التوحيد والتجريد في الفن الإسلامي

تجلت الحضارة الإسلامية في انطلاقتها، من منظور التوحيد في الرؤية الشمولية للكون والحياة، لتفصل بين الخالق وخلقه وما يقتضيه ذلك من تحقيق إرادة الخالق في الكون الذي يعمره الإنسان الأكثر مسؤولية في هذه الحياة.

ولما كان الإسلام هو جوهر الحضارة، وكان التوحيد هو جوهر الإسلام، فقد اشتمل هذا المنطق على كل القوانين الداخلية للأشياء في مستواها الدنيوي والأخروي، وجعلها في إطار وتسلسل منهجي دقيق ليجعل من التوحيد تصورًا عامًّا للحقيقة ومدركاتها.

فكان الخالق عز وجل يتجلى بصفاته التي تساعد المخلوق على إدراك تلك الصفات وإدراك إرادة الخالق في خلقه وملكوته، وكان القرآن الكريم معبرًا عن تلك الإرادة وسننها في الأرض، لأن هذه الأرض والعالم الذي أمامنا مجموعة لامتناهية من الأشياء، ومجموعة من الموضوعات التي تؤثث الكون وتجعل منه كيانًا قابلاً للإدراك والمعاينة والتغيير، وبالتالي اشتغال الكون كمستودع داخله سلسلة من الأشياء ينتج عبر ميكانيزماته الخاصة نمط إدراك هذه الأشياء.

وكان لمبدأ التوحيد -الجوهر الحضاري في الإسلام- أسلوب يحدد الشكل الذي تنتظم به المبادئ المكونة للحضارة في عملية التطبيق، ويحدد كذلك المبادئ نفسها التي تنتظم داخل الشكل بما ندعوه الآن بالمظهر والجوهر أو الشكل والمضمون.

لقد اتضحت فكرة التوحيد انطلاقًا من موقف الدين من الحياة والوجود في عرضيتهما، وبما يحويانه من إنسان وحيوان وطبيعة، إزاء جوهرية المطلق الذي هو الغيب جل جلاله؛ المطلق الموجود في كل شيء: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ﴾(البقرة:115)، ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾(فصلت:53)، والعديد من الآيات الكريمة التي تؤكد عرضية الزمان والمكان، والوجود كعالم يشهد إزاء مطلقيته وجوهريته وأزليته وأبدية الله.

مبدأ الجمال

وأمام هذه العرضية، يفقد الموضوع قيمته الأساسية في العمل الفني الإسلامي، ويتحول إلى المبدأ مع قيمة الشكل بدلاً من الشكل والمضمون أو الموضوع. فالجمال في الفنون الإسلامية تتميز بتفردها بتلك اللمسات الروحانية التي ترتاح إليها النفوس وتتماهى مع تعابيرها وتوريقاتها اللامتناهية، لتوحي بشعور الانتماء إلى عوالم كونية بعيدة تمد الروح القلقة فيها بسلامها وطمأنينتها، حتى اعتبرت الزخرفة نوعًا من الطقوس المقدسة، والمنمنمات تمثل لانهائية الحياة. يقول “مارسيه” في كتاب “الفن الإسلامي”: “إن وحدة الرقشة الزخرفية بغير بداية أو نهاية، هي سرمدية استوحت قواعدها من القواعد الرياضية وتكرار الموضوع والرغبة في حل معادلة اللانهاية”.

ويكشف لنا “ابن عربي” عن جوهر الفن الإسلامي بقوله: “الذات محجوبة بالصفات، والصفات محجوبة بالأفعال، والأفعال محجوبة بالأكوان والآثار، فمن تجلت عليه الصفات بارتفاع حجب الأفعال رضي وسلم، ومن تجلت عليه الصفات، فني في الوحدة فصار موحدًا مطلقًا. فتوحيد الأفعال مقدم على توحيد الصفات، وتوحيد الصفات مقدم على توحيد الذات” (الفتوحات المكية).

من هنا، تغيب الذات في الفن الإسلامي وتضمحل أمام عظمة الخالق، ولا تظهر إلا في سمات ذلك الفن الجمعي الذي يعيد عزفًا إسلاميًّا جماعيًّا، فيغيب الفنان المسلم بينما يتجلى الفن الإسلامي في أبهى صوره.

كما تنعكس صفة المطلق من خلال ذلك التكرار الذي لا ينتهي في انتشار الزخرفة باتجاهات متعددة لا تنتهي أو تتوقف، إنما تتوالد بصورة مستمرة. وهكذا ينمو الفن من نقطة واحدة تتراكم بنظامية هندسية رياضية، أو تتكرر حسب نظام كلي فتصير خطًّا، والخط يكون أشكالاً مربعة، دائرة، مخمسًا، مسدسًا، مسبعًا، مثمنًا… إلخ، ثم تدور هذه الأشكال حول مراكزها… إنها النقطة.

قواعد أساسية

الجانب الأسلوبي الذي يحدد علاقتنا بالفنون الإسلامية عمومًا والخط العربي خصوصًا، ينطلق من ثلاثة مبادئ أساسية هي: الوحدة والعقل والسعة.

فالوحدة في الفنون الإسلامية عملية انتظام في علاقات داخلة مع مكونات تلك الفنون مهما اختلفت أساليبها ووسائلها، فكأن وحدتها الأسلوبية هي في حقيقتها، وحدة جوهر مع اختلاف جميع الأعراض. أما العقل فكان يؤكد على الحقيقة وفي الوقت نفسه على استمرار التناقضات والانفتاح وتقبل الدليل المخالف. فكان رفضه لمخالفة الحقيقة حماية له من الظن والذي يكون أحيانًا إثمًا: ﴿إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾(الحجرات:12). ورفض المتناقضات كان اتفاقًا على مصدرية المعرفة اليقينية، أما اشتغال العقل فقد كان حماية للإنسان من الانغلاق.

وفي هذا الإطار تمتد فكرة التوحيد لتشمل المبادئ الأساسية في حياة الإنسان المسلم وتكون في وقت واحد مبدأ أخلاقيًّا وقيميًّا، واجتماعيًّا، وجماليًّا. وفي ذلك يقول “روجيه غارودي”: “الفن الإسلامي كالعلم الإسلامي والحياة الاجتماعية الإسلامية والفلسفة الإسلامية، لا يمكن فهمها إلا من خلال مبدئها الأساسي وهو العقيدة الإسلامية”.

المرئي واللامرئي

ولتأكيد الثوابت الشكلية والجوهرية الموزعة على محور الزمان والمكان في حياة الفنان المسلم، سنعيد تشكيل سلم إحالات داخلية في النسق الفكري الذي انتهى إليه الفن الإسلامي، والذي لا شك فيه أن في تنظيم تاريخه الجمالي وبنية خطابه المتماسك داخل صيرورته، ستساعدنا كثيرًا في قراءة الجانب المرئي منه، وتحرك فينا تلك الأصداء التي تكشف عن خطاباتها الجوهرية غير المرئية وهذا هو ديدن الفن الإسلامي في اكتشاف ذلك الجوهر، ومنحه ذلك الجسد المرئي، أي استقراء الجوهر الماورائي وإعادة تمثيل ذلك الجوهر.

ولما كان هذا الجوهر الماورائي إلهيًّا في طبيعته ومصدريته، فهو جدير بالتقديس والجلال والمهابة. وإذا كانت الفلسفات القديمة تبحث وتؤكد على ذلك الجمال الذي تدركه الحواس، فإن الإسلام يؤكد على ذلك الجوهر (الجمال الذي يدركه العقل) في محكم بيانه العظيم أو في تجسيده للإيمان والوفاء والتقوى والشجاعة والكرم.

واعتبر الإمام الغزالي أن ذلك الجمال المدرك بالعقل، تعجز الحواس -بحكم محدوديتها- عن إدراكه أو نقله إلى العقل، وإنما يدركه العقل مباشرة دون أن يكون للحواس فضل في ذلك، لأنه من المدركات الاعتبارية المؤثرة في النفس والوجدان.

الجمال الحسي والجمال العقلي

يتضح لنا أمران في إدراك الجمال في الإسلام: جمال حسي، وجمال عقلي. الأول يدركه البصر والآخر تدركه البصيرة. وكشف الإمام الغزالي عن عمق جمال البصيرة بقوله: “البصيرة الباطنة أقوى من البصر الظاهر”، “القلب (العقل) أشد إدراكًا من العين”، وجمال المعاني المدركة بالعقل أعظم من جمال الصور الظاهرة للأبصار. ولذة القلب في إدراك الأمور الجليلة الإلهية أقوى وأمضى. وهكذا وحد الجوهر في الفن الإسلامي بين ذلك النسق في العلاقات الشكلية بين المفاهيم والأسباب التي أدت إلى ائتلافها أو اختلافها، ويصر ذلك النسق على الاكتمال في الرؤية بعد أن كانت كل الوقائع مستعصية على الانصياع. فالمدرك بالبصر والبصيرة، غير الملموس باليد أو البعيد المنال.

وهكذا تحرر الفن الإسلامي من الحضور العيني للوقائع البصرية. إنه فن يؤمن بالتوحيد ويشهد على الألوهية عندما يقضي الفنان المسلم بأن لا شيء في الطبيعة يحمل صورة الله أو يعبر عنه، أي أبعده عن طبيعته، وتأمل الفنان الموحد بأن عدم التعبير عن الله شيء، والتعبير عن عدم التعبير شيء آخر، أي أن استحالة التعبير عن إله، هي أسمى الأهداف الجمالية التي يمكن أن ينشدها: ﴿ليس كمِثلِهِ شيءٌ﴾(الشورى:11)، ﴿لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ﴾(الأنعام:103).

ورأى الفنان المسلم الموحد أنه يمكن التعبير عن استحالة التعبير، وذلك بحمل ما يرى في بصيرته على الإيمان باللانهائية وهو المحال التعبير عنه فكان فن الخط والزخرفة والعمارة والكثير من منتجات الفن الإسلامي. وعند استحالة التعبير في شكل هذه الفنون بعد تغير موضوعاتها، أيقن الفنان الموحد معنى من معاني التنزيه، لهذا كانت كل الفنون الإسلامية تسعى إلى تجاوز لغة الشكل والتقليد.

لغة الشكل وإيقاظ العين

وتتسم لغة الشكل بتجردها من القيم المادية بالطبيعة، فتتحول تلك القيم إلى خطوط وألوان مسطحة ومجردة من أي دلالة في العالم المنظور، بل تقود تلك الخطوط والألوان إلى نزعة صوفية تزهد بكل ما هو عاطفي أو حسي أو عرضي، حتى قيل في الخط بأنه “هندسة روحانية وإن ظهرت بآلة جسمانية” أو “الخط أصيل في الروح” و”الخط لسان اليد، ومطية الفكر أو العقل” كما أورده ابن النديم.

وتحمل لغة الشكل في الفن الإسلامي استعدادًا مبكرًا لإيقاظ لغة العين، لأن المدرك بالبصر والبصيرة، غير الملموس باليد أو البعيد المنال، ومحاولة قراءته بطريقة بنائية-تركيبية وبنسق يوضح العلاقة بين المفاهيم والأسباب التي أدت إلى ائتلافها أو اختلافها، لأنها عندما تتوجه أولاً للعين تتخذ منها طريقًا للوصول إلى الإنسان ككائن موحد.

وإيقاظ لغة العين يعني؛ أن يكون باستطاعتها أن تقرأ مضمون المستقيم والمنحني والمتحرك والثابت والمغلق والمفتوح وتجليات النقطة واكتمال الدائرة وكل النظام الحي الذي يحكم مسار العناصر، وبالتالي أن تقرأ لغة الشكل كمضمون. والسؤال الذي يقدمه الفن الإسلامي هو: كيف ترى؟ وليس: ماذا ترى؟

فقد شهد الفن الإسلامي منذ حضوره على كيفية الرؤية لا على موضوع الرؤية، وهو ما تسعى إليه اليوم المدارس الفنية الحديثة والمناهج الفكرية في التلقي والتأويل، سواء في الأدب أو الفن. فالعين إذن، هي القصد الأول سواء كانت في مجال القراءة أو التأمل أو التذوق أو الفهم… والعين هنا ليست أداة العقل أو المخيلة أو أداة الحس كما هي بالنسبة للكثير من الفنون، بل إنها الطرف الآخر المستقل الذي يمثل الإنسان ككل في عقله ومخيلته وحسه. ومفردات لغة العين من شكل وخط ومساحة وحدود ونظام، كالحروف التي تتألف من الكلمات والجمل والمصطلحات والرموز والإشارات والحركات… وذلك باقتدائها بنظام خاص يشكل سر اللغة وجوهرها في الإصغاء لهذا النظام الذي يتحكم في الشكل وعناصره في قوانينه وعلاقاته وإمكاناته… وفي الإصغاء لمعنى تجلياته ومصدرها، يتم الفهم واللقاء بين المتأمل وبين الفن. فتحجب عندها اللغة والعين معًا ليقف الإنسان ككل متوحد أمام الشهادة التي يشهدها هذا الفن.

إننا إزاء فن لا يروى ولا يوصف ولا يعلق ولا يشرح… فقد غاب الموضوع عنه فتجرد من الفرح أو الحزن كما تجرد من الزمان أو المكان. فلا حاجة إذن للتواريخ والأماكن، بل تبرز الحاجة للعين التي تعرف كيف تقرأ تلك العناصر والخطوط والألوان في تلاقيها وتقاطعها وتنافرها وتناغمها كإشارة أو رمز أو نظام خفي.

وحدة الرؤية

وكنا فيما سبق قد شهدنا وحدة الرؤية في الفن الإسلامي ومصدرها، ويحضرنا قول لـ”تيتوس بوركهارت” بأن “الفن الإسلامي يستقي مكانته من التزاوج بين الحكمة والمهارة الحرفية”، وتبرز قيمة الإتقان هذا في الفن الإسلامي، كنوع من الإخلاص والإجادة في أداء العمل، وهي رؤية شمولية لحياة الإنسان في عبادته وفكره وحياته اليومية فضلاً عن فنه. لا شك أن مثل هذه الرؤية الفنية والتراث الخالد، مبنيان على البراعة والحكمة في كافة تجليات الفن الإسلامي.

ولمناقشة وحدة الرؤية في الفن الإسلامي، فإننا نعود إلى تفسير وحدة الفكرة لدى “بوركهارت” حيث يقول: “إن لدى الفنان المسلم ثلاث وسائل: “الهندسة” وهي تترجم النظام المكاني، و”الإيقاع” وهو يكشف النظام الزمني وكذلك في المكان على نحو غير مباشر، و”الضوء” بالنسبة للوجود المحدود وهو في حقيقة الأمر غير قابل للانقسام، وطبيعته لا تتغير بفعل انعكاساته على شكل ألوان، ولا تقل بفعل انعكاساته أو تدرجاته من النور إلى الظلمة”.

وهذه الوسائل الثلاث تبدو بشكل نموذجي في الفنون الإسلامية في العمارة والزخرفة والخط، كما ألغى الإسلام الحدود الفاصلة بين الدين والحياة، وكان المسلم يبدأ بالبسملة عند شروعه القيام بأي عمل.

وقد يجدر بنا هنا التوقف عند الوسيلة الأولى (الهندسة)، أو ما يسمى بالعلاقات الهندسية في الفن العربي الإسلامي، ومن الضرورة هنا التمييز بين العلاقات الهندسية والعلاقات الرياضية.

لا شك أن القيم الجوهرية الماورائية التي تقف وراء الفنون الإسلامية، كان مصدرها منطقًا واحدًا.

وفي الخط العربي على الأقل، لم يكن للخطاط المسلم من وسيلة للكتابة والإتقان سوى يده وعقله وقلمه، ولم يكن يعتمد وسيلة قياس أو أداة، فكانت لغة العين سائدة كوسيلة تختزن الآلاف من الصور الجميلة المتقنة بحروف الخطاطين البارعين، لترتقي بهذه الصور إلى أعلى مستويات التهذيب والتجلي في الفكر، ثم تسعى يد الخطاط بالممارسة والتمرين، الوصول إلى طواعية اليد لإعادة تطبيق أجمل الصور الذهنية المحفوظة بالذاكرة عن أولئك الخطاطين الأوائل. هكذا توارث الخطاط روحية وجوهر القواعد دون أن يكون لكل زوايانا وترديداتنا ونسبنا أي حساب أو اعتبار.

إن عمل النسبة الذهبية في هذا النظام الدقيق بين الفنون الإسلامية، كانت تشكل مجموعة أنساق سيميائية وضمنية، وهي إشكالية لا يمكن أن تكون في حالة تقاطع مع الأنساق المعرفية وتداخل منظوماتها المصطلحية، أي إن الإشكالية يطرحها حضور النسق وغيابه وانطباقها على منتجات متعددة مع اختلاف مكان وزمان إنتاجها، أو يجعل الأشياء تنضوي ضمن أنساق تحدد لها شكل وجودها كحالات التشابه والتقابل والتطابق.

وفي إطار وتسلسل منهجي دقيق، يعاد اكتشاف القانون الداخلي لمفردات الفن الإسلامي والخط العربي بتلك الشبكة المتداخلة بين منظومة النظرة والفكرة واللغة، لتجعل الفن الإسلامي نظامًا يؤسس مكوناته المفهومية والمنهجية في الذاكرة الفنية والخطابية الجمالية.

لا شك أن خلف كل تقنية أو أسلوب ميتافيزيقي، يجب حصر معالمها لفهم تلك الرؤيا الماورائية للعمل الفني، من خلال الأرضية الثقافية والتاريخية لأشكال الخطوط العربية والفنون الإسلامية عمومًا.

وهنا يكشف الفن الإسلامي بناء ثوابته الشكلية الموزعة على محور الزمان والمكان، ويؤسس لسلم إحالات داخلية تنظم تاريخه وبنية خطابه المتماسك في صيرورة تعيد النسق الفكري إلى تلك النقطة الجوهرية التي ابتدأ منها الفن الإسلامي.