هل هوية العمارة الإسلامية، تبدو في قوام العمارة بوصفها سطوح وفراغات وخطوط وانحناءات وشراشيف وأدراج وأعمدة، أم في الزخارف اللاصقة على جدرانها وواجهاتها مما نراه -مثلاً- في قصور غرناطة؟
لقد اتجه أكثر المعماريين -وهذا ما لاحظه بحق الباحث عفيف البهنسي(1)- نحو الظاهر الزخرفي، فرأوا العمارة العربية من خلال الزخارف المتمثلة بالرقش والفسيفساء والمقرنصات والأفاريز والخطوط الجميلة… وكثيرة جدًّا هي المنشآت الحديثة التي ادعت الأصالة بإضافة هذه العناصر الزخرفية على بناء حديث مستوح من العمارة الحديثة.
بيد أن المعمار الكبير “حسن فتحي”(2) دعا منذ الستينات، إلى الاتجاه نحو العمارة الهوية من حيث هي كتل وفراغ بدءًا بالعمارة الريفية التي ينشئها الفلاحون الفقراء. والتصميم المعماري ليس هو العمارة الداخلية، ولكن الفعاليتين تتفاوتان وتتداخلان لإنشاء العمارة، سواء كانت عمارة بورجوازية مدنية أو كانت ريفية.
والسؤال الثاني يتعلق بمفهوم الهوية المعمارية وعلاقتها بالأساليب والطراز؛ فكيف تحافظ الهوية على وحدتها في نطاق أشكال مختلفة باختلاف المكان والزمان، وباختلاف السلطة السياسية والاجتماعية والدينية؟
ويسهل الجواب على هذا السؤال إذا اعتبرنا العمارة لغة مجسدة تحمل دلالات روحية ومادية، وتقوم بوظيفة إنسانية اجتماعية بأساليب مختلفة، شأنها في ذلك شأن اللغة التي تحمل دلالات مماثلة، وتقوم بوظيفة إنسانية حضارية.
هوية العمارة هي هوية الأمة
تتجلى هوية الأمة، من خلال وحدة اللغة والثقافة والعقائد، وتعكس هويتها على العمارة والفنون والتراث. وتستمر هوية العمارة باستمرار هوية الأمة، وتتطور بتطويرها، وتنهض بنهوضها، وتتفكك بتفككها. ولذلك فإن البحث عن هوية العمارة هو بحث عن هوية الأمة، وبالمقابل فإن فن العمارة يكشف عن هوية الأمة التي أفرزت هذا الفن أو ذاك.
ولأن هوية الأمة لا تتمثل بفصائل الدم بل بمعطيات الحضارة، فإن قراءة تاريخ العمارة يجب أن يبدأ بقراءة تاريخ حضارة الأمة، لأن بناء العمارة هو جزء من كيان الأمة. وبهذا المعنى فإن هوية العمارة تعني انتماء هذه العمارة إلى حضارة معينة خلفتها أمة معينة.
ومن هنا يؤكد الباحث عفيف البهنسي على الاعتراف؛ أن قطيعة طويلة الأمد حدثت بين ثقافتنا وبين تاريخنا الحضاري، أورثت جهلاً بالتراث ورفضًا له، وحققت فرصًا لتسرب الثقافات الوافدة والدخيلة التي غيرت شكل الثقافة الحــديثة وعبثت بجوهرها، وهكذا أصبحت عمارتنا غريبة عنا، وأصبحنا غرباء في مدننا التي تجردت عن هويتها الأصلية، وأصبحنا في بيئة هجينة غيرت من عاداتنا ومن أذواقنا وثقافتنا.
ويتساءل الباحث؛ إذا كان التاريخ صيرورة، وإذا كان لابد لكل قديم حديث، وإذا كان العصر الذي نعيش أكثر انفتاحًا على ثقافات العالم، وأصبحت التقنيات الحديثة وأساليب الفن والعمارة جزءًا من عولمة الثقافة، فكيف نستطيع تحقيق انتماء حضاري قومي في العمارة الحديثة؟
الهوية بين الأصالة والمعاصرة
إن عاملاً مشتركًا بين الأصالة والمعاصرة في العمارة خاصة، هو المقياس الإنساني. فإذا استطاعت المعاصرة -كما الأصالة- أن تحافظ على هذا المقياس، فإن التآخي بينهما يصبح ممكنًا، ويتجلى المقياس الإنساني في تمثل القيم الروحية والقومية والمادية في العمارة المعاصرة. فالمعاصرة ليست انتهاكًا للهوية، وإلا فإن التعددية التي هي طابع الإبداع، تنسحب من كيان العمارة العالمية لتصبح عمارة واحدة تمثل إقليمًا دوليًّا واحدًا. إذن، بتعدد الهويات المعمارية نستطيع الحديث عن عمارة عالمية، أما فرض هوية محددة على عمارات العالم، فإنه ينفي العالمية ويبقي على عمارة واحدة مهيمنة عالميًّا.
إن المسلمين تمكنوا في فن العمارة، الذي غطى مجالاً جغرافيًّا واسعًا امتد من إسبانيا (الأندلس) إلى بلاد البنغال، والذي غطى مجالاً تاريخيًّا بدأ في نهاية القرن السابع للميلاد حتى أوائل القرن التاسع عشر، أصبح مدرسة عالمية في البناء تتضمن مدارس وطرز فرعية كثيرة يتوفر على دراستها كثير من الباحثين في الشرق والغرب على السواء.
وقد أصبحت هناك حقب معمارية تاريخية وفنية؛ مثل العمارة الأموية، والعمارة العباسية، والعمارة المغربية، والعمارة الأندلسية، والعمارة العثمانية… تحمل كل منها بصمات خاصة بتلك الحقب التاريخية التي استغرقتها، وتحمل طابع المكان والظروف الجغرافية والثقافية التي سادت فيها. ومن هنا لا يكون غريبًا أن نجد كثيرًا من الطرز لمختلف العمائر الإسلامية -سواء كانت مساجد أو قلاع أو قصور أو مدن إسلامية كاملة- تعبر عن خصائص فنية وجمالية وتاريخية، مثل الطراز الأموي، أو العباسي، أو الفاطمي، أو السلجوقي، أو المملوكي، أو المغربي الأندلسي، أو التركي العثماني.
الفن الإسلامي الموحد في روحه
هذا الانتشار الواسع لرقعة الفن الإسلامي في كل بقاع العالم الإسلامي، وكما تبدى في العمارة الإسلامية الضخمة لأول وهلة، لَأكبر دليل على عبقرية الإنسان المسلم وسمو روحه (العبقرية والسمو اللتان استمدهما من روح الإسلام)، فسرت في كل إنشاءاته وصبغت كل أعماله. كان في أول نشأته يرتكز على العناصر المعمارية والزخرفية التي تتفق وروحانيته، فخرجت منجزاته تكاد تشبه بعضها بعضًا في سائر البلاد الإسلامية، مع شيء من التباين اليسير الذي تحمله كل بيئة، وتختص به مواهب أهلها الموروثة إنشاء وعمارة وزخرفة وخبرة وتقاليد.
وعلى الرغم من تأثر هذا الفن بفنون البلاد التي فتحها المسلمون وخاصة الساساني منها والبيزنطي، فإنه قد استبعد منها الجوانب الأســـطورية وفنون المحاكاة الشكلية أو الخاصة، ثم عالج فنونها التجريدية بما يتفق مع تعاليم الدين الإسلامي وروحه وفلسفته، وطبيعة الرقعة العربية. وبهذا تميز الفن الإسلامي بقسماته عن الفنون التي تأثر بها وعن باقي الفنون الدينية.
إن المسلمين في عصور انتشارهم، استنبطوا نظامًا معماريًّا متكاملاً؛ من التشكيلات والتراكيب المعمارية والزخرفية التي تكون في مجموعها الطراز الإسلامي الموحد في روحه وطابعه. فجاءت تلك العمارة الإسلامية تعبيرًا جماليًّا لدى الإنسان من رؤية فريدة ومتميزة تجاه الواقع والمساحة والزمن والتاريخ، بل والأمة نفسها، وأيضًا نحو ارتباطه العضوي بكل هذه العوامل.
مستشرقون منصفون
من هنا لا نعدم أن نجد مستشرقًا منصفًا مثل “جاستون فييت” يقول: “إذا كان معيار الأصالة في أي طراز من طرز المعمار هو أسلوب الفراغ، فإن تصميم الجامع هو النموذج الذي يعبر بوضوح عن جوهر عقيدة الإسلام، بصفته دينًا أصيلاً له شخصيته المتميزة”.
وكذلك نجد المستشرق “بوركهارت” الذي يحدثنا عن الرمزية في العمارة الإسلامية في مؤلفه عن “الفن الإسلامي”، حيث يجعل من الكعبة الأصل الذي انبنت عليه كل تقاليد العمارة في الإسلام. فالكعبة من حيث الشكل والصفات هي النموذج الأول للفن الإسلامي، إذ تعبر عن خميرة هذا الفن على مستويات الرمز الداخلي والشعائري والوثيقة الصلة بالشكل. فهي حلقة الاتصال بالنسبة للديانات السماوية الأخرى، التي تنبثق منها كما تنبثق الفروع من أصل الشجرة.
وعن طريق الكعبة -بصفتها النقطة التي يتجه إليها المؤمنون في الصلاة، والمركز الذي يرمز إلى اتحاد الإرادة الإنسانية والكونية، والقلب الذي يعبر عن الوعي بالوحدانية الربانية- يربط المؤلف بأستاذية فذة بين كل مساجد الإسلام والكعبة، ويجعل العمارة الإسلامية في كل أنحاء العالم وكأنها بناء واحد، وإن لم يكن إدراك وحدته الكلية على مستوى المنظور فإنها تكون ممكنة على المستوى الروحي، أي من منظور التأمل العقلاني الصحيح.
فالجامع ليس فيه مركز مقدس كالكنيسة والمعبد، وذلك أن المحراب يقتصر دوره على تحديد اتجاه القبلة، والساحة في المسجد تحيط بالحرم المكي. وهكذا تحولت بعض كنائس الشام إلى مساجد، جعل امتدادها الطولي عرضًا في اتجاه القبلة، وبذلك أصبحت أعمدة الأروقة تعطي شعورًا بالراحة، وهو ما يتفق مع فكرة السكون وليس الحركة. وهي حالة التوازن التي تعبر عنها العمارة الإسلامية في كل أشكالها، بسبب اتجاهها نحو المركز الأرضي، وهذا ما يظهر في جامع دمشق بشكل جلي.(3)
وجدير بالذكر أن مطالع القرن التاسع عشر الميلادي، قد شهدت يقظة الأوساط الأوربية إلى أهمية الآثار الفنية الإسلامية، ولا سيما الآثار المعمارية. وكانت إسبانيا أول البلاد التي أثارت هذه اليقظة، فأدى ذلك إلى إنتاج مؤلفات ضخمة في مجلدات كثيرة.
وأول رائد في هذا الميدان “جيمس كافانا ميرفي” بكتابه الذي عنونه بـ”الآثار الإسلامية في إسبانيا”، وهو كتاب يتميز حماسة لكل شيء إسلامي، لا بتصويراته الجميلة للمباني الإسلامية وزخارفها وكتاباتها فحسب، بل بـعـنايـتـه بصـفـحـة العـنـوان، حـــيث سـجـل المـؤلــف الســنة الهجرية (1228هـ) إلى جانب السنة الميلادية (1813م) التي تم فيها طبع الكتاب، ثم أتى من بعده كثير من الإسبان، مثل “دولابورد” و”جيرو دابرانجي” و”جول جوري” و”أوين جونس” وغيرهم… وحوالي ذلك الوقت، كانت فئة أخرى من المؤلفين الذين امتدت بحوثهم إلى الآثار الإسلامية بجزيرة صقلية، وذلك عن طريق بحوثهم في الآثار الصقلية عامة.
ويرجع المستشرق “إتنجهاوزن”؛(4) السببُ الذي أثار هذا الاهتمام الجديد بالآثار الإسلامية إلى الحركة الرومانتيكية (أي الابتداعية) بما أثارته من الاهتمام بمعرفة المدنيات السابقة البعيدة عن زمنها ومحيطها.
يقظة أوروبا إلى فنون الشرق
ثمة دافع آخر ليقظة الأوساط العلمية الأوربية إلى دراسة الشرق وفنونه وآثاره، وهو دافع التوسع الاستعماري والسياسة العسكرية في العصور الحديثة. تجلى هذا واضحًا في إحضار نابليون -في حملته على مصر- جماعة من العلماء، لبحث شؤون البلاد المصرية بحثًا شاملاً. إذ أعد أولئك العلماء رسومات تخطيطية للمدن والمباني والعمائر الأثرية، ورسموا مناظر معمارية للشوارع والحارات والمساجد والنقوش والنقود، ولم ينسوا أن يعملوا صورًا توضيحية لأنواع الصناعات القائمة بمصر وقتئذاك.
ونتج عن هذه الأبحاث كتاب وصف مصر في تسع مجلدات، وعشر أخرى للرسوم والصور التوضيحية، وأطلس للخرائط الجغرافية، وهذا الكتاب في مجموعه هو القاعدة الحقيقية والمنبع الحقيقي لمعرفة الآثار الإسلامية.
وفي أواسط القرن التاسع عشر الميلادي، ظهرت دراسات تفصيلية في العمائر والمخلفات الإسلامية التي كشفت عنها جهود القوامين على الآثار الإسلامية، وهي دراسات قام على معظمها مهندسون ومعماريون ورسامون، مثل جهود “باسكال كوست” في كتابه “الهندسة المعمارية الإسلامية”، وأعقب كوست كتابه هذا، بسلسلة من الدراسات في الهندسة المعمارية الإيرانية، بالاشتراك مع المصور “فلاندان”.
ثم امتدت هذه الجهود إلى الآثار الإسلامية في مصر في مؤلفات “بورجوان” (1873-1892)، وكذلك “يريس دافن” (1877)، وهي مؤلفات لا تقتصر على العمارة فحسب، بل تشمل مختلف الفنون الصغرى، فضلاً عن دراسة تفصيلية دقيقة للأشكال الهندسية في الزخرفة المعمارية. ولا تزال الدراسات قائمة تحاول التعمق في فهم آثار العمائر الإسلامية وفلسفة بنائها، سواء من قبل المستشرقين أو من قبل علماء وفناني العالم الإسلامي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
(1) ما بعد الحداثة والتراث في العمارة العربية الإسلامية عالم الفكر، للدكتور عفيف البهنسي، ج:27، العدد:2، أكتوبر 1998.
(2) انظر إلى الكتاب الذي صدر في لندن بعنوان “Hassan Fathy”، كتبه Richards, J. M., Ismail Serageldin, Darl Rastorfer.
(3) الفن الإسلامي، لبوركهارت.
(4) الفنون والآثار الإسلامية، لـ”إتنجهاوزن”، ترجمة محمد مصطفى زيادة، ص:74-75، الأنجلو المصرية، عام 1953م.