الثقافة السننية وأسسها الإيمانية

السنن الإلهية في عقيدة المسلم جزء من رؤية كونية شاملة متكاملة، مدارها ومحورها الرئيس “التوحيد”، المؤسس لرؤية كونية متميزة، تعرف بالرؤية التوحيدية للعالم، رؤية شاملة لجميع جزئيات الكون.

إن الثقافة السننية صناعة معرفية، تتأسس على بحث ودراسة موضوعية ثم التحقق العملي، فضلاً عن العلمي (النظري) بالسنن في مجالات الحياة كلها، صعوداً ونكوصاً، في الأمور الصغيرة كالأمور الكبيرة سواء بسواء، في الحياة الفردية والحياة الاجتماعية والمجتمعية، بل تتعداها لتكون ثابتة في كل مجالات الحياة، فلا تعزب عنها الأمم والشعوب، بصرف النظر عن تديّنهم أو عدم تديّنهم، مع ملاحظة ما للإيمان في بعث الفعالية بأبعادها الإنسانية في حياة المؤمن الفردية والاجتماعية.

نتوقف في هذه الحلقة عند الأساس الإيماني لثقافة السننية، لما له من دور كبير في التفكير في بعث الفعالية الإيمانية، فضلاً عن السعي العملي، للتحقق بها ثم تحقيقها بالفعل فيشعاب الحياة، فهل يُرى في الكون بعناصره المادية أو المعنوية ما يبعث على قبول فوضوية سير الكون، فصغير عناصره ككبيرها في الدلالة على انضباطها بقوانين الله سبحانه وتعالى المستودعة فيها.

وإذا أراد الإنسان الانسجام مع الكون، فليس بحاجة غير الانضباط بقانون نفسه (الفطرة) التي استودعها الله سبحانه وتعالى فيه من خلال الانضباط بقانون الله سبحانه وتعالى المسطور. وبهذا تكون الصورة متكاملة متناغمة يتوافق فيها مستودع الفطرة مع الكون المنظور والكتاب المسطور، ذلك أنها تصدر عن قرار واحد وقانون واحد؛ فعندما نوفق في العمل بالقانون المسطور نأتي الكون المنظور بما أمر خالقه أن نأتيه به، وهذا مبعث فعالية الثقافة السننية وتأكيد على أساسها المعرفي الإيماني. فخذ مثلا لفظ “التسخير” الوارد في الذكر الحكيم، وتَتَبّع متعلقاته في القرآن الكريم، فتجد أن مكونات الكون (الشمس، القمر، الفلك، البحر، الأنهار، الليل والنهار، السموات والأرض وما فيهما، الجبال، الطير، الرياح…) ووفق صريح القرآن الكريم مسخّرات بالأمر التكويني الذي جعلها الله سبحانه وتعالى عليه، قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُنِيرٍ﴾(لقمان:20)، والمتحقق بلفظ التسخير، لا يمكن أن يقدّس أي مظهر من مظاهر الكون من جهة، ومن جهة أخرى يعمل على التعامل مع الكون بثقافة سننية، تفرض أن يستثمر التسخير الإلهي للكون، فيدعى إلى اكتشاف قوانين سيرها والإفادة منه، في حياته المادية والمعنوية. لهذا كان الإيمان القلبي المؤسس على القناعة العقلية، أساساً لبعث فعالية الثقافة السننية.

محور السنن الإلهية “التوحيد”

مبعث فعالية الثقافة السننية في المتحقق بها الإيمان، بمعنى الثقة واليقين بأن السنن ليست إلا قوانين الله سبحانه وتعالى في الخلق. ذلك أن السنن الإلهية في عقيدة المسلم جزء من رؤية كونية شاملة متكاملة، مدارها ومحورها الرئيس؛ “التوحيد” المؤسس لرؤية كونية متميّزة، تعرف بالرؤية التوحيدية للعالم، رؤية شاملة لجميع جزئيات الكون، تنخرط جميعها في إطار متكامل ورؤية شاملة متناغمة، يحكمها التوحيد مدار العقائد والأخلاق والشرائع كلها، رؤية لا تنافر بين عناصرها، تجعل الكون بعناصره المادية والمعنوية أشبه بمحرك تنبعث عنه نتائج متناغمة وتصرفات متناسقة تؤدي دوراً وظيفيًّا يقصد خدمة الإنسان، لهذا تراه يستوعب حاجاته المادية؛ ما ينفع الناس في معاشهم المادي، وحاجاته المعنوية؛ ما ينفع الناس في معاشهم المعنوي، من نحو الجمال والنظر إلى تجلي الجلال، وإشباع حاجة الأرواح والقلوب إلى الراحة الروحية.. فضلاً عن أن الكون مصدر العطايا، فهو إضافة إلى ذلك مرايا التوحيد، حتى صارت عناصر الكون شهوداً كثيرة على التعريف بالله سبحانه وتعالى من خلال نظامه المتجلي في السنن، والتي نحن بصدد بيان أهميتها الإيمانية في حياة المسلم.

نخلص إلى أن الكون يسير وفق سنن مضبوطة لا تُحابي أحداً على حساب أحد، ذلك أنها ربانية المنشأ والمنبت، ولهذه الميزة تحررت من أن تكون ضد فلان أو علان من الناس، كما تحررت في الوقت نفسه من أن تتهم بالتحيّز لبعض البشر على حساب بعض، بل هي مستقلة عن البشر في أصل وضعها وفي استدرار نتائجها والانتفاع بها في شعاب الحياة. فالربانية وإن كانت أساساً إيمانياً، فإنها مبعث العمل العلمي على تعقلها في سيرها وكيفيات استثمار خيراتها، ودعوة صريحة إلى العمل بها لمن رَغب في النجاح في الدنيا والفلاح في الآخرة.

السنن الإلهية ربانية

سنة الله سبحانه وتعالى، قانونه في تقدير الأشياء إيجاداً وبقاءاً ومصيراً، فهو موجدها وهو حامي بقاءها وإليه يعود مصيرها. وقد عبّر القرآن الكريم عن تلك الحقيقة بعنوان “سنة الله”: ﴿فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلاً﴾(فاطر:43)، بمعنى أن واضعها هو الله سبحانه وتعالى، وهو ربها مُمِدها بعناصر الوجود والديمومة إضافة إلى امتلاك مصيرها، وبالتالي لا تؤتي ثمارها إلا إذا جئتها بما يوافق سنن الله فيها، بحيث تنال منها بقدر انسجامك مع قانون سيرها، ولا مطمع في نيل نتائج بغير معرفة تلك القوانين ثم تمثلها بالفعل في النظر والتطبيق.

واضح من عنوانها “سنة الله” أنها من وضع الله سبحانه وتعالى، ليس للبشر فيها أكثر من اكتشافها، والنسج على منوالها، لاستدرار خير الكون، وتلافي ما كان منها منتِجاً للشر دفعاً لشر أو ضرر.

السنة الإلهية هي الخلق، وهي صورة من صوره، ومنه يستفاد دليل النظام على المنظم (دليل الخلق أو دليل الكوسموس)، والسنة من حيث كونها كذلك، تقتضي التكرر، وهي بهذه الميزة قابلة للاكتشاف، ذلك أنها مُيسّرة الكشف ثم الاستثمار. يشهد لهذا منطوق القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾(آل عمران 137).

الانضباط وفق قواعد

 السنّة تقتضي الانضباط وفق قواعد، يدل على ذلك تكررها الدال بنفسه على انضباطها بقواعد رئيسة، لا تحيد عنها، في وضعها العادي المألوف، يسير وفقها الكون ووفقها أيضا يحافظ على وجوده وبقائه، مما يسمح لحضارتها المؤسسة بالتطور المقصود، تقوده سنن ثابتة، يسعى المسلم إلى تمثلها والانضباط بها في تصرفاته.

قال جمال الدين القاسمي في تفسير قوله تعالى: ﴿سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً﴾(الفتح:23)، أي “مضت في كفار الأمم السالفة مع مؤمنيها، ولن تجد لسنة الله سبحانه وتعالى تحويلاً، أي تغييراً. واستشهد في هذا المقام بقول ابن جرير: “بل ذلك دائم، للإحسان جزاؤه من الإحسان، وللإساءة والكفر العقاب والنَكال”.

الانضباط في سير السنن، يفرض موضوعيًّا النسج على منواله، استدراراً لخيرها وانتفاعاً بالسنن الآفكة، تلك التي تكون نهايتها الخسران في الدنيا والآخرة. وهي من هذه الزاوية قابلة للاستثمار على وفق جعلها، بشرط تحويل معرفتها إلى موقف اجتماعي وحضاري في مباشرة التغيير.

رغم سير الكون على السنن المضبوطة؛ فإن من مشمول تلك السنن أن تُخرق تلك السنن تأييداً لنبي. فليس غريباً أن يُظهر الله سبحانه وتعالى المعجزات على أيدي الأنبياء، تأييداً لهم ودليلاً على اتصالهم بالملإ الأعلى. لهذا نؤكد أن من السنن بمفهومها العام؛ المعجزات المندرجة بدورها في عادة الله سبحانه وتعالى في تأييد الله أنبياءه ورسله عليهم الصلاة والسلام، بل وفي تأييد عباده الصالحين العاملين، قال تعالى: ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾(محمد:7).

من منطلق خاصية ربانية السنن، أَبعد المسلمُ صفة التقديس عن الكون ومكوناته، ولهذا كان الكون في عالمه المادي والمعنوي قابلاً للاكتشاف والمعرفة عند المسلم، ذلك أنه منضبط بقوانينِ خالقه، وهو المعبّر عنه بمنطلق التوحيد المؤسس النظري لفكرة التسخير. وبهذا يتأكد عندنا الأساس الإيماني للثقافة السننية، وهو مبعث التحقق بالسنن علميًّا والعمل بمقتضاها تطبيقيًّا، وتيسيراً لنفث روح الفعالية في تصرفاتنا.