الصيدلة الإسلامية

الصيدلة قديمة قدم معرفة العقاقير والنباتات الطبية. فالإنسان الأول في تجواله بحثًا عن غذائه بين الأشجار والحشائش (النباتات) لابد وقد قابل منها ما لم يستسغه فتحاشاه وما ضره فتجنّبه. ومن معلوماته هذه عن تلك النباتات الطبية والعقاقير، ومن ملاحظاته ومشاهداته عما نتج عن تعاطي هذه النباتات، كانت أول المعرفة عن الطب، ومن هنا عُرف العشّاب الأول ونشأت صناعة العقاقير والصيدلة.
وبتقدم معلومات الإنسان، تمكّن من الاستفادة من هذه النباتات وأجزائها في إصلاح بدنه وعلاج جراحه وأمراضه، فصارت المعرفة بالصيدلة والطب اللذين تمرس بهما القدماء -من البابليين والأشوريين والصينين والهنود والمصريين- أمرًا مقدسًا. ثم جاء اليونان فارتقوا بهما، ثم انتقلت منهم هذه المعرفة إلى المسلمين الذين كانوا أعظم المهتمين بها، فحافظوا عليها وأجادوها وتوسعوا فيها وطوروها واستحدثوا فيها الكثير.
ولا شك أن الصيدلة كانت في بدء أمرها متصلة اتصالاً وثيقًا بالطب، حيث كان الطبيب يحضّر بنفسه الأدوية التي يصفها لمرضاه، ثم أخذت شيئًا فشيئًا تنفصل عنه. لقد كان كل طبيب صيدلانيًّا، وكان له مساعدون يساعدونه في جمع النباتات الشافية، ولكن كثرت العقاقير وتشعبت طرق تركيبها، فأصبح من الضروري التفرغ لها وتكريس الوقت والجهة الكافيين لغرض تهيئتها للمريض، فانقسمت مسؤولية “الطبيب الصيدلي” و”الصيدلي الطبيب” إلى قسمين، وأصبحت هذه المسؤولية الواحدة مسؤوليتين ترتبطان بمهنتين قائمتين بذاتهما، هما مهنة الطبيب ومهنة الصيدلي. فأصبح الصيدلي هو الذي يجمع الأدوية ويختار الأجود من أنواعها، على أحسن التراكيب التي وضع أسسها أفضل الأطباء والعشّابين.

ريادة المسلمين في تأسيس الصيدلة

ولقد اكتشف المسلمون أدوية جديدة منها؛ الكافور، والصندل، والراوند، والحنظل، وجوز الطيب، كما اخترعوا الكحول، والمستحلبات، والخلاصات العطرية، مثل الرازي حيث استخدم لأول مرة الزئبق في تركيب المراهم وجرب مفعوله على القردة، بالإضافة إلى اكتشافهم أنواعًا مختلفة من الأشربة. وكان الأطباء المسلمون أول من وصف القهوة كدواء للقلب، ووصفوا القهوة المطحونة كدواء لالتهاب اللوزتين والزحار والجروح الملتهبة، ووصفوا الكافور لإنعاش القلب.
والمسلمون هم أول من ابتكر الشراب الحلو المستخرج من نبات الكرنب مع السكر، ولا يزال الغرب يطلقون عليه كلمة “Syrup” وهي مأخوذة من كلمة “شراب” العربية، كما أن المسلمين هم أول من غلف حبات الأدوية المُرة بغلاف من السكر ليتمكن المريض من استساغة الدواء. وأما عادة تغليف حبات الأدوية بالذهب والفضة -في الوقت الحاضر- فهو تقليد يعود إلى ابن سينا الذي وصف الذهب والفضة كأدوية مفيدة للقلب، وقام بتغليف الأدوية المعمولة على شكل حبوب.
وبرع الأطباء المسلمون في تحضير وصنع وتركيب الضمادات والمساحيق والمراهم… وقد وفقوا إلى صنع مراهم تجف مع الوقت كشماعات الجروح الحديثة. وضع المسلمون عصارة أفكارهم ونتائج تجاربهم في كتب خاصة سميت بـ”الأقراباذين” نشرت فيما بعد على أسس صالحة للاستعمال تحت عنوان “وسائل شافية” وتناولها الجميع.
والحق أن المسلمين هم أول من أسس الصيدلة، فقد أضافوا تركيبات جديدة وابتكارات علمية لم تكن معروفة قبلهم، كما أنهم أول من كتب وألّف في العقاقير. ومن أهم مآثر المسلمين في علم الصيدلة إدخالهم نظام الحسبة ومراقبة الأدوية، إذ أن بعض الصيادلة لم يكونوا أمينين ومخلصين في أعمالهم، فأمر الخليفة العباسي المأمون (218هـ) بامتحان أمانة الصيادلة. ثم أمر المعتصم سنة (221هـ) أن يمنح الصيدلي الذي تثبت أمانته شهادة تجيز له العمل. وانتقل نظام الحسبة إلى أوربا ولا تزال كلمة “محتسب” تستعمل في اللغة الإسبانية بلفظها العربي حتى الوقت الحاضر. لقد وضع في عهد المأمون نظام خاص لامتحان الصيادلة للحصول على إجازة الممارسة، كما كانت الصيدليات خاضعة للتفتيش المنتظم، وكان لكل مدينة كبيرة عميد للصيادلة يدعى في حينه بـ”العطارين” أو “العشابين”.

حركة الترجمة والتأليف عند المسلمين

لقد استعمل الصيادلة المسلمون جميع الأدوية التي كانت معروفة قبلهم، كما أضافوا عليها الكثير من مبتكراتهم ومكتشفاتهم. ولقد كان للأدوية النباتية ومشتقاتها الأثر الكبير في مستحضراتهم، كما ترجموا عن الهندية واليونانية، وكان أهم ما ترجم إلى العربية كتاب “المفردات الطبية النباتية” لـ”ديسقوريدس”، وكان أول من ترجمه “اصطفيان بن باسيل” في عهد الخليفة العباسي المتوكل على الله. وكما كانت النهضة في الشرق في أوجها لم تكن الأندلس بأقل منها حركة في الترجمة والتأليف؛ فقد عني رجال الأندلس من خلفاء وأمراء وعلماء ووجهاء وأثرياء… بتشجيع حركة التأليف والنقل فترجموا كتبًا جديدة.
وقد أنجبت الأندلس علماء أكفاء في مختلف العلوم الطبيعية وخاصة علم النبات. وجمع الطبيب القرطبي أحمد بن محمد الغافقي (ت560هـ) في كتابه “جامع المفردات” نباتات إسبانيا وإفريقية، وسمى كلاًّ منها بأسمائها العربية واللاتينية. ولقد كان لكتابه “الأدوية المفردة” أهمية كبيرة، حيث إن مواطنه وزميله ابن البيطار -الذي عدّ من أشهر علماء الكيمياء والصيدلة في عصره- اقتبس كثيرًا من مفرداته، وكان يختار النباتات والأعشاب ويحفظها ويبحث عن مواضع إنباتها. ولقد جاء في كتابه ما يزيد على (1400) نوع من النبات ذكر معظمها وخواصها وصفاتها، وكثير من هذه النباتات والأعشاب ما تزال تستعمل بأسمائها العربية بعد أن كتبت باللاتينية.
ولا ننسى أنه منذ عصر المأمون -في القرن التاسع الميلادي- أصبحت الصيدليات تحت إشراف الدولة، وأصبح الصيادلة يخضعون لفحص مسلكي وطبي يكشف عن مهاراتهم وتخصصهم الدقيق، فتعددت -بذلك- التجارب وكثرت المواد التي ابتكرها المسلمون.
ويكاد لا يخطئ من يقول إن ثلث مؤلفات المسلمين الطبية قد انصبت على الوقاية من الأمراض والمحافظة على الصحة. ومن دلالات هذا الاهتمام أن يخصص علي بن عباس في كتاب “الصناعة الطبية” واحدًا وثلاثين فصلاً في حفظ الصحة وتدبيرها بالرياضة والاستحمام والغذاء والشراب والنوم والجماع والهواء النقي، وفي تدبير من ناله إعياء ومن في أعضائه آفة أو في جسمه ضعف، والتحرز من الأمراض الوبائية والأسباب المنذرة بحدوث أمراض شائعة، بل يتحدث عن الأمراض النفسية وغير ذلك مما يدخل فيما نسميه اليوم بـ”علم الصحة”.
ومثل هذا في كتب غيره من أطباء المسلمين كثير، لأنهم جاهروا بأن حفظ الصحة والوقاية من الأمراض، أهم من مداواة المرض وأكثر نفعًا، لأن الصحة في الأصحاء موجودة وفي المرضى مفقودة، وحفظ الموجود أفضل من طلب الشيء المفقود.

صلة الصيدلة بالطب

وقد تشعب الطب الإسلامي في العصور الوسطى فروعًا تخصص في كل منها فريق من الأطباء. وفي هذه الفترة أيضًا، ظهرت الصلة الوثيقة بين الصيدلة والطب، حيث كان الطبيب يعدّ أدويته بنفسه حسب معرفته وتجاربه الخاصة، والدليل على ذلك التآليف الكثيرة التي وضعها الأطباء في الصيدلة، أي فبالأدوية المفردة والمركبة سواء كانت من نبات أو من حيوان أو معادن.
وعلى الرغم من اعتماد الصيادلة المسلمين في بداية أبحاثهم ودراساتهم على كتب السابقين، إلا أنهم تمكنوا من إضافة مادة طبية غزيرة -سواء كانت نباتية أم حيوانية أو معدنية- بفضل اتساع رقعتهم الجغرافية ونمو كثير من النباتات الطبية فيها، بالإضافة إلى تفوّقهم في علم الكيمياء مما مكنهم من ابتكار أدوية لم تكن معروفة من قبل، ركبوها من تلك الأصول وأضافوا إلى ما عرفوا من صنوفها عن الهنود واليونان. فكانوا بهذا، سباقين إلى ابتداع “الأقراباذين” أو “الفارماكولوجي” على الصورة التي وصلت إلينا.
ولا أدل على تقدم المسلمين في علم الصيدلة من أنهم كانوا يتحققون من أيّ الأجزاء من النبات يكون العقار أفيد وأقوم وأفضل، وكذلك مواعيد جمع العقاقير من النبات وجنيها أو قطفها منها، وكيفية إدخالها وتخزينها محتفظة بفوائدها وقوتها دون أن يتطرق إليها الفساد مع معرفة علامات فسادها، وكذلك انتقاء أجود النبات المستخدم في صنع العقار. ولقد أطنب في هذا المجال الكثير من أطباء المسلمين كابن سينا، والطبري، وداود الأنطاكي، والرازي، والبيروني، وابن البيطار.
ولم يكن عمل ابن البيطار مبدعًا في فصل علم النبات وجعله علمًا مستقلاًّ عن العلوم الطبية والدوائية فحسب، بل تجلى إبداعه في المنهج الذي اتبعه في دراسة النبات وتصنيفه، ذلك المنهج الذي لم تضف الحضارة الغربية عليه حتى الآن، إلا ما يتعلق باستعمال الوسائل الحديثة كالتصوير والمجاهر.

المنهج التجريبي القائم على الملاحظة

ومن خلال المقارنة بين طريقة ابن البيطار والطريقة التي يسير عليها العلماء المحدثون، نجد أنه توجد جوانب مشتركة بين ابن البيطار والعلماء الذين اعتمدوا على المنهج التجريبي الذي يقوم على “الملاحظة”. ويمكن أن نستدل على معنى “الملاحظة” من خلال مؤلفات ابن البيطار بالقول إن “الملاحظة” عنده تعني؛ التوجه الحسي والعقلي المقصود إلى ظاهرة من الظواهر للكشف عن حقيقتها ومعرفة علتها وليس الوقوف أمامها دون تعليل علمي لها، وقد ذكرها ابن البيطار بلفظ “المشاهدة”.
واستخدم ابن البيطار “التجربة” وكان يطلق عليها اسم “الاختبار”. فقد قام بممارستها عند اختباره للأعشاب والنباتات، لكي يستخرج منها العقاقير اللازمة لعلاج الأمراض. وكانت التجربة عنده مرتبطة بالفرض الذي يُعد أبرز صور الإبداع العلمي، وذلك بتحقيق شروط الإبداع التي تكشف عن التماثل في المختلف، والوحدة في المتنوع عندما يعتمد الباحث على ربط مسار الوقائع في خط متصل.
هذا وقد خصص ابن سينا الكتاب الثاني في الأدوية المفردة من كتابه “القانون في الطب” لدراسة النبات؛ قسم الجملة الأولى منه إلى ست مقالات في تعرف أمزجة الأدوية المفردة بالتجربة والقياس وقواها، وقسم الجملة الثانية إلى عدة ألواح وقواعد، وذكر في كل فصل النباتات التي تتخذ منها الأدوية. ونهج في ذكر هذه النباتات منهاجًا خاصًّا، فكان يذكر الماهية وفيها وصف النباتات وصفًا دقيقًا مقارنًا هذه النباتات بنظائرها، وموردًا صفاتها الأساسية، ناقلاً ما ذكره من تقدمه من العلماء من أمثال “ديسقوريدس” أو “جالينوس” أو غيرهما، ثم يذكر بعد ذلك الاختبار فالطبع والخواص.
وقد استقصى ابن سينا نسبة كبيرة من النباتات المعروفة آنئذ، وأورد مزاجًا مختلفًا من هذه النباتات الشجرية والعشبية والزهرية المختلفة من الجنس الواحد، وتكلم عن المتشابه وغير المتشابه، كما ذكر موطن النبات والتربة التي ينمو بها إن كانت ملحة أو غير ملحة.
وكذلك شغف “القزويني” بعلم النبات، وأتى في كتابه “عجائب المخلوقات” على وصف كثير من النباتات من محاصيل وخضروات وفاكهة كما تحدث عن الحركة اليومية للأزهار، وكان اهتمامه أغلب الأمر بالنباتات الطبية. وأورد ابن سيده في كتابه “المخصص” وصفَ كثير من أنواع الكلأ والشجر والعشب والكمأة وما شاكلها، والحنظل والقطن والنخل والكرم. وقد عني “الإدريسي” بالاستدراك على ما أغفله ديسقوريدس كالهليلج الأصفر والهندي والكابلي وخير شنبر والتمر الهندي والخولجان والقاقلة والجوزبوا والبهمن الأبيض والأحمر والكبابة والقرنفلي والريباس وحب الزلم والآس والمحلب والتفل والأمير وغيرها، وعلل الإدريسي عدم ذكر ديسقوريدس لهذه النباتات إما بأنه لم يبلغه علمها أو لم يسمع بها.
واهتم الإدريسي بذكر المراجع التي استقى منها؛ مثل مفردات جالينوس أو حنين بن إسحاق أو ابن جلجل أو الزهراوي، وحقق أسماء النباتات بلغات مختلفة وذكرها على حروف المعجم، وأورد أسماء النبات باللغات السريانية واليونانية والفارسية والهندية واللاتينية والبربرية، كما عني بتفسير هذه الأسماء وما تدل عليه من معان.
وكذلك فعل الداودي، والدينوري، والغافقي، والقرطبي، وابن المصوري، في وصف مئات الأنواع النباتية من نحو الآراك والسحل والأثاب والآء والأرطي والآس والأقحوان والدباء والذنوب والعناب والبعيثران والسنبل والعود …إلخ.
ومما لا شك فيه أن أغلب علماء النبات من المسلمين إنما تغلب عليهم الناحية الطبية وإن اهتم بعضهم بوصف النباتات غير الطبية، كما اهتم آخرون كابن العوام بطرق الزراعة وما أشبه من موضوعات تعتبر بعيدة نوعًا ما من الفوائد الطبية أو استغلال النواحي العلاجية.
وكذلك عني بعض العشابين مثل ابن البيطار وداود الأنطاكي بوصف كثير من أنواع الحيوان مما يستخلص منه عقاقير علاجية، كما وصف البغدادي كثيرًا من حيوانات مصر من سمك وطير وسلحفاة وفرس النهر، وكذلك فعل القزويني في كتاب”عجائب المخلوقات”.