حدد الشارع الحكيم معالم الطريق السريع للعروج إلى رباط العبودية لله تعالى، المسلكِ المحقِّق للمعاني الإنسانية المعايَنةِ في التصرفات قولا و عملا وخلقا؛ فليست كلماتٍ للتباهي في المجالس واستعراض ألفاظ وفقراتٍ مستلة من كلام الغير دون إسنادها إلى أهلها -وفي هذا التصرف ما فيه من الناحية الأخلاقية-، لأجل ابتزاز أهل الجاه والمال المتعلقين بأهل الفضل بالتماس مع أهلهم -أهل الفضل-كأن التماس بهم مصيدة لأهل الفضل والمتعلقين بهم. فكم من متماس مع أهل الفضل لا فضل له ولا فضيلة، يَعرِف تصنعَه أقربُ الناس إليه، وخاصة في الأماكن التي لا يتقنع فيها (الأسرة، الجيران، والإخوة، والطلبة، من هم تحت سلطته…) رغبة في الهيمنة على بصائر وأبصار الملتفين طمعا في رغيف إضافي أو وظيف.
معلوم أن شخصا بالمواصفات الآنف ذكرها يُعدَم المطية التي تبلّغه المقصد المدّعَى (المشيخة والقطب والمربي والمسلك)، لهذا يضطر أن يترجل في طريق سريع لأنه لا يملك من الخصال ما يخوِّل له نيلَ فضل الله في اكتساب مطية سريعة.
تُلتمس السعادةُ في الدارين من الطريق السريع المتميز عن سائر الطرق بمواصفات التجدد الذاتي المستمر المعبر عن الإيمان والإسلام والإحسان في الوقت نفسه، وذلك وفق الدلالات الاجتماعية المثمرة لتصرفات منضبطة بالشرع قابلة للمعاينة.
طلب أحد السالكين من الإمام الرباني-مجدد القرن الثاني عشر الهجري- طريقا سريعا في الاسترشاد، فقال الشيخ كلمته المشهورة: “وحّد القبلة”. ومعناها اجعل القرآن الكريم أستاذك الحقيقي، على قول الأستاذ بديع الزمان، الذي يقر في مقام آخر أن شعاع السنة المطهرة هو الإكسير النافذ. فالسنة المطهرة كافية ووافية لمن يبتغي الطريق السريع طريق النور، فلا داعي للبحث عن نور في خارجها.
ميزات الطريق السريع
يتميز الطريق السريع بانتظام الموجودات، وهو طريق حري بأن يكون أساس النظرة الإسلامية والإيمانية والإحسانية للكون في عناصره المادية والمعنوية. فيعم التصورُ والتعامل الإحساني العوالمَ كلها، وهو -زيادة إلى ما سلف- طريق الفطرة واليسر والواقعية، فليس طريق نخبة. ولهذا لا تعقيد فيه، طريق قصير واضح لا يزيغ عنه إلا هالك، جالب للسعادتين الدنيوية والأخروية.. جامع بين القلب والعقل، مؤسس لفكرة التمحيص والمراجعة المستمرة للمكاسب الروحية والمعرفية والعملية على حد سواء. فليس من مسالكه إسلام القلوب والعقول لآخرين، إنما إسلامها لله تعالى، وخوَّلت له هذه الصفةُ استحضار المضامين الاجتماعية للإحسان.
معرفة الطريق السريع لا يجدي نفعا ما لم يكن السالك راكبا مطية وقودها العجز والفقر والشفقة والتفكر. ولا يذهبن بك سوء الفهم إلى الخطأ؛ فالمقصود بالعجز والفقر والتقصير إنما هو إظهار ذلك كله أمام الله سبحانه، وليس إظهاره أمام الناس، كما قال الأستاذ بديع الزمان: “الإحساس بالعجز مفتاح رئيس لفعالية العبادة في حياة المؤمن، وهي إضافة إلى ذلك أساس الدعاء، واكتشاف الإنسان ذاته العاجزة”.
العجز بمعزل عن الإيمان موت مستمر وداء ملازم، علاجه وباعثُ الحياةِ فيه بإذن الله الإيمانُ. ذلك أن أقصر طريق لبلوغ ذلك العلاج هو الإطلال من نافذتي “العجز والفقر” اللتين تتفتحان بتمزيق المرض المادي لحجاب الغفلة، واللتين جُبلَ الإنسان عليهما.
يؤسِّس العجز والفقر في الطريق السريع للشفقة على خلق الله، وكلما تزايدت تنبسط الروح، وتدفع إلى الاستكثار من الخير، وينعش نموها خدمة البشر وتدفع إلى التعاون والتعارف؛ وأما الشفقة الناشئة من الغفلة والمبنية على توهّم المالكية فبتزايدها ينقبض الروح ويتألّم القلب.
تربط الشفقةُ القلبَ بالله سبحانه ليوصل صاحبَه إلى الله جل وعلا بأقصر طريق وأصفى شكل، وبلا مشكلات، مؤسسا على التفكّّر الإيماني؛ فالإنسان بالتفكّر المتعبّد يصبح إنسانا حقا، يذيب الغفلة به ويظهر الكون أمام بصره وبصيرته شاهدا واحدا موحدا دالا على حقيقة تعرف بوحدة الشهود في الدلالة على الطريق السريع.
الطريق السريع مسلك قصير وسبيل سوي، بشرط تزود راحلة (قلب) السالك بوقود العجز الموصل إلى “المحبوبية” بطريق العبودية، والفقر الموصل إلى اسم الله “الرحمن”، والشفقة الموصلة إلى اسم الله “الرحيم”، والتفكر الموصل السالك إلى اسم الله “الحكيم”. قال بديع الزمان مرددا لما قاله أحد الصالحين: “لقد رأيت أحد المتقين من أهل القلب في زاوية “التكية” يزاول السير والسلوك، ولكن بعد مضى بضعة أيام شاهدته في المدرسة بين طلاب العلوم الشرعية، فسألته: لِمَ تركت الزاوية التي تفيض الأنوار وأتيت إلى هذه المدرسة؟ قال: هؤلاء النجباء ذوو الهمم العالية يسعون لإنقاذ الآخرين مع إنقاذهم لأنفسهم بينما أولئك يسعون لإنقاذ أنفسهم وحدها إن وُفقوا إليها. فالنجابة وعلو الهمة لدى هؤلاء والفضيلة والهمة عندهم”، وهؤلاء يصدق فيهم ما قاله أستاذنا محمد الهادي الحسني نقلا عن العلامة محمد المبارك في قولته المشهورة: “تصويف السلفية وتسليف الصوفية”، بشرط أن يكون لكل منهما مطية (قلب) يسعفه في نيل المراد، لأن من افتقد الراحلة لم يبلغ المراد مهما بالغ في مدحه، ولا يمكن أن يرى عليه التواضع والتلطف الحقيقي المؤسس على الشفقة بالخلق وعلى رأسهم المخالفين في الملة فضلا عن الموالفين فيها، وإن تحلى بها فهي لضرورات اقتضتها حيلة التعلق بالدنيا بعنوان الآخرة، مخالفا بها مسلك الصالحين، في قولهم: “الحيلة في ترك الحيل”.