يقول ربنا تبارك وتعالى في محكم كتابه: ﴿وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾(الحديد:25).
وهذه الآية الكريمة تشبه إنزال الحديد من السماء إلى الأرض بإنزال الوحي إليها، وتؤكد بأس الحديد الشديد ومنافعه للناس.
ونحن نعرف اليوم أن عنصر الحديد هو أكثر العناصر انتشارًا في كوكب الأرض ككلٍّ، حيث يكون الحديد وحده أكثر من 35% من مجموع كتلة الأرض المقدّرة بحوالي ستة آلاف مليون مليون مليون طنًّا (5974 × 1018 طن)؛ وهو رابع عنصر انتشارًا في قشرة الأرض، حيث تصل نسبته إلى 5,6%، وهذا التوزيع معناه أن أغلب حديد الأرض مركّز في قلبها وأوشحتها الداخلية. وقد ثبت بالفعل أن للأرض لبًّا صلبًا داخليًّا تصل نسبة الحديد فيه إلى 90%، ونسبة النيكل إلى حوالي 9% وهو من مجموعة عناصر الحديد، بالإضافة إلى حوالي 1% عناصر خفيفة من مثل الكبريت والفوسفور والسيليكون. ثم يلي ذلك اللب الصلب إلى الخارج لب سائل له نفس التركيب الكيميائي، ثم أربعة أوشحة متمايزة تتناقص فيها نسبة الحديد من الداخل إلى الخارج بالتدريج حتى تصل إلى قشرة الأرض وبها 5,6% حديد.
وهنا يبرز التساؤل الهام؛ كيف أنزل حديد الأرض إليها من السماء؟ وكيف اخترق غلافها الصخري؟ وكيف تركز في قلب الأرض؟ وكيف تناقصت نسبته بانتظام من مركز الأرض إلى سطحها؟
وللإجابة على هذه الأسئلة لابد من النظر إلى الأرض بصفتها جزءًا من الكون المحيط بها، والذي أثبتت الدراسات مؤخرًا، أن الغالبية العظمى من تركيبه تتمثل بغاز الإيدروجين والذي يشكل أكثر من 74% من مادة الكون المنظور. والإيدروجين هو أخف العناصر المعروفة وأقلها بناءً، ويلي الإيدروجين كثرة في الجزؤ المدرك من الكون غاز الهيليوم الذي يكون حوالي 24% من مادة الكون المنظور، وأن باقي 108 عناصر يعرفها إنسان اليوم تكون أقل من 2% من مادة الكون المنظور.
هذه الملاحظات أكدت أن نوى ذرات الإيدروجين، هي اللبنات الأساسية التي تخلقت منها ولا تزال تتخلق كل العناصر الأخرى، بعملية تسمى باسم عملية الاندماج النووي، وأن هذه العملية الاندماجية لنوى الذرات تمثل وقود النجوم، لأنها عملية مطلقة للطاقة، وأنها السبب الرئيسي لتوهج النجوم.
وعملية الاندماج النووي في شمسنا، لا تكاد تتعدى إنتاج الهيليوم، بالإضافة إلى نسب ضئيلة من عناصر أعلى في وزنها الذري لا تصل أبدًا إلى الحديد، ولا تكاد تتجاوز إنتاج بعض نوى ذرات الألومنيوم والسيليكون. ولكن الشمس، بها نسبة من الحديد لا تتعدى (0037,-%) سببها كتل النيازك الحديدية التي تسقط على الشمس كما تسقط على الأرض.
وهناك أدلة كثيرة على أن الأرض وباقي أجرام المجموعة الشمسية قد انفصلت أصلا من الشمس، وأن الشمس لا تصل فيها عملية الاندماج النووي أبدًا إلى مرحلة إنتاج الحديد، بل تتوقف قبل ذلك بمراحل كثيرة. وهنا برز السؤال الهام: من أين جاء هذا الكم الهائل من حديد الأرض والذي يقدر بأكثر من ألفي مليون مليون مليون طن (2145 مليون مليون مليون طن)؟
وشمسنا نجم متواضع تصل درجة حرارة سطحه إلى ستة آلاف درجة مئوية، ودرجة حرارة جوفه إلى حوالي 15 مليون درجة مئوية، بينما تقدر درجة الحرارة اللازمة لإنتاج الحديد بعملية الاندماج النووي بخمسة بلايين درجة مئوية على الأقل، وذلك اتجهت أنظار العلماء في بحثهم عن مصادر للحديد في عدد من النجوم التي تفوق درجة حرارتها درجة حرارة الشمس بمعدلات كبيرة؛ من مثل النجوم العملاقة (التي تقدر كتلة الواحدة منها بعشرة مرات قدر كتلة الشمس على الأقل) وتصل درجة حرارتها في مراحل انفجاراتها الأخيرة إلى بلايين الدرجات المئوية. وقد لاحظ علماء الفلك والفيزياء الفلكية في المراحل المتأخرة من انفجار النجوم العملاقة والمعروفة باسم “المستعرات العظمى”، أن عملية الاندماج النووي للإيدروجين، تتواصل حتى تنتج نطقًا تترتب من الخارج إلى الداخل من الإيدروجين، ثم الهيليوم، ثم الكربون، ثم الأكسجين، ثم السيليكون، ثم الكبريت حول قلب من نوى ذرات الحديد. وعندما تصل عملية الاندماج النووي إلى إنتاج الحديد، تتوقف العملية بالكامل وينفجر النجم لتتأثر أشلاؤه في صفحة السماء وأهمها الحديد، الذي تصل شظاياه إلى مختلف الأجرام السماوية التي تحتاج إلى ذلك العنصر، بينما تتخلق العناصر الأعلى في وزنها الذري من نوى ذرات الحديد السابحة في صفحة السماء باصطيادها عددًا من اللبنات الأولية للمادة. وبذلك ثبت الأصل السماوي للحديد في أرضنا، بل في مجموعتنا الشمسية كلها، وأنه قد أنزل إلى أرضنا إنزالا مجازيًّا كما تخيل السابقون من المفسرين الذين وقفوا عاجزين عن تفسير إنزال الحديد إلى الأرض فقالوا: إن الفعل “أنزلنا” هنا قد يكون بمعنى “أوجدنا” أو “خلقنا” الحديد بتلك الصفات التي أعطته البأس الشديد والمنافع العديدة للناس. وجاء العلم الكسبي في قمة من قممه، مؤكدًا دقة التعبير القرآني الذي يقول فيه ربنا تبارك وتعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ﴾(الحديد:25)، ومؤكدًا أنه إنزال حقيقي وليس إنزالا مجازيًّا.
ودفعت هذه الملاحظات العلمية الدقيقة بكل من علماء الفلك والطبيعة الفلكية وعلماء الأرض إلى التصور الصحيح، بأن أرضنا حينما انفصلت عن الشمس لم تكن سوى كومة من الرماد ليس فيها من العناصر شيء أثقل من الألومنيوم أو السيليكون، ثم رجمت تلك الكومة بوابل من النيازك الحديدية كما تصلنا النيازك الحديدية في أيامنا الراهنة تمامًا، ولكن بكميات أكبر بكثير. وبحكم كثافتها العالية وسرعتها الكونية الهائلة، أدى ارتطام تلك النيازك الحديدية بالأرض الابتدائية إلى رفع درجة حرارتها وحرارة النيازك ذاتها إلى درجة الانصهار، واندفع الحديد المنصهر ومعه بعض العناصر الثقيلة، مثل النيكل وبعض شوائب العناصر الخفيفة في سيول مندفعة إلى مركز الأرض من جميع الاتجاهات، على هيئة قطرات عملاقة من الحديد والنيكل، الذي كون لب الأرض بشقيه اللب الداخلي الصلب، واللب الخارجي السائل. وقد أدى ذلك إلى تمايز الأرض إلى سبع أرضين تتناقص فيها نسبة الحديد من الداخل إلى الخارج على النحو التالي:
1- لب صلب داخلي يمثل الأرض السابعة بنصف قطر يقدّر بحوالي (1170 كم)، وكثافة تترواح بين (13,5، 10) جرام للسنتيمتر المكعب، ويتكون أساسًا من الحديد بنسبة 90% والنيكل بنسبة 9% وعدد من العناصر الخفيفة من مثل السيليكون، والفوسفور والكبريت بنسبة 1%.
2- لب خارجي سائل (يمثل الأرض السادسة) بسمك يقدّر بحوالي (2300 كم) وبنفس تركيب اللب الصلب، ولكن في حالة مائعة (من عمق 2900 كم من سطح الأرض إلى عمق 5200 كم من سطح الأرض).
3-6- أربعة أوشحة متتالية (تمثل الأراضي من الثانية إلى الخامسة) تتناقص فيها نسبة الحديد من الداخلي إلى الخارجي باستمرار، وهذه النطق التي يبلغ سمكها (2300 كم) ممتدة من قاعدة الأرض الأولى إلى الأدوار العليا للب الأرض السائل، وتتكون من صخور عالية الحرارة تميع تحت الضغوط العالية.
وأحد نطقها يوجد في حالة لدنة شبه منصهرة ويمثل الأرض الثالثة التي تعرف باسم “نطاق الضعف الأرض”.
7- غلاف الأرض الصخري ويمثل الأرض الأولى ويقدر سمكه في المتوسط بحوالي (110 كم) حيث يقدر سمكه تحت القارب بحوالي (100-150 كم)، وتحت البحار والمحيطات بحوالي (65-70 كم)، ويتكون أساسًا من السيليكات الخفيفة التي تتميز بدرجات انصهار منخفضة نسبيًّا، والتي تزداد في الكثافة نسبيًّا من السطح إلى العمق.
وتمثل عملية إنزال الحديد إلى الأرض وتمايزها إلى سبع أرضين واحدة من أخطر العمليات في تاريخ الأرض. فلولاها ما كانت الأرض صالحة للعمران. ويعتبر سبق القرآن الكريم بالإشارة إلى تلك الحقيقة التي لم يصل إليها علم الإنسان إلا منذ عقود قليلة، شهادة صدق كذلك بنبوة ورسالة الرسول الخاتم الذي تلقى هذا الكتاب الخاتم وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلى يوم الدين.
ومن المبهر حقًّا، أن كتابًا أنزل من قبل ألف وأربعمائة سنة، أنزل منجمًا آية آية، أو بضع آيات بضع آيات، وفي أحيان قليلة أنزلت السورة كاملة، ثم تم جمع هذا الكتاب بتوفيق من الله تعالى، وتم ترتيبه في سوره، وتسمية تلك السور وترتيبها بنفس النظام الموجود في بلايين النسخ من المصاحف المتوفرة في مكاتب العالم، وفي حوزة الأشخاص، وفي مختلف وسائل الحفظ الأخرى، وفي صدور البلايين من الأفراد الذين حملوه متواترًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوفيق من الله كذلك. ثم يحوي هذا الكتاب سورة باسم “سورة الحديد” وهو العنصر الوحيد الذي أنزلت باسمه سورة من سور القرآن الكريم. وتتحدث آية من آيات تلك السورة عن إنزال الحديد إلى الأرض من السماء -وهي حقيقة لم يصل إليها علم الإنسان إلا في العقود المتأخرة من القرن العشرين- ثم تكتشف أن رقم سورة الحديد يساوي الوزن الذري لأكثر نظائر الحديد انتشارًا، وأن رقم الآية في السورة يساوي العدد الذري للحديد، وهذا التوافق لا يمكن أن يكون من أمور المصادفة أبدًا.
فأكثر نظائر الحديد شيوعًا، يعرف باسم النظير 56 ورمزه (56 Fe 26)، وهو يشكل حوالي 92% (91,66%) من مجموع نظائر الحديد المعرفة، ويقدر متوسط وزنه الذري بحوالي 56 (55,847)، ويبلغ عدده الذري 26، وسورة الحديد رقمها في المصحف الشريف 57، وآية الحديد فيها رقمها 25.
ولكن إذا تذكرنا قول الحق تبارك وتعالى مخاطبًا خاتم أنبيائه ورسوله صلى الله عليه وسلم في قوله عز من قائل: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ﴾(الحجر:87)، أدركنا أن القرآن الكريم بنصه، يفصل فاتحة الكتاب كمقدمة عن بقية الكتاب، ولما كان ترقيم سورة القرآن ليس توقيفيًّا، فمعنى هذه الآية الكريمة أن أول سور القرآن الكريم هي سورة البقرة، وبذلك يصبح رقم سورة الحديد 56، وهو الوزن الذري لأكثر نظائر الحديد شيوعًا. كذلك فإن عدد آيات الفاتحة ست آيات بعد البسملة، والقرآن الكريم يصفها بأنها (سبعًا من المثاني)، ومعنى ذلك أن البسملة هي أول آيات الفاتحة، وهي آية في كل سورة من سور القرآن الكريم ذكرت في مطلعها، وقد ذكرت في مطلع كل سور القرآن ما عدا سورة التوبة. فإذا حسبنا البسملة على أنها هي أولى آيات سورة الحديد، صار رقم آية الحديد في السورة هو 26، وهو العدد الذري لعنصر الحديد.
ومن المعروف أن معرفة كل من الأوزان الذرية والأعداد الذرية للعناصر، هي من الأمور المستحدثة في علم الإنسان، ولم يكن لأحد وقت تنزل القرآن الكريم ولا لقرون متطاولة من بعده، إلمام بتلك الأمور. وتوافق رقم سورة الحديد في القرآن الكريم مع الوزن الذري لأكثر نظائر هذا العنصر شيوعًا، وتوافق رقم آية الحديد التي تؤكد حقيقة إنزاله من السماء مع العدد الذري للحديد، لمما يقطع بأن القرآن الكريم لا يمكن أن يكون صناعة بشرية، ويجزم بالنبوة والرسالة للرسول الخاتم الذي تلقاه.
أما عن البأس الشديد للحديد، فقد ثبت علميًّا أن نواة ذرة الحديد هي أشد نوى العناصر تماسكًا بمعنى شدة تماسك اللبنات الأولية للمادة في نواة ذرة الحديد عنها في نواة أية ذرة من ذرات العناصر الآخرة. ولعل ذلك من أسباب تلك الصفات الطبيعية والكيميائية المميزة للحديد، والتي أعطته خاصية البأس الشديد. وأما من منافعه للناس، فالحديد يمثل عصب الصناعات المدنية والحربية، كما يمثل اللبنة الأساسية في بناء جزيء الهيموجلوبين، أو المادة الحمراء في دم الإنسان وفي دماء الكثير من الحيوانات.
ولولا الحديد في لب الأرض ما كان لها مجال مغناطيسي، ولولا المجال المغناطيسي للأرض ما استطاعت الإمساك بغلافها المائي، ولا بغلافها الهوائي، ولا بمختلف صور الحياة على سطحها.