لا يحتاج الباحث كبير عناء للوصول إلى الدراما في القرآن الكريم، فحين نسلط الضوء على بعض المشاهد القرآنية ونعرضها على أحكام فن الدراما، نرى ضيق المسافة الشديد بين هذه المشاهد والدراما، إلى درجة أن يتبادر إلى الذهن أنهما مفهوم واحد، ولا سيما إذا كانت المشاهد حوارية.
قال الدكتور محيي الدين عبد الحليم، وهو أستاذ الدراسات الإعلامية في جامعة الأزهر: “ليكن كتاب الله الكريم لنا خير معلم، انظر إلى “الدراما” وهي التسمية المتعارف عليها بلغة الإعلام المرئي والمسموع، انظر إليها في القرآن الكريم، تجد لها بصمة واضحة في قصة يوسف، وقصة أيوب، وقصة خليل الله إبراهيم عليهم جميعًا السلام، انظر إلى “الدراما” القرآنية في قصة أهل الكهف، لقد عرضها الله تعالى عرضًا محكمًا على نبيه الكريم”.
فقد عرض القرآن الكريم بعض مشاهده القصصية عرضًا دراميًا، تضمنت خصائص الدراما البنائية من التمهيد الدرامي، والذروة الدرامية، وخصائصها الأسلوبية، كالتشويق والخطف خَلْفًا وغير ذلك، بالإضافة إلى المعهود من خصائص البيان القرآني الأخاذ.
فنجد مثال ذلك في قوله تعالى في سورة القصص:
﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ * فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ * وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلاَ أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ * فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾(القصص:7-13).
تمثّل هذه الآيات نصًّا دراميًّا متكاملاً تتحول فيه الكلمة إلى لقطة، والجملة إلى مشهد. فحين يسمع القارئ الآيات، تسبح مخيّلته في زوايا المشاهد وتحاكي معاني النص بحاسة البصر، وكأن المرء يرى مشاهد مصورة، بينما يقوم السمع عادة بإدراك معاني النصوص القصصية الأخرى.
التمهيد الدرامي
يبدأ العرض الدرامي بالتعريف بالشخصيات، من حيث أفعالهم ومراكزهم الاجتماعية ونحو ذلك؛ كي يدخل السامع في الحكاية الدرامية على نحو يؤهله للتفاعل مع أحداثها، ويتشكل بذلك منطلق الدراما. ثم تبدأ “نقطة الهجوم” بالحديث عن وحي الله سبحانه وتعالى لأم موسى عليه السلام: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾.
وفي أول النص، يجد السامع صعوبة في فهم ما تقوم به أم موسى التي تسكن على إحدى ضفاف نهر النيل، فقد فتحت في جدار بيتها ثقبًا وألقت ولدها من خلاله في اليم، بعد أن وضعته في صندوق خشبي مربوط بحبل، وربطت طرفه الآخر بجدار البيت الخارجي. ولكن السامع سرعان ما يدرك السبب إذا رجع إلى مستفتح السورة حيث قوله تعالى: ﴿طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾(القصص:1-4). فالمرأة تخفي ولدها خوفًا من الملك الذي يقتل المواليد الذكور وجنده الذين يفتّشون بيوت بني إسرائيل. فبداية السورة تمثل التمهيد الدرامي، على الرغم من كون سبكها القصصي قائمًا على أسلوب الروي البعيد من حيث الظاهر عن الدراما، لأنه غلب أن تعتمد الدراما على الحوار لا الروي.
الذروة الدرامية
وذات يوم فاجأها الجند مداهمين البيت، فألقت صندوق الرضيع من غير أن تربطه بالحبل! وهنا تبدأ الأحداث بالتأزم والتوتر حين يسير التابوت مع مسيل النهر، حتى يدخل مياه قصر الطاغية فرعون ويلتقطه حاشيته. وهنا أيضًا تحتبس أنفاس السامع، وتزداد نبضات قلبه عددًا وتسارعًا، وهذا الحدث تحديدًا هو ما يمثّل الذروة الدرامية، ويتجسد في قوله تعالى: ﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا﴾، إذ تتجمع هاهنا عناصر التوتر كافة، المرأة تجازف في كل مرة بولدها فتقذفه في التابوت، وتقذف التابوت في اليم استجابة للإلهام الإلهي، ثم ينتهي الأمر بأن يقع الوليد في حجر قاتل الأطفال. وتقوم أحداث الذروة على المفارقة الدرامية، فقد استجمعت أقصى ما يمكن أن يعد من باب سوء التفاهم، فالحوار الصادق سيؤدي إلى قتل الصبي، فضلاً عن إلحاق الأذى بأمه وربما بأهله جميعًا، لأن منطق الطغيان يقوم على استعباد الآخر واستباحة خصوصيته. وفيما وصلت إليه الأم الثكلى من حال يكمن التحدي الإيماني، والصراع ما بين تصديق وعد الله والواقع المؤلم، ويعبر البيان القرآني بقوله تعالى: ﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلاَ أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾. وفي هذه اللحظة يتكثف التشويق، ويبلغ الجذب غايته، ويأسر المشهد متابعيه في الاستمرار في إكمال أحداثه حتى النهاية.
ثم تبدأ الذروة بالانحلال رويدًا رويدًا: ﴿وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾. فها هو الصبي ينجو من القتل، بل ها هو ذا يعيش ولدًا مدللاً في أكثر الأماكن أمنًا في مصر، في قصر فرعون قاتل أبناء بني إسرائيل.
وفي زحمة هذه الأحداث، ينزلق حدث مفصلي يتمم حل الذروة الدرامية، فتنفرج الأمور حين يرفض الصبي -المحبوب من زوجة فرعون وأهل القصر- الرضاع إلا من أمه، ويعلن البيان الإلهي نهاية التوتر بقوله: ﴿فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾.
الحبكة الدرامية
والبديع أن البيان الإلهي لم يقفل الحديث عن مشاهد الطفولة الأولى لموسى عليه السلام، إلا بعد أن قدّم تمهيدًا دراميًّا جديدًا للأحداث اللاحقة. فقوله تعالى: ﴿لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا﴾. يمهد لجملة مشاهد من الصراع تحملها الآيات التالية من السورة.
نجد من خلال هذا المثال قوة الحبكة الدرامية وترابطها، وتسلسلها الرشيق، إذ لا يحتاج السامع إلى كبير عناء ليدرك انسجامها، إلى درجة أن يكون هو أحد أبطال الواقعة، فمرة يتصور نفسه الأم بشفقتها الشديدة، وذوبانها في حماية ولدها وإيمانها الراسخ، ومرة يجد نفسه الأخت الذكية التي تتابع التابوت على ضفاف النهر، ويحيا في ثنايا ذلك كله، الحالة النفسية لأبطال القصة، بأبعادها الإنسانية والإجرامية على السواء، لأن النص القرآني قد اتخذ من التصوير الفني أسلوبًا للعرض الدرامي، لما يقوم به التصوير من تحويل الكلمة إلى لوحة، وكأن القلم في يد الكاتب ريشة في يد فنان، تغترف الألوان من مخيلته حتى تجردت كلماته من قسوة القلم الذي ينحت المعنى من معجم الكاتب.
فهذه الدراما في القرآن الكريم وأمثالها، لا تنقل الحدث إلى السامع كالقصة أو الرواية، بل تنقل السامع نفسه إلى قلب الأحداث، وكأنه قد أسهم في صنع الحدث. وهذا كله يدلّل على التماسك الدرامي الشديد في هذه الدراما.
وهكذا فقد عرض لنا القرآن الكريم في هذا النص دراما متميزة، قد استجمعت من خصائص البناء الدرامي أتمه، وبرزت فيها أجزاء العمل الفني المبدع، واتسمت باللغة الحوارية الرشيقة، وانتقلت بالحدث من عمق زمانه، ووضعته بين يدي السامع كأنه يقع أمام ناظريه، بل كأنه أحد شخصياته. ومن أجل هذا كله، فإنها تصلح أن تكون مثالاً تدريسيًّا نموذجيًّا للدراما المتميزة.
صدق التصوير وسعة التخيل
ومما ينبغي التنويه إليه، أنه على الرغم من اجتماع أعلى عناصر النجاح في هذه الدراما، لم يخرج النص عن صدقه في محتوى الدراما، ولا في حبكته الدرامية، فلم يسلك مسلك توسيع الأحداث والتفاصيل، أو ابتكار شخصيات وأحداث جديدة، أو توسيع محل القصة الدرامية التي يعبر عنها زمانيًّا أو مكانيًّا، بل انتهج طريقًا أخرى، محافظة على صدق الأحداث، فوسع مخيلة السامع، وفسح أمامها آفاق التصور، مستعملاً طرق التصوير الفني المتعددة، فوجد السامع نفسه في ساحة الأحداث، يستجيب لما يمليه كل حدث من انفعال نفسي، فتتلوّن قسمات وجهه وحركات جسده، حسبما يفرض الحدث ويتطلب الموقف.
لقد استطاع البيان القرآني ببراعة، أن يحول القصص التاريخية التي عفا عليها الزمان، وقضى أصحابها منذ قرون متطاولة، إلى دراما فنية، فاستطاع أن ينبش أشخاصهم وليس أحداثهم فحسب، وكأنك تجالسهم وتصافحهم وتواكلهم وتشاربهم. فلئن كانت القصة التاريخية تحيي الأحداث، فإن الدراما القرآنية تحيي الأشخاص والأحداث معًا، فكأنك تعيش مع أبطال القصة، مع تدرج الأحداث، بل وتدرج أزمانهم: فأنت ترى موسى عليه السلام في مهده، بل تراه قبل أن يولد، من خلال التمهيد الذي تقدمه القصة لما سيحدث فيكون لك تصور لما سيأتي. ثم تراه بعد ذلك رضيعًا، ثم تراه في التابوت، ثم تراه فتى في قصر فرعون، ثم تعيش معه بعد ذلك في محنته، ثم تراه في أهل مدين وهو يخطب الفتاة على ماء مدين، ثم تراه بعد ذلك رسولاً نبيًّا، ثم ترى السحرة وهم يسجدون معه لله رب العالمين…
لقد عاش موسى عليه السلام من جديد مع الدراما القرآنية، فلم تكن مجرد أحداث من حياة موسى عليه السلام استرجعها النص القرآني على الطريقة التاريخية أو القصصية.
هكذا تفعل الدراما القرآنية في المشهد؛ تحول الصمت كله إلى ضجيج، والسكون إلى حركة، والأبيض والأسود تحولهما إلى ألوان زاهية تسر الناظرين وتبعث في قلوبهم أنواعًا كثيرة من الحياة. لم يكن القرآن في قصته مجرد سارد أو قاص، إنما تصرّف بالدراما كأنه مصور يأخذ السامع إلى الحدث، وليس يأخذ الحدث إليه. فإننا نعلم أن المخبر ينقل الحدث إلى السامع. ولا نعلم أنه يمكن للقاص أن يدخل في جوف الحدث فيأخذ معه السامعين، ولا نرى هذا إلا في دراما القرآن الكريم.