في مكة ظهر الإسلام سنة 13 ق.هـ سنة 610 م. ولأنه ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾(البقرة:256).. فلقد كان المسلمون -دائما- يتركون لمن عداهم حتى من المشركين -فضلا عن الكتابيين- حرية الاختيار، ويعلنون قول الله سبحانه وتعالى: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾(الكافرون:6)، ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾(الكهف:29).. لأن الإكراه يثمر “نفاقا” لا “إيمانا”!
ومع هذا.. فعلى امتداد ثلاثة عشر عاما -هي عمر الدعوة النبوية بمكة- صب المشركون الوثنيون، بقيادة ملأ قريش وصناديد الشرك فيها، كل ألوان العذاب على الذين اهتدوا إلى الإسلام، وخاصة المستضعفين والفقراء والأرقاء.
ولقد عزل المشركون القلةَ التي آمنت -مع أهليهم- وحاصروهم في “شعب بني هاشم”، وقاطعوهم اقتصاديا واجتماعيا حتى أشرفوا على الهلاك، فاضطر عدد من المسلمين إلى الهجرة -مرتين- إلى الحبشة، خلال تلك السنوات، فرارا بدينهم وأنفسهم من الاضطهاد والتعذيب.
ولقد تصاعد الحصار للدعوة، وزاد الاضطهاد للمؤمنين بها، حتى دُفعت القلة المؤمنة دفعا إلى الخروج من ديارهم مكة.. فأخذوا يتسللون إلى المدينة المنورة (يثرب) بعد أن اهتدى نفر من أهلها (الأنصار) إلى دين الإسلام.
وعندما قرر ملأ قريش، وصناديد الشرك فيها توجيه الضربة القاصمة إلى رسول الإسلام وإمام دعوة التوحيد محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم… وأخذوا في المكر والتآمر.. وتقليب الخيارات: أيقتلونه؟ أم يحبسونه؟ أم يخرجونه من مكة؟! ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾(الأنفال:30).. أَذِن الله سبحانه وتعالى لنبيه ورسوله بالهجرة من مكة إلى المدينة بعد أن تعاقد سنة 1 ق.هـ مع الأنصار على إقامة الدولة الإسلامية الأولى بالمدينة المنورة.. فهاجر إليها سنة 1 هـ سنة 622م، وأقام الدولة، التي ضمنت للدعوة وطنا، والتي تُساس بالدين، وتحرس هذا الدين.
لكن المشركين من قريش، وحلفائهم العرب واليهود لاحقوا المسلمين في مهجرهم الجديد، يريدون القضاء على دعوة الإسلام وعلى الدولة التي أقامها المسلمون لحراسة الإسلام.
وهنا.. أذن الله سبحانه وتعالى للمؤمنين الذين فُتنوا في دينهم، وسُلبت منهم أموالهم، وأُخرجوا من ديارهم.. أذن لهم في القتال، ردا للعدوان المتواصل، ودفاعا عن الدين والوطن والدولة.. ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾(الحج:39-40).
وعلى امتداد سنوات الدعوة الإسلامية في حياة النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة المنورة اضطر المسلمون إلى خوض العديد من المعارك والمواقع والغزوات، بعد أن فَرض عليهم المشركون هذا القتال -الذي هو كره لهم-.. والذي لم يكونوا يتمنون اللقاء فيه!.. “لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاثبتوا، وأكثروا ذكر الله” (رواه الدارمي).
ومع عدالة “القتال الدفاعي” الذي اضطر إليه المسلمون.. ومع وقوفهم -في هذا القتال- عند حدود رد العدوان ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾(البقرة:190).. مع ذلك، فلقد وضع الإسلام لهذا “القتال الدفاعي” الضوابط والأخلاقيات التي صاغها رسول الله صلى الله عليه وسلم “دستورا للفروسية الإسلامية” ظهر إلى الوجود، ووضع في الممارسة والتطبيق لأول مرة في تاريخ الحروب والقتال قبل أربعة عشر قرنا من الزمان:
فلا يجوز قتال قوم إلا بعد إعلانهم ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْخَائِنِينَ﴾(الأنفال:58).
ولقد طبق المسلمون هذا التشريع القرآني.. “فما قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما حتى يدعوهم” (رواه أحمد والطبراني). والقتال -فقط- ضد المقاتلين.. ولا يتوجه إلى المسالمين غير المقاتلين من الكفار والأعداء.. ولذلك “نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والولدان” (رواه مالك).
وسَنّ الإسلام والمسلمون “دستورا” لأخلاقيات الحروب والقتال قبل أربعة عشر قرنا؛ فحرّم الخيانة في المغانم، والسرقة من أموال المحاربين، وحرم الغدر حتى بالأعداء، أثناء القتال وحرم التمثيل بجثث القتلى، احتراما لكرامة جثث القتلى الأعداء! وجاءت أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم للمقاتلين تقرر معالم هذا الدستور: “اغزوا باسم الله، في سبيل الله، تقاتلون من كفر بالله، لا تَغُلُّوا (تخونوا) ولا تغدروا ولا تَمْثُلوا ولا تقتلوا وليدا” (رواه مسلم).
كما أعطى هذا الدستور -دستور الفروسية الإسلامية- الأمن والأمان للرهبان والنساء والصبيان والشيوخ.. أي لكل من لا ينخرط في قتال المسلمين. بل أعطى هذه الحرمة حتى للبيئة والمزروعات، أي لكل ألوان “العمران”.
ولقد صاغ أبو بكر الصديق رضي الله عنه -الخليفة الأول- الوصايا العشر لهذا الدستور، عندما قال لأمير جيشه “يزيد بن أبي سفيان” وهو ذاهب إلى الشام لتحريره من الغزاة الرومان:
“إنك ستجد قوما زعموا أنهم حبّسوا أنفسهم لله، فذرهم وما زعموا أنهم حبّسوا أنفسهم له.. وإني موصيك بعشر:
1. لا تقتلن امرأة،
2. ولا صبيا،
3. ولا كبيرا هرما،
4. ولا تقطعن شجرا مثمرا،
5. ولا تخرّبن عامرا،
6. ولا تعقرن شاة ولا بعيرا إلا لمأكلة،
7. ولا تحرقن نخلا،
8. ولا تفرقنّه،
9. ولا تغلل،
10. ولا تجبن” (رواه مالك).
ولأن المسلمين قد جعلوا الحرب “جراحة مفروضة.. ومكروهة” ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾(البقرة:216).. فلقد وقفت حصيلة قتلى كل الغزوات -على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم- تلك التي هُزم بها العدوان.. وانتصر بها الإسلام -عند 386 قتيلا- منهم 183 شهيدا مسلما.. و203 هم قتلى المشركين..!! بينما أحصى الفيلسوف الفرنسي “فولتير” (1694-1778م) ضحايا الحروب الدينية النصرانية بين الكاثوليك والبروتستانت -أي داخل النصرانية الأوروبية- فقال: إنهم عشرة ملايين أي 40% من شعوب وسط أوربا.