إن الصفات التي يتميز بها كتاب الله (القرآن) عن سائر الكتب السماوية كثيرة ومتنوعة. ولكني أحب أن ألفت النظر إلى مزيتين اثنتين، هما من أبرز مظاهر إعجازه، لم يرق على شأوهما أي كتاب آخر.
أما أولى هاتين المزيتين؛ فما نعلمه جميعا، من أنه وصل إلينا من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم ضمن سلسلة متصلة من التدوين الكتابي الدقيق، والتلقي الشفهي السليم، سارا جنبا إلى جنب إلينا في تطابق واتفاق، واستمر ذلك إلى هذه الساعة من يومنا هذا، لا نرى على طول هذه السلسلة الممتدة حلقة مفقودة أو ثغرة ينفذ منها الشك أو اختلافا يبعث على الريبة. فلكأننا من هذا الكتاب الرباني أمام شمس واضحة مشرقة تسير أمام أعيننا في قبة السماء الصافية، ليس في طريقها مزقة سحاب تفشي عليها، وليس بيننا وبينها أي زوبعة أو ضباب يمكن أن يحجب شيئا من ضيائها عنا.
إن مظهر جلال الربوبية في القرآن، يعني خلوه من الطبائع والصفات البشرية كلها، إنك إن تأملت في الآيات التي تقرؤها أو تصغي إليها من القرآن، رأيتها مرآة لجلال الربوبية وصفات الألوهية.
والحديث هنا لا يتسع للتذكير بالكتابة الأولى التي عكف عليها كتاب الوحي بأمر ومراقبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بالكتابة الثانية التي قام بها زيد بن ثابت بأمر من سيدنا أبي بكر وكان الهدف منها جمع القرآن لأول مرة بين غلافين، ثم بالكتابة الثالثة التي أمر بها سيدنا عثمان بن عفان وعهد بذلك إلى أربعة من كبار قراء القرآن وحفاظه وهم زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن حارث بن هشام رضي الله عنه، فكتبوا سبع نسخ ملتزمين بكتابة زيد بن ثابت الذي التزم بكتابة كتاب الوحي، واعتمد فيما كان يكتب على السماع من شاهدين اثنين من حفظة القرآن، بالإضافة إلى اعتماده على ما كان قد كتبه كتاب الوحي في بيت النبوة. فوزع عثمان النسخ السبعة على أمهات الأمصار آنذاك: الكوفة، والبصرة، والشام واليمن ومكة والبحرين، واستبقى عنده المصحف الإمام وهو ذاك الذي كتبه زيد بن ثابت في خلافة أبي بكر.
فأي خبر أو كتاب سار خلال القرون في مثل هذا النفق العجيب من الحفظ والوقاية ثم لم تستطع أي يد أن تدنو بأي عبث غليه أو تغيير لكلمة منه، على الرغم من كثرة من ابتغى ذلك. اللهم إن العقل لا يدرك أيّ موجب لهذه الوقاية إلا أن المصداق الدقيق الذي أعلنته القرون لقوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾(الحجر:9) ولقوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾(فصلت:41-42).
وأما المزية الثانية، فهي تلك التي ينبغي أن تُسمّى “مظهر جلال الربوبية” في القرآن.
وإنها لأبرز مظهر من مظاهر إعجاز القرآن. إنه المظهر الذي يسري الشعور به إلى العامة الذين لا يتمتعون بدراية واسعة للغة العربية، بل يسري الشعور به حتى إلى نفوس كثير من الأعاجم الذين لا يملكون من الثقافة القرآنية إلا إيمانهم العميق بالله عز وجل.
إن مظهر جلال الربوبية في القرآن، يعني خلوه من الطبائع والصفات البشرية كلها، إنك إن تأملت في الآيات التي تقرؤها أو تصغي إليها من القرآن، رأيتها مرآة لجلال الربوبية وصفات الألوهية. ومهما تأملت، فلن تجد في شيء منها إلا ما يضاد الطبيعة والحاجات البشرية ومظاهر الضعف الإنساني التي يفيض بها كلام الإنسان أيا كان، وأيا كان نوع الحديث الذي يتناوله.
إن من المعلوم أن الكلام مرآة دقيقة لطبيعة المتكلم وصفاته واحتياجاته، وما تتجلى الأغوار النفسية لشخص ما على شيء، كما تتجلى على ما يكتبه أو يقوله. لذا فإن من العسير أن يقلّد كاتب كاتبا آخر في أسلوبه إذا كتب.. لقد حاول كثيرون أن يقلدوا أسلوب الجاحظ مثلا، فلم يتأت لهم ذلك، لأن الأسلوب ليس طريقة معينة في صوغ العبارة فقط، بل الأسلوب -قبل ذلك- مرآة دقيقة لنفسية صاحبه، فلئن استطاع أحدهم أن يقلّد الآخر في صوغ العبارات، فهيهات أن يستطيع تقليده في خصائصه النفسية وطبائعه البشرية.
فإذا كان هذا واضحا، فأحرى -في باب البداهة والوضوح- أن لا يستطيع الإنسان -أيا كان- أن يتجرد عن بشريته وصفاته الإنسانية، ثم يجعل من نفسه إلهاً يتصف بكل ما لا بدّ أن يتجلى في ذات الله من مظاهر الربوبية المضادة للطبيعة البشرية، ثم ينطق بكلام تبرز فيه هذه الألوهية بكل ما فيها من كبرياء وجلال.
إن هذا مستحيل بلا شك، لأن الطبيعة البشرية لا يمكن أن تتخلّى عن صاحبها لحظة من حياته.
براءة القرآن من المظاهر البشرية
ولكن القرآن مبرّأ من سائر مظاهر البشرية والضعف الإنساني وحاجاته الفطرية. إنه الكلام العجيب الذي يشعّ بجلال الربوبية ومظاهر الألوهية من خلق وإيجاد وإحياء وإماتة وسيطرة وإحاطة.. وإنه لشعاع بيّن يخترق إلى السامع والقارئ حواجز اللغة وفوارق ما بينها.
إليكم هذه النماذج من الآيات التي تتنـزل من علياء الربوبية، وليسأل كل منا عقله: أفيمكن أن تكون هذه الآيات مما يستطيع أن ينطق به بشر من الناس؟!
﴿فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا * ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا * ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا * وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا﴾(مريم:68-72) ﴿إِنَّنِي أَنَا اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي﴾(طه:14) ﴿وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَلَوْلاَ أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا * وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَ يَلْبَثُونَ خِلاَفَكَ إِلاَّ قَلِيلاً * سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً﴾(الإسراء:73-77) ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ﴾(الحجر:49-50) ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ﴾(الذاريات:56-57) ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ * يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ﴾(ق:43-45)
فلنتأمل في هذه الآيات وأمثالها، ولنتبين ما يشعّ فيها من جلال الربوبية والسطوة الإلهية، ثم دعونا نتساءل: أفيمكن أن يكون هذا الكلام مما يمكن لبشر من الناس أن يصطنعه اصطناعا، وأن ينطق به تمثيلا أو أن يتحلّى به تزويرا؟
أَمَا إن الطبع لغلاّب، وليقم أي فرعون من الفراعنة المتألهين أو المتجبرين، ثم ليجرب أن ينطق بمثل هذا الكلام الذي يتنـزل من علياء الربوبية، ويغمر نفس السامع والقارئ بمشاعر الهيمنة والجلال، فإن لسانه سيدور في فمه على غير هدى، مهما حاول، فسيأتي بكلام يكشف بعضه بعضا، فيه محاولة التمثيل، ولكن بشريته ومظاهر ضعفه الإنساني تعرّيه وتكذّبه.
وعندما يهيمن القرآن، ويأخذ بمجامع النفس، ويملأ الفؤاد هيبة وتعظيما له، فإن الذي يبعث ذلك كله في النفس، إنما هو مظهر جلال الربوبية فيه، وهو من أجلى مظاهر إعجازه.
صفحة مشرقة
وإليكم هذه الصورة التي تبرز هذه الحقيقة في هذا الواقع المشاهد الذي سجله التاريخ:
نزل عثمان أرطوغرل جد الخلفاء العثمانيين، ضيفا على قريب له في “بورصة”، ولما حان وقت رقاده، ودخل عثمان الغرفة التي هيئت له لينام فيها، رأى شيئا معلقا على أحد جدرانها، فدنا منه ليتبينّه، وإذا هو مصحف يزيّن الجدار، فاتخذ منه موقف الجندي من قائده، وأثبت كفا على أخرى ملصقتين بصدره، وبقي كذلك واقفا لا يتحرك إلى الفجر.
ذلك هو سلطان جلال الربوبية، تجلّى أثره في شخص عثمان أرطوغرل، وفعل فعله في كيانه. أما ثمرة ذلك على شخصه الإيماني وكيانه الوجداني، فقد برزت في سلالته الطاهرة التي أورثها الله مقاليد الخلافة الإسلامية، وجدد بها عهد الازدهار الإسلامي في بقاع الدنيا.