بين رجال الفكر الديني المعاصر، يبقى “النورسي” من أكثرهم شدًّا للانتباه بفكره الاستيعابي والاستقصائي للكينونة البشرية بأبعادها المختلفة، واستشرافاتها على العوالم الورائية و”الماورائية” على حد سواء. فقد بلغ نزوعه الاستيعابي من العمق والسعة، إلى الحد الذي لم يعد يجد معه في التناقضات والأضداد في الفكر والحياة، معضلة تواجه الفكر الإيماني لدى المؤمنين. فما من سلب -كما يرى- إلا وينطوي على شيء من الإيجاب. فإذا ما تعودنا النظر بعمق في الأشياء، فسنرى الانتظام حتى في غير المنتظم -كما يقول- وبعض الخير في تلافيف كل شر، وبعض الحق في ثنايا كل باطل، وإشارات قوة في جوانب كل ضعف وضعيف، وبصيص نور في أطباق الظلام، وحتى تلك المذاهب الدينية المشتطة في ابتعادها عن سواء الدين، لا تخلو هي الأخرى من جزء أو أجزاء من الحق، وبهذا الجزء أو الأجزاء يشيع المذهب ويلقى القبول لدى بعض الناس.
وإنه كثيرًا ما يلفت انتباهنا إلى المعجز الخارق في إعجازيته في البديهي الغارق في بداهته، وإلى غير العادي في العادي نفسه، وغير المألوف في عين المألوف… ففكره نزّاع إلى التجرد من خارجية الأشياء، وإلى انتزاع قشرة البداهة عن البداهات، واستكناه الكينونة البشرية مجردة من الفضوليات العالقة بها والدخول إليها من أبوابها المشرعة الفكرية والوجدانية والحدسية، وحتى الخيالية وكل لطائفها الأخرى. ففكره استيعابي استقصائي، يستوعب النفس البشرية ويستقصي كل جوانبها مشيّدًا صروحه التخاطبية معها في رسائله على أسس من مصداقية المعرفة بحاجات جوانب هذه النفس، وإعطاء كل ذي حاجة منها حاجته التي يريد.
فرسائل النور هي نتاج هذه المعرفة بالكينونة البشرية، حيث جعلت من أعظم أهدافها تحرير هذه الكينونة من الأثقال التي تشدّها إلى الأرض، وتحصينها من جواذب الشتات في شعاب العالم واستنهاض جميع قواها ولطائفها، ثم تكريسها لخدمة الهدف الأكبر الذي خلق الإنسان من أجله وهو العبودية الخالصة لله تعالى. فإذا ما مات صاحب هذه الكينونة ماتت كينونته كلها معه ولم يبق منها شيء خارجًا عنها متعلقًا بسبب من أسباب الدنيا كما ورد في الأثر: فقد أثنى جملة من الصحابة رضي الله عنهم -في حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم- على رجل من الصحابة كان قد مات، فقال عليه الصلاة والسلام: “رحم الله فلانًا فقد مات كله”، فقال الصحابة: يا رسول الله أليس أحدنا إذا مات يموت كله؟! قال عليه الصلاة والسلام: “ليس كلكم إذا مات يموت كله”. أي -والله أعلم- أنه ليس كل أحد يموت بكينونته كلها دون أن يتبقى منها شيء خارج هذه الكينونة في مكان ما من الدنيا. ومصداق ذلك قوله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾(الأنعام:162).
فنسيان الطبيعة الروحية للكينونة البشرية عند بعض المفكرين إنما هو عسر عقلي يحول بينهم وبين التفكير الصحيح، فينتابهم عندئذ شعور بحراجة الحياة الإنسانية وامتلائها بالمخاطر، التي قد تودي ببعضهم إلى الانتحار العقلي قبل أن يسعفهم الحظ ليروا ما يجري في أعماق هذه الكينونة من صراعات مأساوية بين القيومية الروحية وغيرها من القيوميات.
فالكينونة البشرية إذا ما تضامَّت على نفسها، وجمَّعت أجزاءها ووازنت بين متطلبات كل جزء منها، صارت وحدة واحدة، وغدت جزءًا مماثلاً للتوازن الكامن في الوجود، ووجدت مكانها في الإيقاع السرمدي بين الطاقة المنطلقة من روح العالم، والطاقة المنطلقة من روح الإنسان، فتتحول عندئذ ذات الإنسان إلى عالَم من الإشعاع، يضيء كل جانب معتم من الفكر والحياة.
ففي مقدمة كتاب “المثنوي العربي النوري” يلمح “النورسي” إلى أسس فهمه لعالَم الإنسان الداخلي، من حيث كونه مزيجًا من العقل المفكر والروح الباعث للحياة في موات الأفكار. فما من إبداع إنساني إلا وهو نتاج توافقي بين العقل والروح، فالروح هي محاريب العقول تتطهر فيها وتتصفّى، ثم تتسامى إلى جوهر الأشياء وحقائق المعاني ولباب الأفكار. وبهذا الفهم استطاع أن يحيط بالأبعاد الإيمانية التي أشار إليها القرآن وسعى لتربية العقول والأفهام بمضامينها.
لقد رأى “النورسي” أن من واجبه الديني أن يعرِّف الإنسان بنفسه كما هي، وألا يحجب عنه هذه المعرفة ليكون مؤهلاً لقبول حياة “ما فوق الحواس” التي يراد للمؤمن أن يتأهل لقبولها. وقد سعى جهده لنقله من الحالة الذهنية النمطية إلى ذهنية منبثقة من رؤى روحية عميقة الإدراك واسعة الآفاق، ليجرب أشكالاً جديدة من الوجود لم يسبق أن تعرَّف عليها من قبل.
ولا نكون مغالين إذا قلنا: إن “النورسي” أوشك أن يصل إلى نهاية الإصلاح في الحياة العقلية والروحية للإنسان المسلم، وذلك بإنقاذه من الانكسارات النفسية التي خلفها فيه تضاعف شعوره بالانهزام الحضاري أمام تحديات العصر الحافل بكم هائل من الإنجازات في شتى العلوم والفنون، حتى خشي أن يكون العالم اليوم غير قادر على استيعاب متطلبات المسلم الروحية، واستساغة أشواقه “الماورائية”، لكونه محاصرًا من قبل حشود هائلة من ماديات الأرض… فهو اليوم عائم في بحران من الرعب الكابوسي الذي يضيق عليه الخناق، ويشده أكثر فأكثر نحو المركز الميداني التعبوي لجنود الأرض، الذين لا يزالون يدقون الأسافين بين الإنسان وربه… فبات يحيا دون انتماء جادّ إلى عالمه الذي يعيشه، أو العالم الآخر الذي يُدْفَعُ إليه دون رغبة منه. فالأعمال التي ينجزها، ينجزها كما تنجز الآلة الخرساء الصماء أعمالها بحِرفية مهنية من وراء ذهن متعب كليل وقلب هزيل فاتر، حتى لنكاد نقطع بغياب الروح الخلاَّق فيما يأتيه من أفعال، ولو لم يكن شيء ما يعمل عمل الروح في استنهاض قواه الفكرية، لعقم ولم يأتِ بشيء جديد على هذه الأرض.
إن إطلاق الكينونة البشرية من قيود مراسيم النمطيات الفكرية والنفسيه المدونة في دفاتر العالم، باعتبارها الهوية التي يُرْجَعُ إليها عندما يراد تعريف الإنسان وكتابة الوصفة الدوائية لأمراضه المستعصية أقول: إن إنقاذ هذه الكينونة من النظرة الضيقة التي يُنظَر إلى الإنسان من خلالها، عمل من أجل أعمال الدراسات الفكرية الاستيعابية والاستقصائية لرسائل النور. فقد أنذرت هذه الرسائل ونبّهت إلى ضرورة إجراء تغييرات مهمة وجريئة في المفاهيم والمقررات المتعلقة بالخارطة الوجدانية والفكرية للإنسان، وذلك بإعادة التوازن الحميمي بين عوالم الإنسان في مختلف لطائفه ونزوعاته في الداخل والخارج، وإعادة الاهتمام بالكل الإنساني الكلي وعدم الاقتصار على الجزء الجزئي منها كما يعبّر النورسي. فرسائل النور إنما هي قوة من قوى الفكر الواعي، وقوة من قوى الإدراك الروحي العالي، وهي نجوم تتألق في سماء ملكوت عقل الإنسان وروحه، مثيرة بذلك الشوق والتوق إلى جمالية الحقائق، وشاعرية الوجود، وشفافية الأشياء، وروحانية المكان والزمان، وعلو الإنسان واستشرافاته على جلال الأزل والأبد.
وأكثر إيجازًا وتلخيصًا فهي -أي رسائل النور- طريق معبدة لمن يسعى إلى مسايرة الفكر في تفجراته الذهنية، ومسايرة “الروح” في وثباته اللانهائية، وهي مرجع واسع وخصب للنفس الإنسانية عندما ينتابها شعور بالضياع والانكسار أمام أعاصير الزمن، وطغيان الأحاسيس وضمور المشاعر، كما أنها تشعرك بقداسة الصنعة الإلهية في العوالم والأكوان، وتؤكد على أن الإنسان مخلوق للبقاء لا للزوال والفناء، وأن الذات الفردية وإن كانت صغيرة في رحاب الوجود، غير أنها تحتوي على عوالم أوسع وأرحب من عوالم الأرض والسماء تحيط بمشيئاتنا وأفكارنا، وتقودنا إلى مصائرنا إن خيرًا فخير، وإنْ شرًا فشر.
إن “الكينونة البشرية” بكافة أبعادها المشحونة بالفكر الروحاني الذي اعتمده “النورسي” في تأليفه لرسائل النور، هذا الفكر مرشح اليوم أكثر من أي فكر آخر لتأصيل “عقيدة الإيمان” والمحافظة على ركائزه في بنية النفس والضمير، وإمداد الذهن بالثقافة الإيمانية التي هي نتاج تجربة ومشاهدة بلغت درجة اليقين الذي لا يقين بعده كما يقول. فهو -أي النورسي- لا يخدعنا، لأنه لم يكتب إلا ما شاهد وجرّب… فقد قرأ كتاب الكون والحياة بألسنة الأرض، ولمس السماء، وغاص في فجاج الفكر ودخائل الضمير، فأتى بالذي أتى عفوًا، بلا روية ولا اصطناع.
لقد عاش روح العصر، وأدرك أنه عصر يصدف عن علوم النظر وتأملات العزلة، بل هو عصر يقبل بشدة على علم المزاولة والبناء، إنه جمع كل ما أمدته به الحكمة في قلمه ثم نثرها في رسائله، فأشعل النفس، وحمَّس الروح، وأثار العاطفة، ووسّع آفاق الخيال، ورسخ معالم العقل القدير، وأمانة الفكر والتفكير.