إن كل خطاب لا يحدد مصطلحاته بدقة، رهين بأن يصاب بالتشويش وعدم الدقة في الإبلاغ. وما يقع أحيانًا من اضطراب في التواصل، مردّه في معظم الأحيان إلى عدم الرؤية الموحدة للدلالة المصطلحية. ومن هنا صار لزامًا على كل خطاب يهدف إلى الوضوح في الإبلاغ وتحقيق الغاية، أن تتسم مصطلحاته بتحديدات دقيقة مصونة عن المجاز كما يقول المناطقة.
وأول ما يواجهنا -في مقالنا هذا- من مصطلحات، مصطلح الحضارة. تجعل المعاجم العربية الحضارة مقابل البداوة. فجاء في لسان العرب: الحضر: خلاف البدو، والحاضر: خلاف البادي. وفي الحديث: لا يبيع حاضر لبادٍ، الحاضر: المقيم في المدن والقرى، والبادي المقيم بالبادية. والحِضارة بكسر الحاء: الإقامة في الحضر، عن “أبي زيد”. وكان “الأصمعي” يقول: الحضارة بالفتح. قال “القطامي”: فمن تكن الحضارة أعجبته فأي رجال بادية ترانا.
ولكن اللفظ لم يبق محصورًا في دلالته اللغوية الأولى، بل أصاب من التطور ما جعله ينتقل من الدلالة اللغوية إلى الدلالة الاصطلاحية الواسعة. وقد كان “ابن خلدون”، من الذين نقلوا الكلمة من مجال إلى مجال حين جعل الحضارة “غاية للبداوة”. وعرف الحضارة في “المقدمة” بأنها: “التفنن في الترف، واستجادة أحواله، والكلف بالصنائع التي تؤنق من أصنافه وسائر فنونه”.
وفي خضم التطور الذي شهدته كلمة الحضارة، صارت من أشد المصطلحات تعقيدًا، نظرًا لتباين التعاريف التي قدمها العلماء لهذه الكلمة، سواء أعند العرب والمسلمين أم عند الغربيين. بل إننا نجد تداولاً في الغرب لكلمتين تتقاطع دلالاتهما أحيانًا، وهاتان الكلمتان هما “Civilisation” “Culture”، في حين تشيع عند العرب كلمات ثلاث هي “الحضارة” و”المدنية” و”الثقافة”. وقد كان لعلماء الأنتروبولوجيا المعاصرين دور في تداول هذه الكلمة الأخيرة وإعطائها دلالة شمولية.
نظرة الغرب إلى الحضارة
وإذا كان مفهوم الحضارة مقياسًا لمستوى الإدراك وعنوانًا على معطيات الأمم والشعوب، فإننا نجد جملة من التعاريف منها:
1- أولى التعاريف تجعل الحضارة مرادفة لمصطلح المدنية؛ فالحضارة مدنية، والمدنية حضارة. ومن هنا، فإن أولئك المتخلفين عن أنماط الحياة المدنية من بدوٍ أو قبائل من الأدغال، غير متحضرين وإن يكن عندهم مستوى من فكر أو سلوك.
وأصحاب هذا الرأي ينظرون إلى الاشتقاق اللغوي لكلمة “Civilisation”؛ فهذه الكلمة مشتقة من الكلمة اللاتينية “Civilis”، أي المدني أو المواطن في المدينة، ثم استعملت مجازًا لتدل على عملية اكتساب الصفات المحمودة، لتتطور بعد ذلك وتصبح معبرة عن حالة الرقي والتقدم لدى الأفراد والجماعات. والمدنية أو الحضارة بهذا المعنى، هي الخروج من الحالة البدائية إلى حالة التمدن.
2- ويروي “ول ديورانت” صاحب “قصة الحضارة”، أن الحضارة نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة في إنتاجه الثقافي، وهي تبدأ حيث ينتهي الاضطراب والقلق، لأنه إذا ما أمن الإنسان من الخوف، تحررت في نفسه دوافع التطلع وعوامل الإبداع والإنشاء، وبعدئذ لا تنفك الحوافز الطبيعية تستنهضه للمضي في طريقه إلى فهم الحياة وازدهارها.
من هنا يرفض “ديورانت” التفسير الذي يخرج البدو وقبائل الأدغال من دائرة الحضارة، ويرى أن “الهمجي” هو أيضًا متمدن بمعنى عام من معاني المدنية، لأنه يعني بنقل تراث القبيلة إلى أبنائه، وما تراث القبيلة إلا مجموعة الأنظمة والعادات الاقتصادية والسياسية والعقلية والخلقية التي هذبتها أثناء جهادها، في سبيل الاحتفاظ بحياتها على هذه الأرض.
3- وذهب فريق من العقلانيين إلى أن الحضارة مرادفة للعقل نفسه، إذ هي في أحسن الأحوال ثمرات العقل، في حين قال آخرون: إن الحضارة هي الاقتصاد.
وتعريف الحضارة عند “وليم هاولز”، هي كل ما يساعد الإنسان على تحقيق إنسانيته.
4- وربط “أرنولد توينبي” الحضارة بالكنيسة الكاثوليكية، مدعيًا أن الحضارة الغربية هي وحدها التي تحافظ على “الشرارة الإلهية الخلاقة”، وهي وحدها القادرة على أن تؤول إلى ما آلت إليه سابقاتها. وقد حدد معالم الحضارة بقوله: “إنها حصيلة عمل الإنسان في الحقل الاجتماعي والثقافي، وهي حركة صاعدة، وليست وقائع ثابتة وجامدة، إنها رحلة حياتية مستمرة لا تقف عند مينائها.
ويخالف “رجاء كارودي” ما ذهب إليه “توينبي” عن خلود الحضارة الغربية المسيحية في كتابه “حوار الحضارات”، ويؤكد أطروحته تلك ويزيدها بيانًا في كتابه “وعود الإسلام”. فهو يبدأ بهذه المصادرة = الغرب عرض طارئ.
ويتحدث عن الحضارة الغربية قائلاً: “وأنا أطلق عبارة “الشر الأبيض” على هذا الجانب من الدور المشؤوم الذي نهض به الإنسان الأبيض في التاريخ.
وإذا تجردنا عن الحكم العرقي المسبق القائل بتميز الإنسان الأبيض، وجدنا أن منابع الغرب (الإغريقية والرومانية والمسيحية) إنما ولدت في آسيا وإفريقية. وأن عصر النهضة -وهو ليس حركة ثقافية وحسب، بل ولادة مواكبة أنجبت الرأسمالية والاستعمار- قد هدم حضارات أسمى من حضارات الغرب، باعتبار علاقات الإنسان فيها بالطبيعة وبالمجتمع وبالإلهي، بدل أن يكون ذروة الإنسانية”.
ولهذا يدعو “كارودي” إلى “حوار الحضارات”؛ إذ بهذا الحوار وحده، يمكن أن يولد مشروع كوني يتسق مع اختراع المستقبل، وذلك ابتغاء أن يخترع الجميع مستقبل الجميع.
وقبل “كارودي” قام الألماني “أوزوالد شبنكلز”، بالتبشير بانهيار الحضارة الغربية في كتابة “انهيار الغرب”، الذي أصدره عقب الحرب العالمية الأولى. وأما “ألكسيس كاريل”، فيتحدث عن الحضارة الغربية المعاصرة في كتابه “الإنسان ذلك المجهول” قائلاً: “إن الحضارة العصرية تجد نفسها في موقف صعب، لأنها لا تلائمنا، فقد أنشئت دون أي معرفة بطبيعتنا الحقيقية، إذ إنها تولدت في خيالات الاكتشافات العلمية، وشهوات الناس وأوهامهم ونظرياتهم ورغباتهم، وعلى الرغم من أنها أنشئت بمجهوداتنا، إلا أنها غير صالحة بالنسبة لحجمنا وشكلنا”.
نظرة المسلمين المعاصرين إلى الحضارة
وقد اجتهد المسلمون المعاصرون في الاهتمام بالحضارة وتقديم تعريف لها ومعالجة قضاياها. ومن هؤلاء “مالك بن نبي” الذي عني بالقضايا الحضارية ومشكلاتها، وأصدر في هذا المجال سلسلة “مشكلات الحضارة”. والحضارة عند “مالك بن نبي” تظل مرتبطة بالوحي، يقول في “شروط النهضة: “فالحضارة لا تظهر في أمة من الأمم إلا في صورة الوحي يهبط من السماء، ويكون للناس شرعة ومنهاجًا… فكأنما قدر للإنسان ألا تشرق عليه شمس الحضارة، إلا حيث يمتد نظره إلى ما وراء حياته الأرضية”.
وقد سلك “سيد قطب” هذا المنحى، منتهيًا إلى أن الإسلام هو الحضارة. إذ مفهوم الحضارة عنده مرتبط بالتحرر الكامل لقوى الإنسان وطاقته، وذلك أمر لا يتحقق إلا بالإسلام. يقول “سيد قطب”: “حين تكون الحاكمية العليا في مجتمع لله وحده، متمثلة في سيادة الشريعة الإلهية، تكون هذه هي الصورة الوحيدة التي يتحرر فيها البشر تحررًا كاملاً وحقيقيًّا من العبودية للبشر، وتكون هذه هي “الحضارة الإنسانية”. لأن حضارة الإنسان تقتضي قاعدة أساسية من التحرر الحقيقي الكامل للإنسان ومن الكرامة لكل فرد في المجتمع، ولا حرية في الحقيقة ولا كرامة للإنسان -ممثلاً في كل فرد من أفراده- في مجتمع بعضه أرباب يشرعون، وبعضه عبيد يطيعون”. ثم يقول: “حين تكون إنسانية الإنسان هي القيمة العليا في مجتمع، وتكون الخصائص الإنسانية فيه هي موضع التكريم والاعتبار، يكون هذا المجتمع متحضرًا”.
ومن خلال هذه المفاهيم والتصورات عن الحضارة، تتضح المعطيات الأساسية الكامنة وراء هذه التعاريف. فكل يسعى لإيجاد الرابط الوثيق بين تصوره عن الكون والحياة والإنسان، وبين ما يسمى “الحقيقة الحضارية”، ليصل إلى نتيجة مؤداها تأكيد حضارية، فكره وممارسته مغلبًا عليهما الطابع الذي يريد.
غير أن الحضارة اصطلاحًا، ينبغي كما يقول “محمد علي ضناوي”: “إن تحدد بمعزل عن الأطر الفكرية طالما ارتضينا أن تكون الحضارة مصطلحًا، ومن هنا ينبغي التفرقة بين الحضارة والمبادئ. إن الحضارة ليست المبادئ والمفاهيم، ولكنها حصيلة تطبيق تلك المبادئ والمفاهيم. إن المبادئ والمفاهيم إذا لم تمارس تغدو تراثًا وكلامًا مسطورًا، ولا يصح تسميتها “حضارة” حتى تترجم إلى أي واقع يحياه الناس ويسود المجتمع”.
ومن هنا في كتابه “مقدمات في فهم الحضارة الإسلامية” قدم “محمد علي ضناوي” للحضارة التعريف التالي: “الحضارة هي تفاعل الأنشطة الإنسانية لجماعة ما، في مكان معين، وفي زمن معين أيضًا، ضمن مفاهيم خاصة عن الكون والحياة والإنسان”.
الإنسان والزمان والمكان، والعلاقات الموحدة بين هذه العناصر الثلاثة هي إذن مكونات الحضارة. وقد كان هذا هو المنهج الذي اتبعه “أبو الأعلى المودودي” حين عرّف الحضارة مطلقًا بأنها: “إنما هي نظام متكامل يشمل كل ما للإنسان من أعمال وآراء وأعمال وأخلاق في حياته الفردية أو العائلية أو الاجتماعية أو الاقتصادرية الساسية”.
وعرّف الحضارة الإسلامية تحديدًا بأنه: “مجموعة المناهج والقوانين التي قررها الله سبحانه وتعالى لكل هذه الشؤون والشعَب المختلفة لحياة الإنسان”، وهي المعبر عنها بكلمة “دين الإسلام أو الحضارة الإسلامية””.