﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اِعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾(المائدة:8).
إن السـعادة البشرية في الدنيـا -في نظر سعيد النورسي- مرتهـنـة بإجراء العدالة، ولا تنفذ العـدالـة إلا كما بيّنتها الشرائع السماوية وفي مقدمتها القرآن الكريم. ولذلك فالعدالة غاية إنسانية كونية، ولكن لا تُدرَك إلا باتباع الحق الذي هو نقطة الارتكاز الأساسية في ميزان العدل الإلهي الذي به قامت السموات والأرض، وبه أُنْـزِلَت الكتبُ وبُعِث الرسل: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾(البقرة:213). وبذلك لم تَعُد الحرب والغلبة هي الوسائل المشروعة في تحقيق الحق بين الناس، ولكن الحجة في الإقناع هو القانون الذي جاءت به الشرائع وما ينبثق عنه من فطرة العقل والمنطق السليم.
إنه ليس من العدالة في شيء إفناء الأبرياء من أطفال وعوائل وشيوخ ومرضى بالقنابل المدمرة بحجة وجود جندي أو اثنين من جنود الأعداء فيما بينهم. فالحقيقة -كما بينها النورسي- أن الحروب المدمرة في هذا العصر ليست لأجل إحقاق الحق وإرساء الحقيقة، ولا لأجل إعلاء شأن الدين وإقرار العدالة، بل تستند إلى العناد والعصبية القومية والمصلحة النوعية وإشباع أنانية النفس، فترتكب مظالم شنيعة ومآسٍ أليمة لم يُر مثيل لها في العالم.
الناس جميعًا متفقون على حب العدالة وإجلالها، لأنها هي السبيل الوحيد الذي يحمل الناس على حب السلام، وجعلها خيارًا إستراتيجيًّا لهم في الحياة، ولكنهم قد يختلفون في مصدرها أو في وسائل تحقيقها. ولذلك فإن مفهوم العدالة -كما تجلت في رسائل النور- أي الكوني والشرعي، يصلح أساسًا لبناء تراث بشري مشترك؛ من حيث إن الإنسان مأمور بالفطرة وبالشرع بإقامة العدل في المجتمع. فالذي لا يؤمن بالشرائع الدينية، ملزم بإقامة العدل وفق الشريعة الكونية، وعندئذٍ تتحقق العدالة في الطبيعة وفي المجتمع البشري معًا. وقد سعى النورسي إلى تحقيق هذه الغاية من خلال نقده العميق للحضارة المادية المعاصرة.
الأسس الفلسفية للحضارة المعاصرة
كل الخلائق تحترم نظام العدالة الإلهية في الكون، ولا يعرضه للخطر والتخريب إلا الإنسان، ولذلك يقول النورسي: “اعلم، أن الاقتصاد والطهر والعدالة سنن إلهية جارية في الكون، ودساتير إلهية شاملة تدور رحى الموجودات عليها، لا يفلت منها شيء إلا أنت أيها الشقي، وأنت بمخالفتك الموجودات كلها في سيرها وفق هذه السنن الشاملة، تجد النفرة منها والغضب عليك وأنت تستحقها”.
فالذي خالف الموجودات في سير النظام الإلهي في الكون القائم على الحق والاقتصاد والطهر بصورة واضحة، -في نظر النورسي- هي الحضارة المادية السائدة منذ عصره حتى اليوم. فهذه الحضارة -في نظره- قائمة على أسسٍ تعارض تلك الخصائص الكونية في حركة الموجودات، أعني الاقتصاد والعدل والطهر، بل تناقضها كلية. فهو يرى “أن أسس المدنية الحاضرة سلبية، وهي أسس خمسة تدور عليها رحاها:
1- فنقطة استنادها: القوة بدل الحق، وشأن القوة الاعتداء والتجاوز والتعرض، ومن هذا تنشأ الخيانة.
2- هدفها وقصدها: منفعة خسيسة بدل الفضيلة، وشأن المنفعة، التزاحُم والتخاصم، ومن هذا تنشأ الجناية.
3- دستورها في الحياة: الجدال والخصام بدل التعاون، وشأن الخصام، التنازُع والتدافع، ومن هذا تنشأ السفالة.
4- رابطتها الأساس بين الناس: العنصرية التي تنمو على حساب غيرها وتتقوى بابتلاع الآخرين، وشأن القومية السلبية والعنصرية، التصادُم المريع وهو المشاهد، ومن هذا ينشأ الدمار والهلاك.
5- خدمتها الجذابة: تشجيع الأهواء والنوازع، وتذليل العقبات أمامهما، وإشباع الشهوات والرغبات. وشأن الأهواء والنوازع دائمًا؛ مسخ الإنسان وتغيير سيرته، فتتغير بدورها الإنسانية وتمسخ مسخًا معنويًّا”.
يظهر من هذا العرض بجلاء، أن أهم نتيجة لانفصام الصلة بين الإنسان وسنن الشرع الإلهي هي الخلط في المفاهيم القيمية، فإذا باللفظ ضد المعنى في لغة السياسة، وإذا بالظلم يلبس قلنسوة العدالة، وإذا بالخيانة ترتدي رداء الحمية بثمن زهيد، ويُطلق اسم البغي على الجهاد في سبيل الله، ويسمى الأسر الحيواني والاستبداد الشيطاني حرية.
الأسس السليمة لبناء تراث بشري مشترك
أما القاعدة السليمة لإيجاد أرضية مشتركة نحو بناء حضارة تتمتع بسمعة عالمية في نظر النورسي، فتقع خارج دائرة نُظم الحضارة المعاصرة. فقاعدة الحضارة الكونية لابد أن تكون قائمة على أسس الشرائع السماوية، وهي حضارة إيجابية تدور سعادتها حول خمسة أسس إيجابية:
1-نقطة استنادها: الحق بدل القوة، ومن شأن الحق دائمًا العدالة والتوازن. ومن هذا ينشأ السلام ويزول الشقاء.
2-وهدفها: الفضيلة بدَلاً من المنفعة، والفضيلة من شأنها المحبة والتجاذب.
3-وجهة الوحدة فيها والرابطة التي تربط بها المجموعات البشرية هي الرابطة الدينية والوطنية، والمهنية بدلاً من العنصرية، وهذه شأنها الأخوة الخالصة والسلام والوئام والذود عن البلاد عند اعتداء الأجانب.
4-ودستورها في الحياة: التعاوُن بدل الصراع والجدال، والتعاوُن من شأنه التساند والاتحاد.
5-إن من أهم مظاهر العدالة في الحضارة الكونية: كون القوة خادمة للعدالة، وأن هذه الحضارة العالمية لا تعترف بغير المعايير الأخلاقية حدًّا للتميز بين البشر، فلا تعترف بالعنصرية ولا بالقَبَلِيّة ولا بالعصبية، بل تدعو الناس إلى علاقات عامة وروابط محايدة: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾(الحجرات:13).
طلب التوفيق في الأعمال بموافقة السنن الكونية
إذا كانت الحضارة المادية المعاصرة مالت إلى معرفة أسرار الكون دون استرشاد بسنن الشرع وافتُتنتْ بقوانين الطبيعة، فإن المسلمين أيضًا -في نظر النورسي- ليسوا بمنجاة عن التقصير الموجب للملامة والعتاب. فهم مع تمسكهم بشرائع الإسلام، تكاسلوا عن السعي في كشف أسرار الله في الوجود، ومع ذلك طلبوا التوفيق في أعمالهم فلم يحصدوا إلا الإخفاق والخذلان. فالسعي الجاد والصبر والمصابرة لاستكمال الشروط، وقطع الموانع، سننٌ إلهية عامة -في نظر النورسي- ومن نواقضهما الكسل والعجلة التي تُشوِّش مراحل العلل وتقود الإنسان للاستسلام إلى اليأس، وهو العدو المانع لبلوغ الكمالات. فالنواميس الاجتماعية لا تختلف عن النواميس الكونية، وما فقَد المسلمون الإمساك بناصية الحضارة وتخلّفوا عن الركب وتقدم غيرهم -في نظر النورسي- إلا لسببين:
الأول: الفتور في السعي وعدم الرغبة في العمل، خلافًا لما هو مستفاد من الأمر الرباني: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى﴾(النجم:39)، وانطفاء جذوة الشوق للكسب المستفاد من الأمر النبوي بأن “الكاسب حبيب الله”. وذلك نتيجة إيحاءات بعض رجال الدين وتلقينات قسم من الوعاظ الجاهلين، أولئك الذين لم يدركوا أن إعلاء كلمة الله في الوقت الحاضر يتوقف على الرقي المادي. وهؤلاء لم يفرّقوا بين قناعتين بعيدتين عن بعضهما: القناعة في التحصيل والكسب وهي المذمومة، والقناعة في المحصول والأجر وهي الممدوحة. ولم يتبينوا البون الشاسع بين “التواكل” الذي هو عنوان الكسل و”التوَكّل” الذي هو جوهرة الإخلاص الحقيقي. فالأول هو تكاسل عن ترتيب المقدمات وهو في حكم التمرد على النظام القائم بين الأسباب التي هي مقتضى مشيئة الله تعالى، والآخر هو توكل إيماني في ترتُّب النتائج وهو من مقتضيات الإسلام، والذي يقود صاحبه إلى التوفيق حتى في النتائج شريطة عدم التدخل في التقديرات الإلهية.
الثاني: هو سلوكنا في المعيشة مسلكًا غير طبيعي، مسلكًا يوافق الكسل ويلائمه، ويداعب الغرور ويربت عليه، وهو المعيشة على الوظيفة، أي القناعة على أسلوب واحد بعينه للكسب دون النظر إلى أبواب الله في سائر الجهالات الأخرى.
يتبيّن من هذا، أن الوعي بالسنن الكونية والعمل وفق السنن الشرعية، يُخرج عوامل النهضة الحضارية من طور الكمون إلى الفعل، أي من حالة الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل. ولكن ثمة ثلاثة شروط نحو نيل التوفيق بهذا الوعي الحضاري: النية الصادقة المعززة بالخطط المدروسة، العمل الجاد، ثم الإخلاص الذي هو شرط للإتقان والجودة. يقول النورسي: “يا إخوة الآخرة، ويا أصحابي في خدمة القرآن، اعلموا -وأنتم تعلمون- أن الإخلاص في الأعمال لا سيما الأخروية منها، هو أساس وأعظم قوة وأرجى شفيع وأثبت مرتكز وأقصر طريق للحقيقة، وأبرّ دعاء معنوي وأكرم وسيلة للمقاصد”.
إن إحراز التوفيق -في نظر رسائل النور- في حاجة إلى تضافر ثلاثة عناصر: النية، الإخلاص، ثم العمل وفق سنن الله في الكون، فاطلبوا التوفيق في أعمالكم بموافقة السنن الكونية.
خلاصة القول، من أجل إيجاد عالم أفضل للبشرية، يجب العمل بالشريعتين معًا؛ الشريعة الكونية والشريعة الدينية، لأن التمرد على أيّ منهما كالتمرد عليهما معًا. فسبحان الذي بعدله قامت الأرض والسموات، وهو الذي خلق الوجود بحكمة وأودع فيه من جميع أصناف الكائنات، وبإرادته الحكيمة جعل هذا التوازن سُنّة له كونية ارتبطت بها حركة جميع الموجودات، كما ارتبطت بسنته الشرعية التي بيّنها على لسان رسله أسباب سعادة الإنسان وقيام الحضارات، فجعل في الأولى مفاتيح حركة الوجود، وفي الثانية دلائل الحق وعناصر العدل التي تهدي الإنسان في حالك الظلمات.
ــــــــــــ
المراجع
(1) اللمعات، لبديع الزمان سعيد النورسي، ترجمة: إحسان قاسم الصالحي، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.
(2) الملاحق، لبديع الزمان سعيد النورسي، ترجمة: إحسان قاسم الصالحي، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.
(3) صيقل الإسلام، لبديع الزمان سعيد النورسي، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.
(4) سيرة ذاتية، لبديع الزمان سعيد النورسي، ترجمة: إحسان قاسم الصالحي، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.
(5) إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز، لبديع الزمان سعيد النورسي، تحقيق: إحسان قاسم الصالحي، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.
(6) مفاتح النور، لفريد الأنصاري، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.
(7) مجموع الفتاوى، لابن تيمية أحمد بن عبد الحليم، جمع وترتيب عبد الرحمن بن قاسم، السعودية 1398هـ، جـ:13/19-20.
(8) العدالة الاجتماعية في الإسلام، لسيد قطب، نسخة بالإنجليزية: ترجمة جون هاريدي، ط: “خزانة الكتب-كولالمبور”، ماليزيا 2000م.
(9) كتاب التعريفات، للسيد علي بن محمد الجرجاني، دار إحياء التراث العربي، بيروت 2003م.
(10) الإسلام ومتطلبات العصر، لمرتضى مطهري، مجمع البحوث الإسلامية، بيروت 1992م.
(11) المفردات في غريب القرآن، للراغب الأصفهاني، دار المعرفة، بيروت 2001م.