لا شك أن قضية الجمال أصبحت تحتل المقام الأول في عقول الشباب وقلوبهم. ولعل الأمر يبدو طبيعيًّا وعاديًّا بعد التغيرات التي تحصل في الجسم والفكر والروح في مراحل الشباب الأولى، إلا أن التركيز على الجمال الخارجي والجسدي لدى الإنسان المعاصر، يكاد يصبح هوساً وجنوناً واستعباداً -إن لم يكن أصبح كذلك فعلا- بشكل يفتح المجال للقول: إنه ردة حضارية مهولة لعصور عفا عليها الزمن.
ونعلم أن العرب قبل الإسلام كانوا يقدرون الجمال تقديراً كبيراً، لكنهم كانوا يرونه في الأشياء المادية الحسية، مثل جمال المرأة والفرس والطلل وغير ذلك من المظاهر المادية، ويعبرون عنه ضمن مشاعر عاطفية لا تتجاوز الحس في أغلب الأحيان. ولما جاء الإسلام ارتقى الإحساس بالجمال، وتعمق حين زاوج بين جمال الظاهر والباطن، وتمثل في نصوص قرآنية وحديثية عدة؛ أبرزت قيمة الجمال وأضفت عليه معاني ودلالات جديدة. وكل هذه النصوص تبرز أن الله سبحانه وتعالى مصدر كل جمال في هذا الكون، وكل ما في هذا الكون من حسن وجمال هو من الله سبحانه وتعالى الذي صنعه وحسّنه. فهو سبحانه ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾(السجدة:7) وأتقنه: ﴿صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾(النمل:88)، بل إن الجميل اسم من أسماء الله الحسنى وصفة من صفاته العليا.
وحين نستقرئ كل الآيات القرآنية التي تعلقت بالجمال ومفرداته المرتبطة به، ندرك عمق الدلالات التي يحيل عليها الحديث الذي يرويه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم: “إن الله تعالى جميل يحب الجمال” (رواه البخاري)، كما نشعر بمدى بعدنا عن هذه الدلالات التي لا شك في كونها كانت ستفتح لنا آفاقاً واسعة من السعادة والحب لو ارتبطت بحياتنا وممارساتنا وعلاقاتنا، ولم نقنع بالجمال الظاهري.
وأول ما يستوقفنا في مجال الجمال الإنساني في النصوص القرآنية قوله تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾(التين:4)، ﴿وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ﴾(غافر:64)، ﴿الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ﴾(الانفطار:7-8). فمثل هذه الآيات تصب في التكوين الجسماني كما تصب في التكوين الروحي، ولذلك كان التحسين والتسوية والتقويم دليلاً على هذا التوازن الجمالي بين الروح والجسد.
أما الناظر في الآيات التي تبرز الجمال في الكون، فإنه لا شك سيقف مشدوهاً أمام طبيعة هذا الجمال وعمقه الذي نحاربه في كل حياتنا بوسائل مختلفة؛ ابتداءً من رمي الأوساخ في الطرقات والأحياء، إلى إشاعة الشر والفاحشة والظلم، وكل أنواع القبح. ونتأكد أننا أبعد الناس عن تذوق الجمال الذي هو من أعظم نعم الله سبحانه وتعالى، الأمر الذي يجعل الطباع خشنة وقاسية، والحياة فارغة من معانيها الجميلة التي بثها الله سبحانه وتعالى للتمتع بها.
يقول تعالى: ﴿وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ﴾(النمل:60)، ويقول في آية أخرى: ﴿أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾(ق:6-7).
ولذلك نلاحظ أننا أينما مددنا أبصارنا نجد قبحا منتشراً، بشكل يجعلنا نكاد نجزم باختلال علاقة الإنسان بالجمال في الحياة التي نعيشها. وبالتالي فقد الإنسان عنصراً مهمًّا من مقومات الحياة الطيبة، وانهارت قيمة عليا من القيم التي تحكم العلاقة بين الإنسان والإنسان، والأحياء والأشياء والكون كله. وهذا لا يعني أننا لا نتذوق الجمال الشكلي، أو ندعو إلى نبذه ورفضه. فجمال الشكل مرغوب كما ذكره لنا الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف عند اختيار الزوجة: “تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك” (متفق عليه).
وإنما الذي نعنيه هو التشويه المهول للجمال أو اختصاره على أقل تقدير، والرغبة التي تدفعنا في هذه اللحظات الحرجة التي تعيشها الأمة في جميع الميادين ومختلف المستويات، إلى افتقاد التربية الجمالية التي تسمو بمشاعرنا وعلاقاتنا إلى آفاق الحب والتسامح، والعزة المؤدية إلى السعادة والخير، ليس للأمة وحدها وإنما للبشرية جمعاء التي جفت مياه الجمال من أشكالها، وانغمست -ونحن وراءها- في مستنقعات من القبح، إلا من بصيص من الجمال الذي لا يروي الروح وإن شبع منه الجسد.
وفقدان هذه التربية الجمالية هي التي تجعلنا لا نكاد نحس حتى بجمال تديننا؛ ولنأخذ الصلاة كمثال؛ كم مصلٍّ منا يتذوق جمالها، جمال الشكل: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾(الأعراف:31) مع جمال الاستقامة وجلال الخشوع لله سبحانه وتعالى، جمال انتظام أجسام المؤمنين في الصفوف إذا انتظمت مع جمال وحدة قلوبهم، وصفاء أرواحهم عندما تسمو في معارجها إلى الله سبحانه وتعالى، كلما ركعت لله أو سجدت رغبة أو رهبة أو محبة وتذللاً، أو استمعت إلى القرآن يتلى متدفقاً في معانيه الراقية، وأسلوبه الجمالي الآسر الذي يفيض حسناً ويشع بهاء..
ألسنا في أمسّ الحاجة إلى إعادة النظر في مفهومنا للجمال، وإلى تربية أذواقنا تربية جمالية مستمدة من القرآن الكريم، تعيد لنا التوازن الذي نفتقده في حياتنا.