يهتم علم التصميم البيئي وهو أحد فروع علم العمارة، بدراسة العناصر البيئية والمناخية التي تؤثر على تصميم المباني والفراغات الخارجية من أجل تهيئة وتوفير المناخ المناسب لراحة الإنسان، سواء داخل المباني أو في الفراغات الخارجية في المحيط العمراني.
وبدراسة العديد من الآيات القرآنية، تبين لنا أن القرآن الكريم قد لفت أنظار المسلمين إلى أهمية مراعاة العوامل البيئية في التصميم العمراني والمعماري. لذلك فإن هذا المقال يهدف إلى إبراز المفاهيم التي وردت في بعض الآيات القرآنية ذات الصلة بمجال التصميم البيئي، وهو ما يؤكد على أن مراعاة البعد البيئي هو أحد الضوابط التي يجب مراعاتها في العمران الإسلامي.
إن القرآن الكريم لم يغفل الإشارة إلى أحد أهم أهداف علم التصميم البيئي، التي يسعى المصممون إلى توفيرها في المباني أو الفراغات الخارجية، وهذا الهدف ينحصر في محاولة جعل درجات الحرارة داخل المباني أو في الفراغات الخارجية حولها في حدود معينة لا تقل أو تزيد عنها، وذلك باستخدام أساليب تصميمية معينة.
ونلمح معنى المشار إليه أعلاه في قول الله سبحانه وتعالى: ﴿مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلاَ زَمْهَرِيرًا﴾(الإنسان:13)، يقول ابن كثير رحمه الله في شرح معنى قوله تعالى: ﴿لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلاَ زَمْهَرِيرًا﴾، أي ليس عندهم حر مزعج ولا برد مؤلم، بل هو مزاج واحد دائم سرمدي ﴿لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً﴾(الكهف:108)، كما جاء في التفسير الميسر أن المقصود: “لا يرون فيها حر شمس ولا شدة برد”، والزمهرير في اللغة هو شدة البرد.
إن الآية الكريمة السابقة تشير إلى الحالة التي سوف يكون عليها أهل الجنة، فليس عندهم حر مزعج أو برد مؤلم، وهو ما يتطابق مع تعريف مصطلح “الراحة الحرارية” الموجود في علم التصميم البيئي، والذي ينص على أن الراحة الحرارية هي حالة العقل التي يشعر فيها الإنسان بارتياح ورضا فيما يتعلق بالبيئة الحرارية الموجودة فيها. فأي إنسان عادي لا يشعر بالراحة الحرارية إذا زادت أو قلت درجة الحرارة عن حدود معينة، أي إنه لا يشعر بالراحة في درجات الحرارة العالية، كما لا يشعر بالراحة أيضًا في حالات البرودة الشديدة.
فإذا كانت درجة حرارة الهواء أعلى من درجة حرارة البشرة، فإن الحرارة المتولدة من الجسم تجد صعوبة في الخروج، وينتج عن ذلك ارتفاع في درجة حرارة البشرة ونشاط الغدد التي تفرز العرق، ويمكن أن يصل معدل إفراز العرق إلى أربع لترات/ساعة، وهو ما يسبب إرهاقًا لا يمكن احتماله إلا لفترة قصيرة، أما في حالة انخفاض درجة حرارة البيئة المحيطة عن الحد المناسب، فإن الاستجابة الفسيولوجية الأولى لذلك، انقباض الشعيرات الدموية تحت الجلد، وبالتالي يقل اندفاع الدم إلى البشرة، وهو ما يؤدي إلى برودة الشعيرات وخاصة اليدين والقدمين، وتحدث رعشة لا إرادية في حالات البرد الشديد (الزمهرير)، ويزيد معدل الاحتراق إلى مرتين أو ثلاث مرات.(1)
فإذا كانت الجنة تمثل البيئة المثالية بكل ما فيها من متع ونعيم مقيم، فإن الآية الكريمة تضيف متع “الراحة الحرارية” أيضًا، أي لا يُرى في الجنة شدة حر كحر الشمس ولا زمهرير، أي ولا برد مفرط. وفي الوقت نفسه فإن الآية الكريمة تلفت النظر-وبشدة- إلى أن الهدف النهائي هو توفير الراحة لأهل الجنة، وهو ما يلفت نظر المصممين إلى أهمية العمل على توفير هذه الراحة بقدر المستطاع في مباني أهل الأرض تأسيًا ببيئة الجنة المثالية التي هي فوق خيال البشر.
ثم تأتي العديد من الآيات القرآنية الأخرى لتوضح وتبين للبشر كيف يمكن لهم أن يصلوا إلى هذه الغاية، وهي مراعاة العوامل البيئية في التصميم ووسائل تحقيق الراحة الحرارية، سواء في المباني أو الفرغات الخارجية وهو ما نسعى إلى توضيحه في المحاور التالية:
مراعاة اختيار مواقع التجمعات العمرانية
من خلال بحثنا في آيات القرآن الكريم عن ضوابط العمران والبنيان، وجدنا أن إحدى الآيات الكريمة قد أشارت -بطريق غير مباشر- إلى علاقة وتأثير العوامل البيئية في اختيار مواقع المدن والتجمعات العمرانية، حيث يقول تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ﴾(سبأ:15).
قال عبد الرحمن بن زيد في تفسير الآية الكريمة السابقة: “إن الآية التي كانت لأهل سبأ في مساكنهم أنهم لم يروا فيها بعوضة قط، ولا ذبابًا ولا برغوثًا ولا قملة ولا عقربًا ولا حية ولا غيرها من الهوام، وإذا جاءهم الركب في ثيابهم القمل والدواب، فإذا نظروا إلى بيوتهم ماتت الدواب، وقيل بلدة طيبة ليس فيها هوام لطيب هوائها” (2).
إن الآية الكريمة تلفت النظر إلى أهمية اختيار مواقع المدن والتجمعات العمرانية من حيث المناخ الجيد والهواء الطيب، كما تلفت النظر إلى علاقة وجود الجنات الأرضية وتأثيرها على تحسين مناخ هذه التجمعات. فلقد أشارت الآية إلى وجود جنتين عن يمينِ وشمالِ مساكنِ بلدة سبأ، وهو مما يلفت نظر المصممين إلى أهمية تواجد الحدائق في التجمعات العمرانية كعنصر جمالي وبيئي في الوقت نفسه، كما يجب ألا نغفل دور إحاطة المساكن عن يمينها وشمالها بالحدائق، لأنه يحميها من الرياح المحملة بالرمال في حالة هبوبها على هذه التجمعات السكنية.
وفي آية كريمة أخرى، يلفت القرآن الكريم أنظارنا إلى أهمية دراسة الموقع قبل بناء المبنى، وذلك للاستفادة من ظروف البيئة، ونلمح ذلك في قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا﴾(مريم:16)، أي اتخذت من جانب الشرق وهو المكان الذى تشرق الشمس، وإنما خص المكان بالشرق لأنهم كانوا يعظّمون جهة المشرق من حيث تطلع الأنوار، وكانت الجهات الشرقية من كل شيء أفضل من سواها. (حكاه الطبري)
إن عملية تحديد علاقة الأماكن أو الفرغات العمرانية والمعمارية بالجهات الأصلية لها أهمية قصوى، لأن ذلك سوف يؤثر على الأسلوب الذى تتعرض له هذه الأماكن للإشعاع الشمسي أو الرياح السائدة بكل منطقة، وهو ما أشارت إليه الآية الكريمة بطريق غير مباشر حيث أوضحت أن مريم انتبذت مكانًا شرقيًّا من حيث تطلع الأنوار في الصباح، وكما نعرف الآن فإنه ينصح بالتعرض للشمس عند طلوعها قبل أن ترتفع في السماء وتشتد أشعتها لما في هذا التعرض من فوائد صحية جمة.
لقد أراد القرآن الكريم أن ينبه إلى أهمية وعلاقة التجمعات العمرانية أو المباني بالبيئة، سواء كان ذلك في أسلوب اختيار أماكنها أو في علاقتها بالجهات الأصلية، وهي أشياء توضح اهتمام الإسلام بالبُعد البيئي عند إقامة التجمعات العمرانية.
أهمية الظلال كأحد وسائل تحقيق الراحة الحرارية
سبق أن أشرنا في بداية هذا المبحث إلى أن الهدف الأساسي لعلوم التصميم البيئي، هو تحقيق الراحة الحرارية في المباني أو في الفراغات الخارجية، وتوجد وسائل وإستراتيجيات تصميمية متعددة لتحقيق هذا الهدف، ومن أهم هذه الوسائل وأنجحها توفير الظلال.
وبدراسة الآيات القرآنية التي تحدثت عن الظلال، نجد أن القرآن الكريم ينهج نهجًا رائعًا في لفت النظر إلى أهمية الظلال، ففي البداية نرى أن الله يلفت نظر عباده إلى الظل كظاهرة طبيعية مشاهدة، لها خصائص معينة، فيقول سبحانه وتعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا﴾(الفرقان:45-46).
إن الآية الكريمة توضح بعض خصاص الظل في الامتداد والانقباض، وعلاقة هذا بانخفاض الشمس أو ارتفاعها في السماء على مدار اليوم، إن مراد الآية الكريمة لفت الأنظار إلى ظاهرة الظلال كظاهرة طبيعية تستحق التدبر والدراسة.
والظل في اللغة نقيض الضح (بالكسر)، أو هو الفيء، أو هو بالغداة والفيء بالعشي، ومكان ظليل ذو ظل، والظلة شيء كالصفة يستتر به من الحر والبرد، والظلال والمظلة (بالكسر والفتح) الكبير من الأخبية، والظليلة مستنقع الماء في أسفل مسيل الوادي والروضة الكثيرة الحرجات، والظلل؛ الماء تحت الشجر لا تصيبه الشمس. وفي معجم الوجيز؛ الظل هو ضوء الشمس إذا استترت عنك بحاجز، والظليل ذو الظل، ويقال: ظل ظليل أي دائم.
ثم في آية أخرى يوضح القرآن أن الظلال هي إحدى نعم الله سبحانه وتعالى للبشر، حيث يقول سبحانه وتعال: ﴿وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ﴾(النحل:81). أورد الإمام القرطبي رحمه الله في تفسير الآية الكريمة ما يلي: “لما كانت بلاد العرب شديدة الحر وحاجتهم إلى الظل كبيرة، فقد أوضح الله سبحانه وتعالى أن الظلال إحدى نعمه التي مَنَّ بها على بني البشر، فالله سبحانه وتعالى قد خلق للبشر الأشجار التي توفر الظلال كما جعل من الجبال مواضع للسكنى كالكهوف -كما في كهف أهل الكهف- يلجأ إليها الإنسان طلبًا للظل والحماية، كما ألهمهم اتخاذ الأبنية حماية لهم من الحر والبرد وطلبًا للظل”.
أما الإمام ابن كثير رحمه الله، فقد أورد في تفسير الآية الكريمة ما يلي: ﴿وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً﴾(النحل:81)؛ قال قتادة: يعني الشجر، ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا﴾(النحل:81) أي حصونًا ومعاقل، كما ﴿وجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾(النحل:81)، وهي الثياب من القطن والكتان والصوف، ﴿وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ﴾(النحل:81) كالدروع من الحديد المصفح والزرد وغير ذلك، ﴿كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ﴾(النحل:81) أي هكذا يجعل لكم ما تستعينون به على أمركم وما تحتاجون إليه ليكون عونًا لكم على طاعته ﴿لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ﴾(النحل:81).
وقال قتادة في قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ﴾(النحل:81): هذه السورة تسمى سورة النعم. وقال عطاء الخراساني: إنما أنزل القرآن على قدر معرفة العرب، ألا ترى إلى قوله تعالى ﴿وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا﴾(النحل:81) وما جعل من السهل أعظم وأكثر ولكنهم كانوا أصحاب الجبال، ألا ترى إلى قوله: ﴿وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ﴾(النحل:80) وما جعل لهم من غير ذلك أعظم وأكثر ولكنهم كانوا أصحاب وبر وشعر، ألا ترى إلى قوله تعالى ﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾(النحل:81) وما تقي من البرد أعظم وأكثر ولكنهم كانوا أصحاب حر.
ثم تأتي آية كريمة أخرى، لتوضح بأسلوب واضح مباشر أهمية الظلال من ناحية توفير الراحة الحرارية، لأن الظل لا يستوى والحر، فيقول جل في علاه: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلاَ الظُّلُمَاتُ وَلاَ النُّورُ * وَلاَ الظِّلُّ وَلاَ الْحَرُورُ﴾(فاطر:19-21)، إن الآية الكريمة تؤكد وتنبه على حقيقة يلمسها جميع البشر، حيث يشعرون بالفرق الكبير بين الأماكن المظللة والأماكن المعرضة للشمس والحر.
وفي آية قرآنية أخرى يتم التنبيه على الأهمية القصوى للظلال، لدرجة أنها تصبح إحدى المتع التي أعدها الله لعباده الصالحين بالجنة، يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ * وَظِلٍّ مَمْدُودٍ * وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ﴾(الواقعة:27-31) قال الضحاك والسدي وأبو حرزة في قوله تعالى: ﴿وَظِلٍّ مَمْدُودٍ﴾ لاينقطع، ليس فيها شمس ولا حر مثل قبل طلوع الفجر، وقال ابن مسعود: الجنة سجسج كما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس (3).
وفي الصحيحين من حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لايقطعها، فاقرءوا إن شئتم ﴿وَظِلٍّ مَمْدُودٍ﴾(الواقعة:30)”. وفي الصحيحين أيضًا، من حديث أبي حازم عن سهل بن سعد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لايقطعها” (4).
ومن اللافت للنظر أن الآية الكريمة قد ربطت ما بين الظل الدائم ووجود الماء الجاري، وهو ما يؤدي إلى زيادة التقليل في درجات الحرارة وهو ما أثبتته العديد من التجارب العلمية الحديثة. لقد أعطت الآية الكريمة نموذجًا مثاليًّا للتصميم البيئي حيث الجمع بين الظلال والماء، وهو ما يفسر حرص المسلمين الأوائل على وجود النوافير والبحيرات المائية داخل أفنية المباني والبيوت الإسلامية، وفي الحدائق الخارجية المحيطة بها، يهدف خفض درجات الحرارة، إلى جانب تحقيق العامل الجمالي أيضًا.
إن حرص القرآن الكريم على لفت الأنظار إلى أهمية الظلال في عمليات التصميم البيئي، له شقان: الأول منهما يؤكد على أهمية العلاقة بين العوامل البيئية والعمران والبنيان الإسلامي، والثاني يوضح أن هذا التأكيد والحرص على أهمية الظلال، يتفق مع القياسات العلمية الحديثة التي توضح أثر توفير الظلال في خفض درجات الحرارة داخل المباني والفراغات الخارجية المكشوفة.
نموذج قرآني يوضح فكرة التصميم البيئي
خلال بحثنا في القرآن الكريم عن الآيات التي تبرز أهمية البعد البيئي في العمران والبنيان، وجدنا أحد الأمثلة المهمة التي توضح أحد جوانب الفكر البيئي في التصميم المعماري، ونقصد هنا تحديدًا الوصف الوارد بسورة الكهف لعلاقة حركة الشمس بالكهف الذي لجأ إليه الفتية المؤمنون، ويصف لنا سبحانه وتعالى هذه العلاقة في قوله: ﴿وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا﴾(الكهف:17).
يقول ابن كثير رحمه الله في شرح الآية الكريمة: “إن هذا دليل على أن باب هذا الكهف المذكور كان من نحو الشمال؛ لأنه تعالى أخبر أن الشمس إذا دخلته عند طلوعها تزاور عنه ﴿ذَاتَ الْيَمِينِ﴾، أي يتقلص الفيء يمنة كما قال ابن عباس وسعيد ابن جبير وقتادة ﴿تَزَاوَرُ﴾، أي تميل وذلك أنها كلما ارتفعت في الأفق تقلص شعاعها بارتفاعها حتى لا يبقى منه شيء عند الزوال في مثل ذلك المكان، ولهذا قال ﴿وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ﴾، أي تدخل إلى غارهم من شمال بابه وهو من ناحية المشرق، فدل على صحة ما قلناه وهذا بيِّن لمن تأمله وكان له علم بمعرفة الهيئة وسير الشمس والقمر والكواكب، وبيانه أنه لو كان باب الغار من ناحية المشرق لما دخل إليه منها شيء عند الغروب، ولو كان من ناحية القبلة -يقصد الجنوب- لما دخل منها شيء عند الطلوع ولا عند الغروب ولا تزاور الفيء يمينًا ولا شمالا، ولو كان من جهة الغرب لما دخلته وقت الطلوع بل بعد الزوال ولم تزل فيه إلى الغروب، فتعين ما ذكرناه ولله الحمد.
وقال مالك عن زيد بن أسلم: تميل ﴿ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ﴾، أي في متسع منه داخلا بحيث لا تصيبهم، إذ لو أصابتهم لأحرقت أبدانهم وثيابهم، قاله ابن عباس: ﴿ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ﴾(الكهف:17) حيث أرشدهم إلى هذا الغار الذي جعلهم فيه أحياء، والشمس والريح تدخل عليهم فيه لتبقى أبدانهم.
ويقول الإمام الشوكاني رحمه الله في تفسير الآية الكريمة:(5) “للمفسرين في تفسير هذه الآية قولان: الأول؛ أنهم مع كونهم في مكان منفتح انفتاحًا واسعًا في ظل جميع نهارهم، ولا تصيبهم الشمس في طلوعها ولا في غروبها، لأن الله حجبها عنهم. والثاني: أن باب الكهف كان مفتوحًا جهة الشمال، فإذا طلعت الشمس كانت عن يمين الكهف، وإذا غربت كانت عن يساره”.
إن الشاهد من الآية الكريمة السابقة أنها تلفت النظر إلى علاقة حركة الشمس بكهف الفتية المؤمنين، وهي بذلك تلفت النظر بطريقة غير مباشرة إلى أهمية دراسة العلاقة بين توجيه المبنى والإشعاع الشمسي الواصل إليه، لما في ذلك من تأثير كبير على تعرض واجهات المباني من الخارج لهذا الإشعاع على مدار العام، وهو ما يؤثر على فراغات المبنى من الداخل عن طريق دخول الإشعاع الشمسي من فتحات المبنى الخارجية.
لقد أوضح المفسرون -جزاهم الله خيرًا- أهمية توجيه فتحة الكهف، بحيث لا يتعرض مَنْ بداخله للإشعاع الشمسي المباشر، بل يكون في الظل أغلب الوقت، وهذا الهدف هو أحد أهداف عملية التصميم البيئي خاصة في المناطق الحارة والتي تركز على إستراتيجيتين أساسيتين بالنسبة إلى علاقة المبنى بالإشعاع الشمسي وهما: في الصيف: تقليل التعرض للإشعاع الشمسي. وفي الشتاء: العمل على زيادة اكتساب الإشعاع الشمسي.
وفي دراسة ميدانية للمؤلف على أحد الكهوف الموجودة في الأردنّ بمنطقة تسمى “الرقيم”، تقع على بعد حوالي 13 كم جنوب شرق العاصمة الأردنية عمان، رجح أن هذا هو الكهف الذي ورد ذكره في سورة الكهف، لوجود العديد من الأدلة التاريخية والأثرية إلى جانب إثبات المؤلف لتطابق علاقة حركة الشمس مع هذا الكهف، كما ورد في الآية السابعة عشرة من سورة الكهف، وأن فتحة باب الكهف موجهة تمامًا إلى جهة الجنوب الغربي.
إن نماذج الآيات القرآنية التي أوردناها في هذا المقال، تؤكد أن القرآن الكريم قد أوضح أهمية أخذ العوامل البيئية في الاعتبار عند تصميم المباني أو على مستوى التجمعات العمرانية، وهو ما يعني أن أخذ البعد البيئي في الاعتبار، يعتبر من ضوابط العمران والبنيان التي أكد عليها القرآن الكريم.
إن هذا الضابط الذي ألمح إليه القرآن الكريم، يجب أن يؤخذ في اعتبار القائمين على تعمير المدن والمجتمعات العمرانية في الدول الإسلامية، بحيث لا يكون الاعتماد فقط على الوسائل والتقنيات الحديثة كأجهزة التكييف وما شابه، لما لها من أضرار صحية إلى جانب أعبائها الاقتصادية الكبيرة التي ربما تتفق مع الظروف الحالية لبعض المجتمعات العربية، ولكنها من جانب آخر لا تتفق مع الظروف الاقتصادية السائدة في الكثير من المجتمعات العربية والاسلامية الأخرى.
ــــــــــ
الهوامش
(1) شفيق العوضي الوكيل، ومحمد عبد الله سراج (1985): المناخ وعمارة المناطق الحارة، ص:166، القاهرة.
(2) انظر تفسير الآية:15 من سورة سبأ في “الجامع لأحكام القرآن الكريم”، للإمام القرطبي.
(3) انظر تفسير الآية:30 من سورة الواقعة في كتاب “تفسير القرآن العظيم”، للإمام الحافظ ابن كثير.
(4) الإمام ابن قيم الجوزية (بدون تارخ)، “حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح”، دار عمر بن الخطاب للتوزيع والنشر، القاهرة، ص:136.
(5) انظر تفسير الآية:17 من سورة الكهف في كتاب “فتح القدير”، للإمام الشوكاني.