طرقتْ الباب بهدوءٍ وحياء، كأنها مترددة متوجسة، تنتظر القَدر الكريم يُعينها… ففتحت البابَ ربَّةُ البيت، وإذا أمَة لله قُدَّامها، تظلِّلها غمامةُ من الكفاف، وتلألأت في محياها هالةٌ من العفاف…
الطارقة: السلام عليكِ ورحمة الله، أختي الكريمة.
ربة البيت: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، مرحبًا.
الطارقة: معذرةً، جئتكِ قاصدةً فلا تردِّني، ظننتُ فيكِ خيرًا، فلا تخيّبي ظنّي…
ربة البيت: إني فاعلةٌ -بحول الله- ما استطعتُ إليه سبيلاً، وحسبي قول الكريم المنّان: ﴿وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ﴾.
الطارقة: علينا أنا وزوجي ديونٌ، لم أجد وسيلةً لسدادها إلا في العمل منظّفة في بيتٍ، أو صائنة لدرَج عمارةٍ، فهلاَّ قبلتِ أن أكون خادمةً عندكِ، ولكِ مني الثناءُ والدعاء، ومن الله الأجر والجزاء.
ربة البيت: لكن، هلاَّ صنتِ كرامتكِ، وتركتِ زوجك يتدبر الأمر، فلعله يكون الأقدر على ذلك.
الطارقة: أعان الله زوجي وتقبّل منه، فقد بذل جهدًا، وشاء الله تعالى أن يخسر في تجارته، ثم خاب ظنّه وانكسر خاطرُه وليس له إلاّيَ رفدًا ومعينًا.
ربة البيت: كم هي ديونك؟ وفيمَ كانت هذه الديون؟
الطارقة: عذرًا، لا تحرجيني، فلستُ أبغي أن يحرمني الله الأجرَ والمثوبة، وليس لي في الدنيا ملاذٌ إلا بابه، ولا مطلبٌ إلا معيته.
ربة البيت: طيّب، لا عليك سامِحني، ليس ذلك مقصدي.. مرحبًا بك.. مِن الساعة أنت أختي ومعينتي والشادَّةُ على أزري.. أعِدُك أنك بإذن الله في صون وحصن وأمان.
عملت “الطارقة صاحبةُ الدَّين” ما شاء الله لها أن تعمل، بصبر وإخلاص، ومصابرة وتفانٍ، ولم يصدر منها يومًا أنَّة ولا آهة، ولا تحسُّر ولا تذمُّر… فملأتْ ربوع البيت بركاتٍ سماوية وأنوارًا ملائكية إلى أن أتمَّت الأجل وحصلت على ما تريد من مال يكفيها لسداد دينها.
وجاء يوم الوداع، فقالت ربة البيت: “بورك لكِ وفيك وفيمن ربَّاكِ وأدَّبك… وجزاك عن الدِّين وعن الملة خير الجزاء، فقد كنتِ نعمَ المعين، ولك من المولى أجر مفرِّج الكرَب.. اللهم اكتبها في عبادك المحسنين.. يا رب العالمين”.
بدموعٍ سخينةٍ منهمرة رقراقة تمّت مراسيمُ الوداع، هُما قلبان على الحسن والإحسان تلاقَيا… فانطلقت الطارقة بعيدًا.. بعيدًا.. إلى أن قاربت الاختفاء.. فلحقت بها ربة البيت مهرولة وقالت: “معذرة، هلاَّ أخبرتني فيمَ ديْنك، وقد أبلغَكِ الله مُنيتك؟”
الطارقة: نعم، أمَّا الآن فنعم..
صمتَت طويلاً، ثم أطرقت وقالت: “لقد نذرتُ أنا وزوجي أن نتكفَّل بنفقات طالبٍ للعلم، لا نعرفه ولا يعرفنا، في موكب الـ”هِمَّة”، “خدمة للإيمان والقرآن”، راجين العونَ من الملك الديان.. فكان ما قصصتُ لك من أمر الخسارة، ولم نشأ أن نُحرم أجر نذرِنا؛ ولكنَّ الله هداني إليكِ بفضله، وهداك لقبول طلبي بمنّه. وها نحن اليوم سعداءُ فرحون، مهلِّلون شاكرون.. أن بلَّغَنا اللهُ مقصدنا ولم يخيّب أملنا.. والحقُّ أقول: لقد كنتُ ولا أزال أردّد -مطلع كل شمس- الحديثَ القدسي الشريف: “أنا عند ظنّ عبدي بي، فليظنَّ بي ما شاء”.. وها أنا اليوم أشهد نفحاته النورانيةَ عين اليقين، بعدما كنت أعلمها علم اليقين”…
لم تقدر ربة البيت أن تنبس ببنت شفة، كأن الخبر العجيب نزل عليها صاعقة، وهي تقيس -في قرارة نفسِها- همَّتها إلى همَّة الطارقة صاحبةِ الدَّين!
ولم يطُل المشهد كثيرًا حتى ودَّعتها صاحبة الدَّين.. وهنالك في أفق الملائكة استقر ظلُّها، وهو يردّد مقولة الحكيم: “أما الأعمال المتوجّهة لرضا الله تعالى وحده، فإن الذرّة الواحدة منها تعادل الشمس، والقطرة الواحدة منها تعادل البحار، واللحظة الواحدة منها بقيمة الأبد”.