هل بإمكان الإنشاء الشكلي أن يسهم في إقامة مشروعنا العمراني في هذا العصر؟ وما هو البعد الذي يمكن أن تعبّر عنه رسالتنا العمرانية في عصرنا وعالمنا؟
إن مصطلح العمران لا يستوعبه مصطلح التعمير لما عرَفه هذا المصطلح من تحولات في البيئة الغربية التي نشأ فيها، لأن التعمير مبالِغٌ في التمدن ولاغٍ لنمط حياة البداوة ومهيكل للبيئة القروية وفق نمط خاصٍّ لحياة في المدنية. فهو “عمران” اقترن وجوده بالعصر الصناعي، لكن العمران -خلافًا لهذا الحصر- يستوعب كل أنماط حياة البشر، المدنيُّ منها والقروي والبدوي على السواء. فهو كما أقر العلامة ابن خلدون رحمه الله: اجتماع بشري ضروري لتبادل المصالح بين الناس ليكْمُل وجودُهم وما أراده الله من اعتمار العالم بهم ومن استخلافه إياهم.
أما “البنيان” فهو جزء من العمران وعنصر أساسي له، يمكّن من تناول تطور شكل الحاضرة في بيئتها، ويمكّن من فهم الأجهزة التي تنظم العلاقات بين مكوّنات العمران المختلفة.
والفرق بين البناء والبنيان فرق شاسع، لكون البناء لا يستوعب الأسسَ النظرية للبنيان بحكم قيامه على الوظيفة والمتانة. فالبنيان عبارة عن فقه نوازل حركة البناء لتلبية رغبات الإنسان وحاجياته في إطار من تصوره ومعتقداته، ضمن منظور بيئي وواقع معيّن لعمران يُسهم في إنشائه الجميع.
وبهذا، احتوت رسالة البنيان بعدًا يعبّر عن الهوية الجوهرية للحضارة في البناء، وبعدًا يعبّر عن الفترة الزمنية التي تأسس فيها البناء، وعن انتسابه المحلي والقومي. ولقد حمل العمران والبنيان هذه الرسالة المزدوجة في إطار الحضارات السابقة بما يعبّر عن البعدين للهوية والقيم، إلا أن الغرب قدّم نشازًا منذ نهضته -وما سمّاه بعصر التنوير- فأقدم على تغييب البعد الثابت المعبر عن هوية البناء المعنوية وتجريده من قيمها النوعية، وهذا ما سنصطلح عليه بالعمارة الحداثية. فالعمارة الحداثية وما تقوم عليه من وظيفة ومتانة وجمال، اختُزلت رسالتُها في البعد المادي فقط والقيم التي ترتبط به. ولنا أن نتساءل: ما مدى الخطورة تجاه التعبير الحداثي السائد اليوم في الإنشاء العمراني؟ وأي مجال عمراني نريد؟ يقتضي الجواب على هذين السؤالين عرضًا منهجيًّا للقراءة الحداثية للمجال العمراني والإحاطة بجوانب المسألة. وحتى نستطيع تقديم عناصر في الحل وتناولَ القراءة الإسلامية في المجال، نحتاج إلى تقديم نتائج أهم محاولات التنظير الحداثي في هذا الميدان.
القراءة الحداثية للمجال
إن القراءة الحداثية للمجال قراءة شكلية ناتجة عن غياب “منهجية” معتمدة في هذا الميدان. وكما حدث في مجالات أخرى، فلقد فقد التفكير في إيجاد المنهاج في العمارة الحماسةَ التي انطلق بها في الغرب خلال ما اعتبره نهضة وتنويرًا. فعند الانطلاقة -في إطار الثورة المعرفية في الغرب وخاصة خلال القرن الثامن عشر- كان الإصرار على البحث في مبادئ كونية وإجراءات عامة يمكن نقلها لكل العلوم، إلا أن النقد ظل قائمًا تجاه خصائص العمارة لكونها غير علمية ولصعوبة التحقق منها. ويمكن أن نقدم أهم محاولات التنظير الحداثية في هذا الميدان، محاولات عديدة ومتنوعة يتعيّن ترتيبها حسب أسسها الفكرية، وانطلاقًا من أهدافها.
يقدّم الترتيب الأول ما يمكن أن نلخصه في مجموعات من المفكّرين من أمثال: المؤلفين الماركسيين وأهمّهم “تافُري”، البنيويين المتمسّكين بنظرية النُّسُق من أمثال “بودُن” و”شُوي” و”ألكساندر” في مرحلته الأولى، و”نُربِر شولز” والزوجين “دُبلاي”، البنيويين الجدد والظاهرانيين وأهمهم “بيريز كوميز” و”ألكساندر” في مرحلته الثانية.
وأما الترتيب الثاني فيقدّم مجموعات المفكرين بطريقة أخرى، فمنهم من حاول تأسيس نظرية علمية ومعرفية للعمارة مثل “بودُن”، ومنهم من وضع صُنافَةً لكتابة العمارة قصد البحث عن معالم استدلالية جديدة مثل “شُوي” التي حاولت أجرأةَ نصوص ونظريات عصر النهضة في كتابها “القاعدة والنموذج”، ومنهم من حاول توضيح التصوّر لاقتراح طريقة عقلانية لتلبية الحاجات وهذه أهم أهداف “ألكساندر” في مرحلته الأولى، ومنهم من ربط العمارة بالتيارات المعرفية السائدة مثل الزوجين “دُبلاي”، ومنهم من انطلق من نقد الأسس الفكرية للخطابات السائدة مقدّمًا أهم هذه المحاولات من أمثال “ألكساندر” في مرحلته الثانية، و”بيريز كوميز” الذي تناول دراسة العمارة في إطار ما نعته بـ”أزمة العلم الحديث”.
وأيًّا ما كان الموقف والمحاولة وكيف ما كان الترتيب، يمكن اختزال أهم نتائج هذه المحاولات التنظيرية في نتيجتين اثنتين:
1- إعداد واقتباس مصطلحات جديدة تبيّن أنها غير عملية عند التطبيق وغير مُرضية ولا ذات قيمة من الناحية النظرية: “بودُن” و”ألكساندر” والزوجان “دُبلاي”.
2- تأسيس نظرية علمية ومعرفية في العمارة: “بودُن”، لكنها غير حاضرة في لحظة إنشاء المشروع وصياغته، مما أدى إلى رفضها من قبل أهل المهنة وعدم اهتمامهم بها.
فهذه المحاولات العديدة والمتنوعة باءت كلها بالفشل، لكونها أنكرت الأسس التي تقوم عليها عند التطبيق، ذلك لكون أصحاب هذه النظريات رفضوا أجرأتها على مستوى التطبيق، ولكونهم أيضًا لم يتناولوا علاقة العمارة مع الميادين المعرفية المجاورة لها في إطار المهنة، وأيضًا لوجود مسافات شاسعة في الفكر بين النظرية والتطبيق.
إن الغموض في المرور من النظرية إلى التطبيق، من أهم أسباب الفشل في إيجاد منهجية المقاصد في العمران الحداثي، وعلى وجه الخصوص في العمارة. ذلك أنه تم تجاهلُ الخطاب المتضمَّن في الشكل وكأن الشكل لا يحمل رسالة. والحقيقة أن الشكل هو الواسطة الأساسية للتعبير، إذ إن له وجودًا في نسق واقع خاصٍّ ذي دلالة رمزية وخطابية. ولمّا أصبح عمل الشكل في المنهجية الحداثية يكوّن الأساس من فعل الإنشاء، برزت عديد من التناقضات منها:
أ- إن “المناهج” التي تفرض نفسها في ميدان العمارة هي تقنيات في العمل الشكلي.
بـ- إن “المناهج” التي ترفض التدخل المباشر في الشكل، تتحول إلى تقادمات تقنية مما أدى إلى أجرأة النظرية.
جـ- إن “المطلب النظري” -شئنا أم أبينا- أصبح هو العمل في الشكل.
نستخلص من هذا كله، أن مشكل الشكل يحرف كلَّ بحث في المنهاج للعمارة ويُصاب شيئًا فشيئًا بعدوى المشاكل الخطابية. وقد ارتبط وجود مشكل الشكل بآليات إبداع المعماري التي ارتبطت بدورها بالإستراتيجية المهنية. وعندما نتناول التطبيق بعيدًا عن التقنيات، تبدو المناهج وكأنها مجرد مشكل بسيط للخطاب كمن يهرِف بما لا يعرف. وهكذا، نجد أنفسنا في متاهة تتطلب -بداية- الخروج منها. فما المخرج إذن؟ لا شك أن الجواب على هذا السؤال الذي يفرض نفسه للحصول على عناصر في الحل، يقتضي اعتماد قراءة جوهرية لهذا المجال.
القراءة الجوهرية الإسلامية للمجال
لقد رأينا أن خطاب العمارة الحداثية، خالٍ من المبادئ المعبرة عن الهوية الحضارية والقيم المنبثقة منها، وأنه يعتمد قراءة شكلية تجعله منحصرًا أساسًا في تجليات العمارة الزمنية والمكانية، بينما يتضمن الشكل البنياني عند المسلمين، كلية الخطاب المزدوج المعبر عن الهوية والقيم الحضارية المتمثّلة في عوامل الحضارة الجوهرية، وعن تجليات هذه العوامل في الزمان والمكان، وهي قراءة جوهرية ومعنوية للمجال العمراني تمكّننا من تناول عناصر في الحل.
وحتى نكون مؤهّلين لذلك، يقتضي أن تتوفر فينا عناصر خمسة: تصورٌ للوجود، مُساءلةُ السياق الحضاري، إحضارُ إستراتيجية مهنية متجددة، تأسيسُ مشروع اجتماعي مستشرف للمستقبل، استحضارُ المستوى الذي يناسب المنهجية في البحث.
أما التصور للوجود، فهو مبني على البعد الرباني، ودور العقل لاستحضار هذا البعد فيه بعدٌ يشكّل منهاجًا لمقاربة الواقع والعمل فيه. فلا يمكن -مثلاً- أن نحلل دون تصور مؤطّر، والتصور الشامل المؤطّر عندنا هو “التوحيد”.
ولن نسائل السياق الحضاري، إلا بحصول استيعاب للسياق التاريخي وإحكام التعبير عن مشاكل البنيان والعمران، إذ إن كل مجال وكل حضارة ينتجان وسائل معيّنة لوقوعهما وإنشائهما وتقويمهما.
أما الإستراتيجية المهنية فبحاجةٍ إلى تصور جديد للعمارة وإلى حرية يحظى بها المعماري، وقد تحددت علاقته مع الفاعلين الآخرين في حقل العمارة. والحرية هنا، منضبطة بالمسؤولية في الخبرة والإنشاء وكذلك في التربية والتوجيه.
ولن يتأسس المشروع الاجتماعي المستشرف للمستقبل، دون تواصل رسالة النبوة وتجددها وفعلها في الزمان على كل مستوى -فردي وجماعي- حيث يصبح الماضي فيه أحد أشكال الحاضر والمستقبل. ففي إطار هذا المشروع الاجتماعي بهذه المقاربة وهذا التصور، تتضح الغاياتُ وتستجيب العمارةُ للمتطلبات.
ولاستحضار المستوى المناسب للمنهجية، نتناول كل المستويات الفاعلة فيه بشكل هرمي في خمس مستويات: مستوى المذهب، مستوى الفكر، مستوى النظرية، مستوى المنهجية، مستوى التقنيات.
فلا ينبغي للبحث في منهجية العمران وإنشائه أن ينحصر في مسألة الإجراءات الشكلية منا، هو الشأن في القراءة الحداثية، بل يتعدى ذلك إلى حل إشكالية الإنشاء المعماري وإعادة صياغة المشروع في إطار هذا الهرم.
فعلى مستوى المذهب، لا يمكن أن نعمل على تغيير الواقع بمنأى عن التوحيد الذي يقدّم منهج مقاربة الوجود وشمولية التراكيب. في هذا المستوى تتجلى أهمية المبادئ المؤسسة للعمارة وثوابتها التعبدية والأخلاقية.
ويعتمد مستوى الفكر، على إرث النبوة المتواصل الذي يمكّننا من أن نقدّم مشروعًا اجتماعيًّا محدَّد المعالم. وفي هذا المستوى، يتكوّن عند المعماري مشروعه للمجتمع والحياة وأسسُ مقاصد هذا المشروع وهنا تظهر أهمية الغايات.
أما مستوى النظرية، فنستطيع أن نحدد فيه توجّهات البحث المنهجي للعمارة وغاياته، ومسؤوليةَ كل متدخل في عملية البناء، كما يمكن إثبات مكانة الشكل في مسار الإنشاء المعماري وتوضيح الإستراتيجية المهنية للمعماري، وفي هذا المستوى تكمن أهمية المقاصد.
ثم يأتي مستوى المنهجية، الذي هو الإطار لكل من يُسهم في عملية البناء، حيث يتم أيضًا إثبات طرق الانتقال من العمل الشكلي إلى العمل غير الشكلي، وعلى هذا المستوى تتجلى أهمية الأهداف الكامنة في الوظائف.
وأخيرًا يأتي مستوى التقنيات، المناسب للعمل الشكلي والهندسي المتغير أيضًا، الذي يتم فيه تحديد مواد البناء التراثية أو المعاصرة للمتانة، ومعاينة الوسائل الفنية لإضفاء مسحة من الحسن والجمال على العمارة.
وبهذا، يتضح أن البنيان الذي هو من أهم مكونات العمران، إن هو إلا بناء منضبط بأحكام وأصول ومبادئ وقواعد ومقاصد، يكوّن الشكلُ فيه الإطارَ المجالي الملبّي للمتطلبات من خلال الوظائف التي يحتويها، وتَلفُّه لمسةٌ من الجمال يبدعها المعماري.
خطاب الحضارة في البنيان
فالمجال العمراني إذن، هو الإطار الكامن لمضامين تعبّر عن أبعاد خطاب الحضارة في البنيان وما يترتب عنه من وظيفة ومتانة وجمال. وبهذا، يتجلى لنا أن للعمران والبنيان عند المسلمين هوية تحتوي عنصرين متكاملين: العنصر المعنوي النوعي الجوهري، وهو عنصر ثابت ومصدر يتعلق بالمبادئ المنزلة الموجهة لأسس الأعمال وهو العنصر الذي يتضمن مبادئ الهوية ومرجعيتها الربانية. العنصر الواقعي المادي الملموس، وهو عنصر قابل للتطور والتغير مرتبط بخصوصيات المجتمع وهو العنصر الذي يبرز المفاهيم المادية والزمنية للهوية.
وغالبًا ما تُكرر نتائجُ محاولات إبداع مجال جديد الحلول التاريخية المتمثلة في المدن العتيقة القائمة في بلادنا، فبقيت هذه المحاولات محصورة نسبيًّا فيما يمكن أن ننعته بتقليد السابقين، وهو تقليد يضاف إلى تقليد الغرب الحالي.
وفي الأخير، إن تصور الحل الذي نقترح تصور مقاصدي، له من المرونة ما يحرر الشكل ويفسح أمامه مجالاً واسعًا من الاختيارات التي تغنيها القيم. وهو تصور يتبنى أيَّ تقنية تمكّن من الوصول إلى المقاصد. وهو تصور يتناول مستويات الحياة كلها؛ الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها. فالقضية قضية حضارية، والتصور تصور حضاري يحتاج إلى إرادة سياسية ووعي ثقافي وتأهيل اجتماعي وإصلاح اقتصادي، ويحتاج أن يتبناه المجتمع بكل مكوناته، ولا يبقى مقتصرًا على نخبة من المفكرين المختصين، بل يحتاج الأمر إلى تغيير حضاري شامل لأمة المسلمين وللبشرية.
وفي انتظار هذا التغيير الحضاري، يتعيّن على الذين يحملون همّ تأسيس هذا المشروع الذي يتجاوز الشكلي إلى الجوهري في أي مجال تخصصي، أن يعملوا -مرحليًّا- على ملاءمة المقاصد مع متطلبات مهنتهم وملاءمة هذه المتطلبات مع المقاصد. فلا مفر لهم من امتلاك رؤية تغييرية وإصلاحية ناصحة تتسم بالشمول الذي يقتضي اكتساب منهجية المقارنة في معرفة الذات الحضارية ومعرفة الغير.
وفي الختام، لا مفر من التأكيد على المسؤولية الخاصة الملقاة على عاتق معماري اليوم، لما يتم عبر عمل في البيئة التعبير عن عوامل الحضارة الجوهرية في المكان، فمن المفروض أن يتحلى المعماري بخصائص ثلاثة: اكتساب رؤية شاملة وروح أهلية تمكّنانه من إبداع عمران جديد لما بعد الحداثة، الارتقاء إلى مستوى الانفتاح المتوازن نحو التخصصات المتنوعة المعنية بالعمران، القدرة على جعل حضوره الفعلي ضابطًا يوجّه باستمرار نحو الأهداف والغايات والمقاصد المحددة.
ويستطيع أي متخصص -بعد تمثل هذه الميزات- أن يستفيد من الوضع النوعي لأمتنا ليعرض للعالَم أجمع مظهرًا متميزًا؛ مظهر المتخصص النصوح والمستشار، المتخصص المربي، القادر على أن يسهم في إرساء قواعد النهضة المرتقبة التي ستكون -إن شاء الله- عالمية الموقع والفعل.