لا يجادل أحد في أن للماء أهمية بالغة بالنسبة للكائنات الحية، فمن هذه المادة خلق الله سبحانه وتعالى كل شيء حي مصداقًا لقوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ﴾(الأنبياء:30)، ومنها أوجد الله سبحانه وتعالى كل دابة: ﴿وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ﴾(النور:45)، وبدونها تصبح الأرض تارة هامدة: ﴿وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾(الحج:5)، وتارة أخرى خاشعة: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾(فصلت:39).
وكثيرة هي الآيات التي يتحدث فيها الخالق عز وجل عن دور الماء في إحياء الأرض بعد موتها، ولكن المشهد ليس واحدًا، بل إن الإعجاز -كما يقول المهندس أحمد عامر الدليمي- أن تأتي الآيتان المتقاربتان في السياق وفي الألفاظ لتعطيا معنيين مختلفين قطعًا.
ولسنا هنا بصدد التحدث عن كيفية إحياء الأرض بعد موتها، ولكن الذي لفت انتباهنا هي العلاقة الوطيدة الموجودة بين التربة والنبات والماء في آية مبهرة فيها من الإعجاز ما يدعو للوقوف عندها، آية موجودة في مطلع سورة الرعد، حيث يقول فيها الحق سبحانه: ﴿وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾(الرعد:4).
وقبل أن نتطرق إلى إظهار وجه الإعجاز في هذه الآية الكريمة، سنسوق ما جاء في مجموعة من التفاسير القديمة والحديثة.
أقوال المفسرين
تشابهت تفاسير كثير من علماء التفسير؛ كابن كثير، والقرطبي، والنسفي، والألوسي والبغوي، والبيضاوي للآية الكريمة: ﴿وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾(الرعد:4). فقد وردت نفس الأقوال في تفسير الجلالين وصفوة التفاسير، وصفوة البيان لمعاني القرآن، والتي يمكن تلخيصها فيما ذكره الطبري في تفسيره:
“يقول تعالى: ﴿وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ﴾، وفي الأرض قطع منها متقاربات متدانيات، يقرُب بعضها من بعض بالجوار وتختلف بالتفاضل مع تجاورها وقرب بعضها من بعض، فمنها قطعة سَبِخة لا تُنبت شيئًا في جوار قطعة طيبة تُنبت وتنفع.
وقوله: ﴿وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ﴾، يقول تعالى: وفي الأرض مع القطع المختلفات المعاني منها، بالملوحة والعذوبة، والخبيث والطيب، مع تجاورها وتقارب بعضها من بعض، بساتينُ من أعناب، وزرعٌ ونخيلٌ أيضًا، متقاربة في الخِلقة مختلفة في الطعم والألوان، مع اجتماع جميعها على شِرب واحد، فمِنْ طيِّبٍ طعمُه حَسَنٍ منظرُه طيبة رائحتُه، ومِن حامض طعمُه ولا رائحة له.
وعن الحسن قال: هذا مَثَل ضربه الله لقلوب بني آدم، كانت الأرض في يد الرحمن طينة واحدة، فسَطحها وبطَحَها، فصارت الأرض قِطَعًا متجاورات، فينزل عليها الماء من السماء، فتُخرج هذه زهرتها وثمرها وشجرها، وتخرج نباتها وتحيي مواتها، وتخرج هذه سَبَخها ومِلْحها وخَبثها، وكلتاهما تُسقى بماء واحد، فلو كان الماء مالحًا، قيل: إنما استسبخت هذه من قِبَل الماء، كذلك الناس خُلقوا من آدم، فينزل عليهم من السماء تذكرة فترقّ قلوب فتخشع وتخضع، وتقسو قلوب فتلهو وتسهو وتجفو.
وقوله: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾، يقول تعالى ذكره: إن في مخالفة الله عز وجل بين هذه القطع من الأرض المتجاورات وثمار جناتها وزروعها على ما وصفنا وبينّا لدليلاً واضحًا وعبرة لقوم يعقلون. فلو شاء الله لسوّى بين جميع أُكل ثمار الجنة التي تشرب شربًا واحدًا، وتُسقى سقيًا واحدًا، وهي متفاضلة في الأُكُل”.
والآن، وبعد عرض أقوال المفسرين حول تفسير هذه الآية الكريمة، لنلقِ نظرة مفصلة عن تطور مفهوم تكاثر النبات ونموه وكيفية تغذيته، وعلاقته بالتربة والماء، وهو ما اصطُلح عليه بـ”علم وظائف أعضاء النبات”.
تطور علم وظائف أعضاء النبات
إذا قارنّا ظاهرة التغذية عند النبات مع ما يقع عند الحيوان، نجد أنه من السهل التعرف على النظام الغذائي لدى الحيوان، وذلك من خلال الملاحظة المباشرة والملموسة، من اقتناصٍ للفريسة، وابتلاعٍ للطعام، وقضمٍ للعشب والكلأ وأكله، بينما يصعب التعرف على كيفية التغذية عند النبات نظرًا لانعدام هذا النوع من العلامات البديهية، فضلاً عن بطء النمو والانعدام النسبي للحركة عند النبات. فظهرت قديمًا أفكار وأينعت معتقدات لا تمتّ إلى المنطق بأي صلة، ورُسمت نماذج في محاولة تفسير الظواهر الطبيعية.
والنموذج هو ذلك التصور الذي يضعه العلماء لظاهرةٍ لم يستطيعوا ملاحظتها بصورة مباشرة ولا معاينتها عن قرب، ويقومون بإعداد هذا النموذج من خلال ملاحظات غير مباشرة، ومن خلال فرضيات متحقق منها، ومن المعلوم أن النموذج يتطور مع الزمن.
وهكذا فإن هدف المساعي العلمية هو الاتفاق تدريجيًّا على نموذج يرى العلماء بالإجماع أنه هو الأنسب، معتمدين في ذلك على مجموعة من الملاحظات والتجارب، غير أن هذا النموذج سرعان ما يصبح لاغيًا مع تطور العلم والتقنيات المستعملة.
نظريات نمو النبات قديمًا وحديثًا
كان أرسطو -الفيلسوف الإغريقي (322-384 ق.م)- يظن أن النباتات تتكون من عناصر الأرض، وتتغذى على الدُّبال الذي تجده في التربة. فكل المواد -على زعمه- تأتي من الأرض؛ فعندما تنمو شجيرة ما، فهذا يعني -بالنسبة لأرسطو- أن التربة تحولت إلى مادة نباتية.
ومع مرور الزمن، ترجَّح لعلماء الطبيعة أن النبات يجد في الأرض المواد التي يحتاج إليها في حُلة جاهزة، يستخلصها جاهزة بواسطة جذوره. وهكذا فإن الأغصان والأوراق والأزهار والفواكه تُستخلَص كلها من الأرض، تمتصها الجذور وتوصلها إلى مناطق معيّنة من النبات. وبهذا المنطق فإن النبات كان -بزعم علماء ذلك العصر- يتمتع بقدرة الاختيار من بين المواد المتوفرة في التربة، أيها أصلح إليه وأنسب لحاجياته. وطبعًا فإن هذه المعتقدات شبه العلمية، لم تكن تستند على أيّ أساس علمي يُذكر من ملاحظة أو تجربة أو برهان.
وظلت المعتقدات على هذا الحال حتى نهاية القرن السادس عشر (1580م)، حيث تقدم العالم والفيلسوف الإيطالي “سيزالبينو” (Andréa Cesalpino) بفرضية مفادُها؛ أن المادة التي أخذها النبات من الخارج لابد لها أن تتعرض لتحوّلات داخل أعضاء النبات لتجعل منها مادة في شكل مناسب قابل للإدماج.
ورغم عدم إثباتها بالحجة الدامغة، فقد صادفت هذه الفرضية قبولاً وصدًى طيبًا في وسط علماء الطبيعة المعاصرين، والذين جاءوا من بعد “سيزالبينو” من أمثال “جونغ” (Jung) من ألمانيا، أو “فان هلمونت” (Van Helmont) من بلجيكا، أو “مالبيغي” (Malpighi) من إيطاليا.
تجربة “فان هلمونت”
ومع مطلع القرن السابع عشر، استطاع “فان هلمونت” (1577-1644م) أن يثبت المساهمة الهزيلة للتربة في زيادة وزن النبات من خلال تجربة أصبحت شهيرة فيما بعدُ.
قام “فان هلمونت” بغرس شجيرة الصفصاف في وعاء مملوء بالتربة بعد أن قاس وزن التربة. وبعد مرور خمس سنوات كاملة -وقد أصبح وزن الشجرة (75 كغ)- أعاد هذا العالم وزن التربة فوجدها قد فقدت (60 غ)، فتساءل عندها عن الجهة التي أمدت الشجرة بهذا الوزن، علمًا بأنه خلال هذه المدة الكاملة، لم يعط النبتة إلا ماء السقي. وكان استنتاجه أن الماء هو المسؤول الوحيد عن هذا الوزن.
أُجريت هذه التجربة في وقت لم يكن يُعرف فيه بعدُ أن المادة العضوية تتكون من الكربون.
وبعد تطور علم الكيمياء، أصبح جليًّا أن الماء وحده -في تجربة “فان هلمونت”- لا يمكن أن يفسّر تلك الزيادة الملحوظة في وزن الشجرة، لأنه لا يحتوي على عنصر الكربون. وهذا ما قام به “هيلز” (Stephen Hales) (1677-1761م) بعد قرن من الزمن، حيث افترض أن كمية مهمة من الكتلة النباتية تأتي من ثاني أكسيد الكربون (CO2).
هذا ويرجع الفضل للعالم السويسري “تيودور دي سوسير” (Théodore de Saussure) (1767-1845م) الذي استند على أعمال وتجارب “لافوازي” (Lavoisier)، وقدّم الحجّة على قدرة النبات على امتصاص ثاني أكسيد الكربون (CO2)، وتحويله إلى مادة عضوية وطرح غاز الأكسيجين (O2).
ووجب انتظار القرن العشرين لتتم البرهنة على صحة ادعاء فرضية “هيلز”. ومنذ ذلك التاريخ، أخذ علم وظائف أعضاء النبات طريقه الصحيح، فعرف تطورات هائلة في تفسير الظواهر الفسيولوجية التي تطرأ داخل خلايا وأنسجة النبات؛ من تبادلات كيميائية مهمة، وتفاعلات حيوية معقدة، وإفرازات هرمونية مثيرة.
قبسات من رحاب الآية
والآن وبعد هذه اللمحة التاريخية لعلم وظائف أعضاء النبات، والتي عرفنا من خلالها مدى بطء تطور هذا العلم عبر العصور، وانعدام دقته زمان نزول الوحي في وصف الظواهر الطبيعية من نمو النبات وتكاثره وكيفية تغذيته، لنرجع إلى الآية المعجزة لنتدبر معانيها ثانية على ضوء المعطيات العلمية التي تتوفر لدينا.
فالآية الكريمة تتطرق لمحاور أربعة: قِطَع متجاورات، جنات من أعناب وزرع ونخيل، ماء واحد يسقي هذه الفصائل المختلفة من النبات، تفضيل بعضها على بعض في الأكل.
الماء حيويٌّ في عملية الإنبات
من المعلوم أن الماء يلعب دورًا مهمًّا وحيويًّا في حياة النبات، فلولاه ما كان الإنبات ولا النبات ولا الحياة. فالماء ضروري لعمليات الأيض وهي مجموعة التفاعلات الكيميائية التي تحدث داخل الخلية، ويتم فيها بناء جزيئات كبيرة ومعقدة من جزيئات بسيطة، وتحطيم بعض الجزيئات الكبيرة لاستخلاص الطاقة الكيميائية المختزنة فيها.
وتكمن هذه الأهمية في كونه يشكل وسطًا ناقلاً تنتقل فيه نواتج عملية البناء الضوئي أو التركيب الضوئي -التي تتم داخل الخلايا اليخضورية للأوراق- والأملاح الممتصة من التربة، فضلاً عن أن معظم تفاعلات الخلية تتم فيه. كما يشكّل دعامة للنبات عن طريق ضغط الامتلاء، ويعمل كمُنظّم لدرجة حرارة النبات.
أما بالنسبة لطرق حصول النباتات الراقية على الماء، فتتم عن طريق الشعيرات الجذرية بعملية الامتصاص من التربة إلى الجذور بعد أن يذيبها الماء. ويخضع انتقال الماء لقوانين فيزيائية دقيقة -القوة الأسموزية- تتحكم في ميكانيكية حركته من التربة إلى الجذور فالأوراق فالهواء الجوي عبر مجموعة من الأوعية والقُصيبات.
وإلى جانب الماء، فإن التربة -التي ينمو فيها النبات ويستمد منها جُل احتياجاته الغذائية- والمناخ -بعناصره المختلفة من حرارة ورطوبة ورياح وضوء وغيرها- يُعتبران من أكثر العوامل البيئية تأثيرًا على صفات النبات ونموه وإزهاره وإثماره، وبالتالي على الزراعة باعتبارها المصدر الأساسي والرئيس في توفير غذاء الإنسان.
التربة مسرح للتفاعلات الكيميائية
إن التربة تعتبر مسرحًا للتفاعلات الكيميائية التي تتم في المنطقة الانتقالية بين طوري التربة “السائل والصلب”، فتتكون مُعقدات أيونية، وتنشط الأيونات المنفردة في محلول التربة، وينتُج عن تلك العمليات ترسيب أو إذابة أو امتزاج، تبعًا لخواص التربة من حموضة وقلوية، ووضع العناصر المعدنية فيها.
والجدير بالذكر أن للعناصر المعدنية مجموعة كبيرة من الوظائف في النبات، وعلى رأسها التركيب الضوئي؛ فمن العناصر ما هو ضروري لتكوين الهرمونات في النباتات، ومنها ما يلعب دورًا رئيسًا في عملية تشكيل البروتينات في النباتات، ومنها ما له علاقة بحركة السكريات إلى أماكن تخزينها -في الجذور أو الجذوع أو الأوراق- الشيء الذي قد يُفضي إلى اختلاف في الطعم: ﴿وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ﴾.
القرآن يجدد أحاسيس البشر بالمشاهد في الكون والنفس
وفي هذا الصدد، يقول صاحب الظلال: “مَن منا لم يذق الطعوم مختلفات في نَبْت البقعة الواحدة، فكم منا التفت هذه اللفتة التي وجَّه القرآن إليها العقول والقلوب! إنه بمثل هذا يبقى القرآن جديدًا أبدًا؛ لأنه يجدد أحاسيس البشر بالمناظر والمشاهد في الكون والنفس وهي لا تنفد، ولا يستقصيها إنسان في عمره المحدود، ولا تستقصيها البشرية في أجلها الموعود: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾.
ومرة ثالثة نقف أمام التقابلات الفنية في اللوحة بين: القطع المتجاورات المختلفات، والنخل صنوان وغير صنوان، والطعوم مختلفات، والزرع والنخيل والأعناب، تلك الجولة الهائلة في آفاق الكون الفسيحة”.
وبصدد الحديث عن البناء الضوئي، تلك العملية الحيوية المهمة التي يعتبر النبات مسرحًا لها، والتي يتم خلالها إنتاج مواد عضوية معقدة (سكريات) من مواد غير عضوية أوّلية بسيطة، زيادة عن إنتاج الأكسجين اللازم لعملية التنفس، والتخلص من ثاني أكسيد الكربون السام والمسبب لظاهرة الاحتباس الحراري، فإن الماء يُعدّ من العناصر اللازمة لحدوثها.
والنباتات، بجانب الطحالب وبعض أنواع البكتيريا الزرقاء، تعتبر الكائنات الوحيدة التي باستطاعتها أن تُجمّع الطاقة الشمسية، وتستخدمها كوقود لنموها، فهي بذلك تسمى “كائنات منتجة”، على العكس من الحيوانات التي تُعتبر مستهلكة.
أما بالنسبة للفصائل النباتية المذكورة من أعناب وزرع ونخيل، فلا بأس من الإشارة إلى ما ذهب إليه الباحث محمد طاهر محمد موسى بشأن تصميم مزارع الأعناب؛ حيث اعتبر الزرع نبات التغطية الذي يحمي التربة من التعرية ويحفظ رطوبتها، والنّخل من مصدّات الرياح التي تحمي من العواصف وتثبت الرمال. إلا أننا لا نظن أنه أريد به هنا، التركيز على هذه الفصائل بعينها، بل نعتقد أن هذه الفصائل سِيقت كنماذج لأنواع النباتات من أشجار (النخل) وشجيرات (أعناب)، وكل نوع من أنواع الحبوب أو ما يشابهها من أعشاب (الزرع)، ورغم اختلافها فإنها تشترك في الجذور والساق والأوراق، وأساسيات التغذية لديها تخضع لنفس القوانين من إذابة للعناصر المعدنية الأساسية التي سيبني النبات بواسطتها مواده ومركّباته الحيوية المختلفة وامتصاصها.
ويرجع هذا إلى مقدرة الماء العالية في فصل الجزيئات المتأيّنة وغير المتأيّنة، بعيدًا عن بعضها البعض، كما أن بإمكان النبات أن يحافظ على الماء حتى لا يصل إلى نقطة الذبول ويضحى مهددًا بالموت.
وجه الغرابة في اختلاف الثمار والطعم
قد يتساءل سائل، وما الغرابة في اختلاف الثمار والطعم ما دامت التربة التي تغذّي هذه الأشجار هي نفسها مختلفة، وما دام المناخ الذي تعيش تحته هذه النباتات مختلفًا كذلك؟!
لكن لو افترضنا أن القطع متجاورة، فهذا سوف يعني بالتالي أن الظروف البيئية السائدة على البساتين، ستكون حتمًا على العموم واحدة أو متقاربة، مما يمنح الماء الذي تُسقى به هذه الفصائل النباتية دورًا أساسيًّا في سبب اختلاف الثمار والطعم.
وكلمة ﴿مُتَجَاوِرَاتٌ﴾ تعني “متدانيات” كما جاء في قصة النساء اللاتي كنّ متجاورات في دارٍ، وقد استُشهد رجالهن يوم أُحُد، فجئن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلن: إنا نستوحش بالليل، فنبيت عند إحدانا، حتى إذا أصبحنا تبادرنا إلى بيوتنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “تحدثن عند إحداكن ما بدا لكُنّ، حتى إذا أردتن النوم فلتؤب كل امرأة إلى بيتها”. (ابن القيم في زاد المعاد 5/615). فلو حذفت كلمة ﴿مُتَجَاوِرَاتٌ﴾ التي هي نعت لقطع لَقيل: إن هذه النباتات واختلاف طعمها إنما هو راجع إلى اختلاف تربة هاته القطع.