الجمود الفكري وأثره في المشروع النهضوي الإسلامي

يختلف الناس في النشاط العقلي أو الفكري قوةً وضعفًا وفهمًا ووعيًا وقدرةً واستيعابًا، ويتجلى هذا التفاوت بين الناس في طريقة تعاملهم مع الثقافة أو الواقع، وهي لا تخرج عن ثلاثة مستويات تحدد آلية النشاط الفكري ومساره وثماره.
المستوى الأول: وأعني به “التلقي المباشر” عن الآخر واستعارة “قالبه” الحضاري في الفكر والسلوك والحضارة، سواء أكان هذا الآخر ماضيًا موروثًا أو حاضرًا مستوردًا أو واقعًا ملموسًا أو نصًّا مقروءًا أو مسموعًا أو مرئيًّا… وينحصر دور العقل في هذا المستوى الشائع والعام، في “التلقي” من الآخر والتقيد بما يقوله من ثقافة ومعرفة أو عادات وتقاليد. ويحرص العقل أو الفكر هنا، في التقليد والخضوع لهذا الآخر، وتبنّي ثقافته ومشروعه الحضاري مبرزًا إيجابياته وصوره المشرقة، وتقديم نفسه على أنه صورة طبق الأصل تمامًا عما يطرحه هذا الآخر في ثقافته وفكره وحضارته، والحرص على محاكاته في أقواله وأفعاله ومشاريعه النهضوية. وتتعدى المحاكاة والاستنساخ حدود المعقول في الثقافة والأدب والفن، وطرائق الحياة في المسكن والملبس والمطعم والمشرب.
فالعقل هنا، يتحرك ضمن إطار الثقافة المقروءة والمرئية والمسموعة لتبنيها والتقيد بما فيها، ليكون “العقل المتلقي” أو الفكر المتلقي، صورة منسوخة عن العقل المنتج لهذه الثقافة بنوعيها العالمة وغير العالمة، الرسمية والاجتماعية على حد سواء، وسواء أكانت هذه الثقافة قديمة أو جديدة، موروثة أو مستوردة. ويلتقي في ذلك دعاة “التغريب” في استنساخ ثقافة الآخر المستوردة، ودعاة المشروع الإسلامي في مستوى التلقي من الثقافة الإسلامية واستنساخ ما فيها، دون وعي للثوابت والمتغيرات فيها. هذا التعامل العقلي في التلقي والنسخ، يفضي إلى التكرار الممجوج والتقليد الأعمى، وتبني الأفكار والآراء دون وعي أو فهم لها، أو دون إدراك للظروف التي أنتجت هذه الأفكار والآراء والمشاريع النهضوية. وبالتالي يغيب العقل وراء الموروث أو المستورد ويحل “الانفعال” محل “العقل”، فتأخذ العاطفة مكان العقل في الترويج لهذا الموروث أو هذا المستورد، ويتم الانفعال والتفاعل مع هذا وذاك في لحظة غياب العقل البصير، فلا ينظر هذا الإنسان المقلّد إلى الثقافة بإطارها الزمني، وأطرها الثابتة والمتحولة، وقربها أو بعدها عن المقاصد الحضارية للأمة، وإنما ينظر إليها من خلال عاطفته المشبوبة ورغبته في محاكاة نموذجه الموروث أو المستورد، فيندفع للدفاع عن أخطائه وسلبياته وكأنه في دفاعه عن تراثه يخوض معركة جهادية بأمل ثوابها عند الله، وغاب عن باله أن هذا التراث الإسلامي هو إنتاج بشري، وأنه ليس نصًّا شرعيًّا لا يجوز أن تخالفه، وكذلك غاب عنه أن الفقه نتاج بشري في قراءة النصوص الشرعية لاستخراج الأحكام منها. فالشريعة ثابتة ربانية، أما الفقه فهو نتاج بشري متغير بتغير الظروف والأزمان والحالات.
المستوى الثاني: هو أعلى من الأول وأرقى، لأن العقل فيه يتجاوز مرحلة التلقي المباشر والفهم التداولي العادي للأمور الثقافية والحضارية، إلى الفهم التأويلي المفسر للدلالات والرموز في الحضارة والثقافة والواقع. وهذا يعني أن العقل يقوم بدورٍ فعالٍ في إنتاج الثقافة أو فهم الواقع من خلال إبداء الرأي، وتقديم رأي مفسر أو داعم لدلالات الثقافة أو رموز الواقع. فهو يعمل بنشاط للاستنطاق والاستكشاف في الثقافة والواقع وليس للتقليد والاستنساخ.
وتتجه حركة العقل هنا إلى مبدع الثقافة، للتعرف على ظروفه الخاصة والعامة المحيطة في إبداعه وإنتاجه الثقافي والحضاري، والطواف في أجوائها ومناخها ومؤثراتها لاستيعابها وفهمها ومعرفتها، من غير رغبة منه في كشف عيوبها وتناقضاتها. وإذا لاح له شيء من العيوب أو القصور حاول ستره وإذابة تناقضاته بالاعتماد على “التأويل” و”التبرير”.
وعانى العقل المعاصر من مشكلات التأويل والتبرير، ومحاولات التوفيق والتلفيق في مشاريعه النهضوية المطروحة والمستوردة، التي أحدثت فجوة كبيرة بين الثقافة الرسمية المستوردة، والثقافة المختزنة في عقول الشعوب المسلمة ووجدانها. وارتاح العقل المعاصر أو أراح نفسه من مشاقّ البحث والتفكير، فاسترخى واستقال مكتفيًا بالقالب المستعار في مشروعاته النهضوية، إما قالب مستورد بعيد عن ثقافته ودينه وحضارته، أو قالب موروث بعيد عن واقعه وظروفه وحاجاته ورغباته. وهذه هي الطامة الكبرى التي أصابت العقل أو الفكر المعاصر.
المستوى الثالث: هو الفكر التقويمي، وفيه يرتقي العقل من مرحلة التلقي المباشر ومرحلة التأويل الدلالي إلى مرحلة أعلى هي “التقويم”. وبذلك يكون العقل قد أكمل دورته في التلقي والتأويل والتقويم إن كانت حركته متدرجة متسلسلة لا تتوقف عند مرحلة وتجمد عليها.
فهذه المراحل أو المستويات الثلاثة متداخلة ومتكاملة، حتى تتكون الرؤية الصائبة للثقافة المقروءة أو النص المدروس أو الواقع المرصود، فلابد للعقل أو الفكر أن يكمل عمله السابق في المستوى الثالث في تقويمه وتشخيصه وكشف عيوبه وتناقضاته، بعد عملية تفسيره ومعرفة ما فيه من أفكار وظروف.
هذه المستويات الثلاثة لآلية النشاط الفكري أو العقلي، تصلح معيارًا نقديًّا نحتكم إليه في فهم العقل المعاصر أو الفكر الإسلامي المعاصر، لمعرفة حدود نشاطه، والمستوى الذي يتحرك فيه، وكيفية عمله في كل مستوى من هذه المستويات الثلاثة. وهذا بداية الطريق في تشكيل العقل المسلم على أسس معرفية صحيحة وواضحة، وتخليص الفكر الإسلامي من جموده وتحجره.
ولا شك في أن “أدلجة المعرفة” أو أُحادية “الفكر”، دفعت بالعقل المعاصر إلى أن يحصر نشاطه في مستوى التلقي المباشر من الآخر، رغبة في إخفاء العيوب وتبرير التناقضات، فأدى ذلك إلى ضياعه وتمزقه وفشل المشاريع النهضوية الحديثة. ولو أن النشاط الفكري أو العقلي كان يتحرك بآلياته وأدواته في مناخ سياسي متعدد، لكان عمله لا ينحصر في المستوى الأول في التلقي المباشر، وإنما تجاوز ذلك إلى شمولية التقويم وجديته في وضع مشروع نهضوي إسلامي.

الثبات والتطور في الفكر الإسلامي

أقام الله سبحانه وتعالى نظام الكون والحياة على نظام “الزوجية” المعروف لتبقى الحياة مستمرة متجددة. ولا يخرج أمر الدين أيضًا عن هذه الثنائية في البناء الكوني والإنساني لتأمين بقائه واستمراره؛ إذ نلاحظ فيه تلازم ثنائيةِ “الثبات والتجديد فيه”. فالثبات في الدين يرجع إلى مصدره الإلهي الأزلي، ويلازم هذا الثبات، التطورُ والتجديدُ المرتبط بالماديات الكسبية المتفاعلة مع الواقع المتغير. وهذه هي التي يطرأ عليها التطور والتجديد، أو تبقى في جمود وخمود بخلاف الدين الذي يتضمن معنى الثبات والاستقرار. ويغفل الكثيرون عن معنى الثبات في طبيعة الدين، وقد يوصف بالجمود، بينما ظواهر الجمود لا تنطبق على الدين، وإنما على صور التدين ومواقف الناس من الدين.
وقد شاءت إرادة الله سبحانه وتعالى أن تكون ثنائية بناء الكون والحياة على نظام الزوجية، أداةً من أدوات التغيير والتجديد في الكون والحياة، لاستمرارهما وبقائهما. وثنائية الثبات والتطور في الدين أيضًا من أجل الغاية نفسها، في بقائه حيًّا متجددًا يلبّّي حاجات الإنسان في كل العصور وفق المتغيرات السياسية والاجتماعية والحضارية.
وصورة التدين تعني التفاعل مع الواقع المتجدد، لإثبات المعنى الديني الأزلي فيه وتحقيق العبودية لله في حركة الإنسان وتوجهاته، فتغدو حركته المتفاعلة مع مجتمعه وعصره على صراط الله المستقيم، أما إذا ظل تديّنه على صورة واحدة لا يرتقي ويتجدد بارتقاء الحياة وتجددها، فإنه سيرى نفسه في النهاية معزولا عن واقعه وعصره، أسيرًا لصورة التدين المخالفة لعصره وواقعه.
فصورة التدين متغيرة، لأنها تتعامل مع متغيرات الحياة ضمن مفهوم الثبات في طبيعة الدين؛ إذ إن الله سبحانه وتعالى قد ابتلى الإنسان بالتفاعل مع ظروف الحياة المتغيرة، ليمتحن ثباته في توجهه واتجاهه نحو ربه، كما ابتلاه بالتفاعل مع الكون ليستخلص قوانينه ويفهم أسراره، ولولا هذا التفاعل معه، ما كانت هذه العلوم المتطورة وهذا التسخير الكوني للإنسان. كما امتحن الإنسان بالرخاء والشدة على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي والحضاري، ليرى حركته وسلوكه وتصرّفه مع هذه المتغيرات عليه، ومقدار ثباته على طريقه المستقيم.
والفكر الإسلامي فكر متجدد فيه ثوابت الدين، ومتغيرات “التدين”، فتدور صورة التدين حول محور الدين الثابت في شتى ميادين الحياة.
من هنا، نلاحظ أن تجدد الحياة وتطورها يكمن في هذه الثنائية الأساسية في الكون والحياة والإنسان. والفكر الإسلامي يخضع أيضًا لهذه الثنائية في الدين الثابت والتدين المتغير، وفق الظروف والأوضاع الكسبية المتغيرة.
لذا نلاحظ أن “الإيمان” يزيد وينقص، وأن المؤمن مطالب أن يحقق الإيمان حينًا بعد حين، فيظل في نماء وتطور وازدياد في حركة تفاعل مع الظروف والأوضاع. حتى التقوى التي هي ذروة الإيمان، تمر بمراحل متجددة ضمن حركة التفاعل الاجتماعي والشعوري، إذ نلاحظ هذا في قوله تعالى:﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾(المائدة:93).
وقد يقال إن هذه مراتب التقوى ومقاماتها وهذا صحيح، ولكن أليست هذه المراتب تمثل حركة تفاعل الفرد مع محيطه الاجتماعي حتى يبلغ هذا المقام في حسه وشعوره وفكره.
وإذا تأملنا حركة “الدين” في قصص الأنبياء، نلاحظ أن الله سبحانه وتعالى يختار رسوله من بيئته ليحقق هذا المعنى في تفاعل الدين مع المجتمع.
وهذا يعني أن المبادئ الثابتة -في دعوة الأنبياء- واحدة وإن تغيرت الشرائع أو تجددت وفق الأوضاع المتجددة. وكأن الشرائع تمثل صور الاستجابة للأوضاع المتجددة المعتمدة على دين التوحيد الثابت.
وإذا رجعنا إلى بعض النصوص النبوية، فإنها تؤكد حقيقة الابتلاء في الحياة من خلال إدراك الناس للعبادة في حالة الرخاء، وإدراكهم لها في حالة الشدة، فتتجدد صورة التدين من “شكر” في حالة الرخاء إلى “صبر” في حالة الشدة.
والرسول صلى الله عليه وسلم يخبر في حديث له؛ أن خيرَ الإسلام سيعمّ، ثم يوضح أنه لا يدوم إذ يعقبه شر، ثم يؤول إلى خير آخر أدنى من الخير الأول إذ فيه دخن. فهو يؤكد على أطوار الحياة وتقلّباتها وما تستلزمه من موقف في كل طور؛ موقف تجاه الخير، وموقف تجاه الشر. وهو الامتحان الإلهي لعباده في تجدد صورة التدين الملازمة لتقلّبات الحياة.
بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم يخبر مبشرًا أن الله سبحانه وتعالى يقيض للأمة مجددًا لأمر دينها، كلما رآها قد استكانت إلى صورة جامدة من صور التدين في الوجدان والسلوك، كلما داهمتها تحديات جديدة وظلت على سكونها وجمودها، فيهيئ لها المجددَ لأمر دينها، فيحيي وجدانها وينشط فكرها وعقلها في الاجتهاد المتجدد، ويثير فيها روح النهوض بحركة متجددة من صور التدين المواجهة للتحديات.
وتاريخ الإسلام حافل بحركة دائبة من التدين تحقق دينها من مادة الحياة. فإذا توقفت حركة المسلمين المتجددة واستكانت إلى صورة ثابتة، تشكل تاريخهم بعيدًا عن دينهم. وهذا يعني أن التجديد صفة ملازمة للحركة، والحركة أساس الإسلام وجوهره، وهي حركة التوجه نحو الله سبحانه وتعالى في شتى صور الحياة.

طريق النهضة

1-إحياء المفاهيم الإسلامية: لابد من إحياء المفاهيم الأصلية وبعث الحياة في معاني التدين، حتى يكون الدين حركة تفاعل اجتماعي وحضاري للرقي بالإنسان نحو الخير والتقدم، وربطه بالحياة والسلوك، وإحياء حقائقه ومضامينه لا صوره وأشكاله. وسوف تقف صور”التقليد” أمام حركات التجديد والتطوير، ولكن الدين بعيد عن مظاهر الجمود والتقليد، إذ إن كلمة “الإسلام” المصدرية توحي بالتجدد المستمر، لأن المرء حين أسلم ويسلم فهو في حركة متفاعلة متجددة مع أوضاع الحياة. فهو إذن، في حالة تجدد وحيوية وعطاء، وليس في حالة سكونية جامدة طالما أن حركته ضمن ثوابت الدين وأحكامه. من هنا نلاحظ الآيات تركز على الفعل: ﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾(البقرة:112)، ﴿وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ﴾(لقمان:22). لأن حركة التفاعل هي الأصل حتى يبلغ الإنسان ذروة الدين، وهذا ما نلاحظه في نصوص الدين كلها، وأحكامه التي تنقله من طور الإسلام إلى الإيمان إلى الإحسان. ومرتبة الإحسان متجددة بتجدد الشعور والسلوك والأداء، بل إن القرآن الكريم يجعل التجدد شرطًا للنهضة والنجاح بقوله: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾(الشمس:9-10).
-2اعتماد المعرفة الإسلامية: في مصادر المعرفة لا يفترق الوحي عن العقل ولا يتصادم معه، لأنهما يرجعان إلى مصدر واحد، ومحال أن نتصور التعارض بينهما وهما يصدران من مشكاة واحدة. إذ الوحي في رسالته الأولى، كان دعوة إلى التفكير والثقافة والعلم وتفجير الطاقات الإنسانية الكامنة في تسخير الكون للإنسان، فهو دعوة حضارية للارتقاء والنهوض من خلال كلمته الأولى: ﴿اقْرَأْ﴾، وملازمة العبادة لكل الأشياء المقروءة وصولا إلى غايتها في العبودية لله سبحانه وتعالى. وبذلك تتحدد حركة الإنسان بحركة الكون والحياة، فتكون قراءته الكونية والحياتية متجهة في صورة العبودية لله الواحد. وقد جاء الوحي من أجل تقدّم الإنسان وحضارته وتعليمه ما لم يعلم، كما ورد في الآيات الخمس الأولى النازلة من السماء: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾(العلق:1-5).
فكأن هذه الرسالة الحضارية للوحي، تنسجم مع دور الإنسان ووظيفته حين اختاره الله خليفة له ومستخلفًا على كونه، لتسخيره وتعميره، ومن خلال حركة التفاعل معه لكسب مادته واستخلاص قوانينه، ووضع مادته المسخرة أداة أو وسيلة لعبادة الله سبحانه وتعالى، وتحقيق تدين الإنسان من خلال موقفه من الكون وحادثات الحياة المتجددة، التي تتطلب تجديدًا أو تطويرًا يلازم حركة الدين المتفاعلة مع الحياة.
والعقبة الأساسية أمام هذه الحركة الجديدة للوحي هي “ظاهرة الجمود الفكري”. من هنا كان هذا التركيز القرآني على إذابة الجمود الفكري والتحجر العقلي له أولوية في الخطاب القرآني، وهذه من مدلولات كلمة ﴿اقْرَأْ﴾ الأولى التي تهدف إلى إذابة الجمود بفعل القراءة المستمرة في الكون والحياة والإنسان، وهي قراءة شاملة متكاملة ومتفاعلة، لتؤتي ثمارها وفوائدها في فتح الآفاق الكونية، والآفاق العقلية، والآفاق الفكرية والروحية.

ومن متطلبات هذه القراءة الواعية الشاملة، تفتُّح الحواس وفاعليتها لتؤدي وظيفتها الحقّة، وإلا فإن تعطيلها يفضي بانتقال الإنسان من آدميته إلى صورة أخرى مشينة يفقد فيها خصوصيته وتميزه. ومن أين للخطاب الديني أن يحقق غايته في البلاغ والنهوض بالفرد والأمة، في مجتمع موسوم بالجمود الفكري كما ورد ذلك في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾(الأعراف:179).
فالآيات تؤكد أن تعطيل “الحواس” يعني تعطيل “مصادر المعرفة” التي هي وسيلة النهوض والوثوب والتجدد المستمر مع أوضاع الحياة والظروف، بل إن الآية تعتبر هؤلاء المعطلين لحواسهم المدركة قد اعترتهم الغفلة عن الحقيقة، فلا يمكن للمرء أن يصل إليها إلا من خلال إعمالها من خلال حركة التفاعل مع الكون المحيط، لاستخلاص حقائقه وقوانينه.
هذه “الحركة النصية” في استقبال الحواس للمؤثرات، وإدراكها وتحليلها واستيعابها واتخاذ المواقف المناسبة من الكون والحياة، لا تتم إلا بحركية مقابلة في سلوك الإنسان وتفاعله مع محيطه، حتى لا يكون من الغافلين عن كونه أو خلقه أو عبادته، وهذه نقطة البداية في معالجة “الجمود الفكري”.
فإن القرآن الكريم في دعوته إلى التفكير والعقل، حث الإنسان المخاطَب على الاتصال بالكون المحيط به، وكأنه يدعوه إلى الأخذ بمصدري المعرفة الحسي والعقلي بالإضافة إلى الوحي الذي يتكامل معهما ولا يتناقض. وهذه الدعوة إلى الاتصال بالكون لاستكشاف حقائقه التي هي حقائق العلم وقوانينه، هي دعوة مستمرة ومتجددة، لينتقل الإنسان من طور علمي إلى طور عملي وفق حركة تفاعله وقدراته الكسبية، التي تمكّنه من امتلاك المعرفة التي هي حركة متجددة وليست سكونية ثابتة. وملتقى الوحي والحس هو “العقل”، إذ لا يمكن أن يدرَك الوحي إلا بالعقل: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾(الزخرف:3). والحس أيضًا لا يدرَك إلا بالعقل: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾(البقرة:164).
وبذلك تتكامل مصادر المعرفة في الثقافة الإسلامية، وأعني بذلك الوحي والحواس والعقل. فيكون الوحي مكمّلا لمصدري المعرفة الحسي والعقلي، وبذلك يضع القرآن الأمة على طريق النهضة العلمية، لتأخذ حظها من التقدّم والحضارة والرفاهية وسعادة الإنسان، متطلعة إلى إحياء فكري نهضوي، يستفيد من توجيهات الوحي نحو العلم والعقلانية والتفكير، كما يستفيد من الكون المحيط في حركته، لأنه مجال التسخير والتمكين.
ولابد أن أشير إلى أن هذه النهضة المطلوبة ليست ترفًا، وإنما هي ضرورة لازمة لتحقيق عبادة الله في صور الحياة كلها، فلا تقتصر صورة التدين على جانب منها، وإنما تشملها كلها. وهذه الشمولية التعبدية لا تتحقق إلا من خلال التفاعل مع الواقع للنهوض به. ولكن النهضة المنشودة، لها قوانينها وأصولها، وهي لا تحابي أحدًا لعقيدته أو لدينه، فكل من قام بأصولها أو قوانينها فإنه يصل إلى ثمارها ونتائجها ولو كان غير مسلم.
-3بناء مجتمع صناعي: علينا أن نميز في مشروع النهضة بين نهضة فكرية ونهضة صناعية. فالفكر له قوانينه الخاصة به في التطور والتجديد عبر العصور والأجيال وفق قانون المدافعة التاريخي: ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ﴾(الرعد:17). أما النهضة الصناعية فهي محكومة بأطرها المادية ضمن القدرات والإمكانيات والخطط. فمشكلتنا في المشروع النهضوي الإسلامي، أننا نخلط بين ما هو فكري وما هو صناعي مادي.
إن إقامة مجتمع صناعي، يحتاج إلى إرادة سياسية قوية وعقل مخطط متفتح رشيد، وإمكانات مادية وبشرية، وقيم وطنية عالية تضع الوطن والأمة والتاريخ في مقدمة حركتها الواعية وفق مراحل البناء الصناعي من استعداد حضاري، ثم استيعاب لكل المنجزات الحضارية القائمة، ثم مرحلة صيانتها ثم محاكاتها وتقليدها، ثم الإبداع والتجديد فيها.
ونخلص إلى مقوّمات المشروع النهضوي الإسلامي وأعمدته الأساسية في الأصالة والمعاصرة والديموقراطية والتكنولوجيا. وهذه العناصر تقوم على فكر متنوع، متفتح وحياة متجددة متطورة ضمن الثوابت والمتغيرات.