إن التأريخ لنشأة المكتبات الإسلامية ودراسة أوضاعها، إنما هو تاريخ للحضارة الإسلامية التي قامت على حب العلم وتقدير العلماء، مع الاستفادة من علوم ومعارف الآخرين، بغية الوصول إلى منظومة علمية شاملة ومنهجية متكاملة تقدم كل ما هو نافع ومفيد من تراث إنساني للبشرية جمعاء. ومن أجل تحقيق هذا الهدف الأسمى، سعى الخلفاء ومحبو العلم في مختلف العصور، على جمع كل ما تقع عليه أيديهم من كتب ومخطوطات في أماكن أطلقوا عليها خزائن الحكمة أو بيوت الحكمة أو دُور العلم… ومهما اختلفت هذه التسميات، فإنها اتفقت في أن الجزء الرئيس منها كان الكتب والمراجع والمخطوطات… حيث قامت هذه المكتبات بدور رئيس في بناء الحضارة، ونشر الثقافة والعلوم، وتوطيد الصلات العلمية بين أفراد المجتمع المسلم من ناحية، وبينهم وبين الشعوب والأمم المختلفة من ناحية أخرى… حيث إن هذه المكتبات لم تكن فقط أماكن لاقتناء الكتب، بل كانت أيضًا منارات وجامعات لنشر العلم والثقافة تضم الدروس الدينية والأدبية والعلمية؛ حيث يجلس فيها القراء والفقهاء واللغويون والأطباء والفلاسفة وغيرهم في مكان واحد، يحملون هدفًا واحدًا هو نشر العلم والثقافة، في جو ساده التسامح والحوار البنّاء وحرية البحث العلمي.
مكتبة بيت الحكمة في بغداد
كانت مكتبة بيت الحكمة التي أسسها العباسيون بـ”بغداد” أول صرح ثقافي أقامه المسلمون، كما كانت أعظمها شأنًا وأكثرها أثرًا لما حوته من الكتب النفيسة والمخطوطات النادرة في شتى العلوم والمعارف بمختلف لغات ذلك العصر. وترجع النواة الأولى في وضع لبنات هذا الصرح الثقافي الكبير إلى خلافة أبي جعفر المنصور، الذي كان أول خليفة عباسيٍّ اهتم بالعلوم بعدما رأى اختلاط العرب بالفرس والروم وأن الحاجة تدعو إلى “معرفة علوم الفرس واليونان، فوجه اهتمامه إلى ترجمة الكتب من اللغات الأعجمية إلى اللغة العربية، من كتب في الفلك والرياضيات والطب والأدب، كما بدأ في عهده التدوين في الفقه والحديث والتفسير والتأريخ”. فقد جمع المنصور هذه الكتب في خزانة كانت النواة الأولى لمكتبة بيت الحكمة، إلا أن الازدهار الحقيقي لهذه المكتبة يرجع للخليفة هارون الرشيد، الذي رأى بعد أن كثر عدد العلماء في بغداد أن ينشئ لهم بيت الحكمة، ليكون بمثابة أكاديمية علمية يجتمع فيها المعلمون والمتعلمون على حد سواء، كما حرص الرشيد على تزويدها بالكتب التي نقلت من بلاد الروم والقسطنطينية ومصر والشام، كما أضاف لها خزائنه مما اجتمع لديه من كتب فاتسعت خزانة الحكمة، التي صار لها أقسام متعددة لكل منها مَن يقوم بالإشراف عليه، ولها مَن يتولى ترجمة الكتب المختلفة إلى العربية… فكان يوحنا بن ماسويه يتولى أمر الكتب التي أمر الرشيد بنقلها من بلاد الروم بعد أن فتحها، وجعله الرشيد أمينًا على ترجمة تلك الكتب وكان أكثرها في الطب، وعين له كتّابًا مهرة لمساعدته… وكان أبو الفضل بن نوبخت الفارسي يقوم بترجمة كتب الحكمة الفارسية إلى العربية، كما أصبح لبيت الحكمة مجلدون يجلدون الكتب ويعتنون بزخرفتها وتنميقها.
وفي عهد المأمون بلغ الاهتمام ببيت الحكمة ذروته، حيث عمل المأمون على توسيع بيت الحكمة بزيادة عدد كتبها وبما يرد من كتب عديدة من بلاد الروم وغيرها، كما أرسل البعوث إلى القسطنطينية لإحضار المصنفات الفريدة في الفلسفة والهندسة والموسيقى والطب… ويروي ابن النديم: “أن المأمون كان بينه وبين إمبراطور الروم مراسلات، فكتب إليه يسأله الإذن في إنفاذ ما يختار من العلوم القديمة المخزونة ببلاد الروم، فأجابه إلى ذلك بعد امتناع، فعهد المأمون إلى الحجاج بن يوسف ابن مطر، وابن البطريق وغيرهما بإحضار بعض الكتب من القسطنطينية، وبعد أن عادوا إليه مزوّدين بالكتب التي وقع اختيارهم عليها، أمرهم بنقلها إلى العربية”. هذا وقد أنشأ المأمون إلى جانب مكتبة بيت الحكمة معهدًا رسميًّا للترجمة، ويعد هذا المعهد من وجوه كثيرة، أعظم المعاهد الثقافية التي نشأت بعد مدرسة الإسكندرية التي تأسست في القرن الثالث قبل الميلاد زمن الإسكندر المقدوني. وقد تُرجم في عهده الكثير من الكتب اليونانية نذكر منها؛ “الحكم الذهبية لفيثاغورث وبعض المصنفات لأبقراط وجالينوس في الطب، وكتاب السياسة والمدينة لأفلاطون، وكتاب المقولات والطبيعيات لأرسطو”… كما جعل المأمون من مكتبة بيت الحكمة مجمعًا كبيرًا لنشر الثقافة والعلم بين الناس، إذ إنه يسَّر لطلاب العلم الاطلاع على الكثير من مؤلفات علماء وفلاسفة اليونان منقولة إلى اللغة العربية… كما اهتم المأمون بختم الكتب الهامة بخاتمه، حتى تكون في مأمن من السرقة.
وفي عهد الخليفة المتوكل تم تجديد مدرسة الترجمة ومكتبتها في بغداد. ومن الأمور التي تحسب للخلفاء والأمراء الذين أقاموا بيت الحكمة، أنهم قد حرصوا على إقامة الحياة العلمية بين أركانه على أساس الحرية، فلا وجود للتعصب الذميم أو التزمت البغيض، بل كان الفلاسفة والمفكرين يتناظرون في حرية وصراحة، ويتعلم أهل الملل والنحل ما يبدو لهم دون حذف أو حذر. وإمعانًا في هذه الحرية التي لا تعرف تفضيل جنس على آخر أو طائفة على أخرى.
وقد تركت مكتبة بيت الحكمة أثرًا كبيرًا لدى العديد من الوزراء والكبراء، الذين حرصوا على إنشاء خزائن ومكتبات خاصة وعامة أسوة بمكتبة بيت الحكمة، فأنشأ علي بن يحيى المنجم خزانة للحكمة أقامها في ضيعته بـ”كركر” من نواحي “القفص” في بغداد، وهي خزانة كتبٍ عظيمة قصدها طلاب العلم يقيمون ويتعلمون فيها -على نفقته- صنوف العلم والأدب، مبذولة لهم الأرزاق، مغدقة عليهم العطايا.
وكذلك الأمر بخزانة الوزير الفتح بن خاقان، الذي اشتهر بولعه بالكتب وجمعها حتى توفرت لديه مكتبة من أكبر المكتبات في عصره… وقد استوزره المتوكل، وقيل عن شدة شغفه بالقراءة والاطلاع: “إذ كان جالسًا في قصر المتوكل وأراد أن يقوم إلى المتوضأ، أخرج من سلق موزته كتابًا لطيفًا فلا يزال يطالعه في ممره وعوده، فإذا وصل الحضرة الخليفية أعاده إلى ساق موزته”… كما عرف بشدة حبه للعلماء، فقد كان راعيًا لهم؛ إذ يحضر داره فصحاء العرب وعلماء الكوفة والبصرة الذين كانت له مواقف معهم تدل على سمو منزلته من العلم، الأمر الذي دعا الكثير من الكتّاب المرموقين في ذلك العصر، أن يؤلفوا الكتب ويجعلوا إهداءها إليه.
وكذلك الشأن بمكتبة دار العلم التي أنشأها أبو القاسم جعفر بن محمد بن ظهر في الموصل وجعل فيها وقفًا على كل طالب علم لا يمنع أحد من دخولها، وإذا جاءها غريب يطلب العلم والأدب وكان معسرًا أعطاه كتبًا ونقودًا… وأيضًا خزانة الوزير مؤيد الدين بن القصاب الذي نشأ مشتغلاً بالعلم والأدب، وقد قادته محبته للعلم والأدب إلى إنشاء خزانة للكتب أوقف على طلاب العلم الكثير منها، وكتب نص الوقفية بخطه… هذا إلى جانب العديد من المكتبات الأخرى التي كان لها أيدٍ بيضاء على مسيرة العلم في ذلك الزمان، وكان من ثمارها الطيبة تقريب العلم من نفوس محبيه، وكان لها أيضًا أثرها الحضاري الرائع في الحث على الاستزادة من العلوم وبث المعارف بين الناس.
مكتبة بيت الحكمة بالقاهرة
لقد أنشئت هذه الدار في عهد الحاكم بأمر الله الفاطمي عام 395 للهجرة، ويقول المؤرخ الكبير أحمد بن علي المقريزي حول إنشاء هذه الدار: “إن الحاكم بأمر الله نقل إليها من كتب قصره وخزائن القصور المهجورة، ما يقدر بستمائة ألف مجلد منها مائة ألف مجلد بديعة الخط والتجليد”. وزاد المقريزي: “لقد أعطى الحاكم بأمر الله جل اهتمامه، لبناء هذه الدار وكان له فيها مكان خاص، وقد فرشت المكتبة كأحسن ما يكون من الفرش، وعني بفرشها وزخرفتها وزين أبوابها وحجراتها بأنفس الستائر، وكسيت أرضيتها بالبسط والطنافس وزينت الجدران بخرائط فماشية عليها أقاليم الأرض، وعين لها القوم والخدم، وكان عدد الجزأين فيها أربعين خزانة تتسع الواحدة منها لنحو ثمانية عشر ألف كتاب، وكانت الرفوف مفتوحة والكتب في متناول الجميع، ويستطيع الراغب أن يحصل على الكتاب الذي يريده بنفسه ما تيسر له ذلك، فإذا ضل الطريق استعان بأحد المناولين”. كما كانت دار الحكمة مقسمة إلى عدة أقسام؛ فقسم للفقهاء، وقسم لقراء القرآن الكريم، وقسم للفلكيين، وقسم لأصحاب النحو واللغة، وقسم للأطباء، إلى جانب عدة قاعات للمحاضرات والمناقشات والمناظرات، حيث كان الحاكم بأمر الله يحضر كثيرًا من هذه المناظرات في الدار… كما رتب الحاكم للمقيمين بالمكتبة والباحثين أيًّا كان مجال اهتمامهم وأيًّا كانت جنسياتهم، مكافأة شهرية عرفت بـ”الجوائز السنية” تدفع لهم من خزانة بيت مال المسلمين وليس من مال الوقف… كما أباح الحضور إلى دار الحكمة لجميع الراغبين على اختلاف طبقاتهم ومذاهبهم لتلقي الدروس والقراءة والنسخ والنقل والاستعارة، وجعل فيها ما يحتاج الناس إليه… كما كان بها مكان للإقامة والضيافة لمن يرتحلون إليها مسافات بعيدة. وظلت دار الحكمة بفضل أساتذتها المشهورين وما كان لها من مناهج متنوعة جمعت بين الدراسة العلمية والفقهية، تؤدي رسالتها العلمية حتى نشبت الحرب الداخلية في عهد المستنصر بالله، وكان ذلك بداية المحنة التي نكبت بها الدار وسائر المكتبات الأخرى في ذلك العهد؛ “حيث فقدت المكتبة أعدادًا هائلة من الكتب والمصادر الثمينة من المخطوطات النادرة، حيث كان بها 6500 مخطوطة في الرياضيات، و18000 في الفلسفة، وكان فيها نسخ متعددة من العمل الواحد منها 1200 نسخة من تاريخ الطبري و1800 نسخة للخليل بن أحمد الفراهيدي من بينها نسخة بخط الخليل نفسه، وكانت الخسارة العلمية أكبر من أن تعوض إذا استولى الجند والأمراء على نفائس الكتب، كما تفرقت أكبر محتوياتها”.
مكتبات الأندلس
لقد قامت في قرطبة في عهدي الخليفتين عبد الرحمن الناصر الأموي وابنه المستنصر نهضة ثقافية كبرى، وظهر ذلك جليًّا باهتمامهم بإنشاء المكتبات التي بلغت في عظمتها وتأثيرها الثقافي، أشهر مكتبات ذلك العصر في بغداد والإسكندرية والقيروان. وقد حظيت هذه المكتبة، برعاية ودعم الخلفاء والأمراء من بني أمية، حيث كانوا يشجعون العلماء والأدباء وأرباب الفكر في أي مكان ويغدقون عليهم العطايا والهبات، حتى تم لهم استقطاب كل حركة علمية وفكرية بزغت في أي بلد من البلدان بتشجيع أهلها بالهجرة إلى الأندلس، حتى غدت قرطبة -خلال هذه الفترة- مهرجانًا علميًّا وصرحًا ثقافيًّا كبيرًا يموج بالعلماء والأدباء والمفكرين في شتى المجالات.
وقد أشار ابن سعيد إلى أن مكتبة كبرى للأمويين أسست في قرطبة في عهد الأمير عبد الرحمن بن الحكم الأوسط، وقد زودها بكتب كثيرة اشتراها من المشرق الإسلامي، وعلى ما يبدو أن هذه المكتبة كانت النواة الأولى لمكتبة الخلافة الأموية في قرطبة التي تألقت في القرن الرابع الهجري، حيث أَولى الخليفة الناصر وابنه الحكم جل اهتمامهما وعظيم رعايتهما لها… فإن شغفهما الكبير بجمع الكتب قد بلغ الآفاق ووصل إلى مسامع الناس في كل مكان… فها هو الإمبراطور قسطنطين السابع حاكم بيزنطة، لم يجد شيئًا يتقرب به إلى قلب الناصر حينما عزم على عقد معاهدة معه سوى أن يهديه كتابًا جديدًا لم يعرف من قبل وهو كتاب “ديوسفوريدس” في الطب، وجاءت رسله إلى قرطبة تحمل ذلك الكتاب في مجلد جميل مكتوبًا باللغة الإغريقية، وقد ذهّبت حروفه وزينت صفحاته بالرسوم الجميلة لبعض النباتات والأشجار التي ورد ذكرها في الكتاب… ولم يكتف إمبراطور بيزنطة بذلك، بل قد أرسل بعد ذلك “نقولا” الراهب ليقوم بترجمته من اللغة الإغريقية إلى اللغة العربية. وإذا كان هذا هو الشأن بالنسبة للناصر، فإن ابنه الحكم لم يكن أقل منه شأنًا من حيث حرصه على جمع الكتب واقتناء النفيس منها قبل أن تظهر أو تشيع في مواطنها؛ فكان يبعث في الكتب إلى الأقطار رجالاً من التجار ويرسل إليهم الأموال لشرائها، حتى جلب منها إلى الأندلس ما لم يعهدوه… وعندما بلغ إليه أن أبا الفرج الأصفهاني قد أوشك أن ينتهي من تأليف كتابه “الأغاني”، بعث إليه ألف دينار من الذهب وحصل منه على نسخة مبكرة من ذلك الكتاب قبل أن يشيع في العراق.
ومن الطريف أن هواية جمع الكتب واقتنائها في مكتبات وخزانات لحفظها، لم تكن وقفًا على الأمراء الأمويين فقط على نحو ما رأينا، وإنما كانت هواية تأصلت أيضًا في نفس الشعب الأندلسي، حتى صارت عندهم من علامات الرفعة والسمو، لا يستغني الرجل منهم عن تأسيس مكتبة في بيته حتى وإن لم يكن مولعًا بالقراءة وحب المعرفة…
ومما يؤكد هذا الرأي هذه الحكاية الطريفة التي رواها “المقري” عن “الحضرمي” الذي غشي سوقًا للكتب في قرطبة لشراء أحد الكتب، قال “الحضرمي”: “أقمت بقرطبة ولازمت سوق كتبها مدة أترقّب فيه وقوع كتاب لي بطلبه اعتناء، إلى أن وقع وهو بخط فصيح وتفسير مليح، ففرحت به أشد الفرح، فجعلت أزيد في ثمنه فيرجع إلى المنادي بالزيادة إلى أن بلغ فوق حده، فقلت له: يا هذا أرني من يريد هذا الكتاب حتى أبلغه إلى ما يساوي، فأراني شخصًا عليه لباس رئاسة، فدنوت منه وقلت له أعز الله سيدنا الفقيه، إن كان لك غرض في هذا الكتاب تركته لك، فقد بلغت به الزيادة بينا فوق حده، قال: فقال إليّ: لست بفقيه ولا أدري ما فيه، ولكني أقمت خزانة كتب، واحتفلت فيها لأتجمل بها بين أعيان البلد، وبقي فيها موضع يساوي هذا الكتاب، فلما رأيته حسن الخط جيد التجليد استحسنته ولم أبال بما أريد فيه، والحمد لله على ما أنعم علي به من الرزق فهو كثير، قال الحضرمي: فأحرجني وحملني على أن قلت له: نعم لا يكون الرزق كثيرًا إلا عند مثلك، يعطي الجوز لمن لا أسنان له، وأنا الذي أعلم ما في هذا الكتاب وأطلب الانتفاع به يكون الرزق عندي قليلاً، وتحول قلة ما بيدي بيني وبينه”.
وظلت هواية جمع الكتب وحب اقتنائها باقية في نفوس الشعب الأندلسي حتى بعد انتهاء عصر خلافة بني أمية وزوال مكتبتهم في قرطبة، حيث أخذ ملوك الطوائف يقلدون الخلفاء الأمويين في تعلقهم بالعلم، وتشجيع العلماء، وجمع الكتب النادرة، وإقامة المكتبات الخاصة التي تليق بجلال القدر وأبهة الحكم في أشبلية وطليطلة وسرقسطة وبلنسية… حتى تعددت المكتبات الكبرى بتعدد الدويلات التي أقامها ملوك الطوائف، إذ حوت خزائنهم الآلاف من المجلدات والمخطوطات النادرة في شتى فروع العلم والمعرفة، وبالتالي كثر هواة جمع الكتب وراجت تجارة الوراقة، وظلت هذه الهواية متمكنة في نفوس الناس بالأندلس طوال حكم المسلمين بها، إلى أن استولى الملك “فرناندو” على غرناطة آخر معقل إسلامي في الأندلس، حيث أصدر أمره بجمع المخطوطات الإسلامية من أيدي المسلمين، وتم إحراقها في ميدان الرملة في غرناطة على مشهد ومرأى من الجماهير، ولم يصل إلينا منها سوى مخطوط واحد وَضع عليه الحكم الثاني ملاحظات بخط يده.
مكتبات القيروان
كما أنشئت في مدينة القيروان المكتبات العامة والمكتبات الملحقة بالمساجد والمدارس والزوايا، وكانت هذه المكتبات مفتوحة للدراسين وتضم أمهات الكتب… ومن أشهر هذه المكتبات التي كانت موجودة في القيروان، بيت الحكمة الذي أنشأه الأمير إبراهيم الثاني الأغلبي، والذي أراد به أن يضاهي بيت الحكمة في بغداد، إذ كان هذا البيت نواة لمدرسة الطب القيروانية التي أثرت في الحركة العلمية في المغرب لزمن طويل… وقد استقدم الأمير إبراهيم أعدادًا كبيرة من علماء الفلك والطب والهندسة والنبات والرياضيات من المشرق إلى المغرب وزود منهم الفلكيين بالآلات الفلكية، حيث كان يبعث كل عام -وأحيانًا كل ستة أشهر- بعثة إلى بغداد بهدف تجديد ولائه للخلافة العباسية واقتناء نفائس الكتب المشرقية في الحكمة والفلك مما لا نظير له في المغرب. واستقدام مشاهير العلماء في العراق ومصر على هذا النحو، أمكنه في أمد قصير أن يقيم نموذجًا مصغرًا من بيت الحكمة في بغداد، حيث جعل منها معهدًا علميًّا للدرس والبحث العلمي والترجمة من اللاتينية، ومركزًا لنسخ المصنفات كان يتولى الإشراف عليه حفظة؛ مهمتهم السهر على حراسة ما يحتويه من كتب وتزويد الباحثين والمترددين عليه من طلاب العلم بما يلزمهم من هذه الكتب حسب تخصصاتهم، ويرأس هؤلاء الحفظة، ناظر كان يُعرف بصاحب بيت الحكمة… وأول من تولى هذا المنصب عالم الرياضيات أبو اليسر إبراهيم بن محمد الشيباني الكاتب المعروف بأبي اليسر الرياضي، وهو بغدادي النشأة، حيث أتيح له أن يلتقي بالعديد من المحدثين والفقهاء والأدباء واللغويين، وكان قد تنقّل في أقطار المشرق قبل انتقاله إلى الأندلس وأخيرًا استقر بالقيروان… كما كان الأمير إبراهيم بن أحمد، يعقد المجالس العلمية للمناظرة في بيت الحكمة، وكان يحضر هذه المجالس العلماء البارزون من فقهاء المالكية والحنفية.
وفي النهاية نقول، يجب علينا التأكيد على أن العودة لدراسة التراث الفكري والعلمي للحضارة العربية الإسلامية، لا يعني رفض التجديد والتغني بأمجاد الماضي، بل العكس هو الصحيح… فكل حركة بعث أو تجديد حقيقية، تبدأ بالعودة لهذا التراث لنستلهم قيمه ونستخرج جواهره وكنوزه… ومن ثم يمكن القول، إن كل فكر قادر على التغيير هو فكر يبدأ بقراءة معاصرة للتراث، فدراسة التراث هي دراسة لبناء الحاضر واستشراف المستقبل، وعلى هذا يتعين علينا الاهتمام بدراسة تراثنا المكتبي وتأصيله كي نعرف ماضينا الذي نهتدي من خلاله لمستقبلنا.