قال لي “يا جميل؟!” ثم نزع بردته وألبسني إياها… والأَهم أنه قال:
– تعال!.. لن تشعر بالبرد من الآن فصاعداً… وإلى الأبد..
وفي أثناء محاولتي القيام من الفراش وقعت على الأرض… سأُلبّي دعوته يا أماه!.. وقد أمرّ بك قبل الذهاب… لا تحزني يا أماه من أجلي… ولن أحزن من أجلك… عندما ودّعتِني قلتِ لي:
– أستودعك الله…
وأنا الآن أستودعك الله وأدعكِ في كنفه وفي كنف رسوله وحبيبه… أُتلِي سورة الفاتحة من أجلي… ودُمتِ في رعاية الله وحفظه يا أماه!.
ابنك جميل…

وقعت الرسالة من العمة حسيبة، وتحركت شفتاها دون إرادة منها بسورة الفاتحة. وكأنها تتلو له قصيدة حب. وفيما هي تمسح وجهها بيدَيها وقع نظرها على الساعة التي أعطَتها لجميل… ساعة العائلة وميراثها… كانت متوقّفة وتشير إلى الساعة الثالثة إلا عشر دقائق.
_________________
(*) الترجمة عن التركية: أورخان محمد علي. وهي قصة حقيقية وقعت في بلاد الجليد، سيبيريا
________________
هوامش
(1)وهو الحرف الأول من كلمة “التهجد”.(المترجم)