مستويات الحوار الحضاري مع الآخر

الحوار مبدأ راق لا يكاد يرفضه عقل سليم، وهو خطوة أولى نحو التعرف على الذات وإزالة سوء الفهم داخل الدائرة الواحدة (الذين يشتركون في ثقافة وحضارة واحدة)، وهو المدخل “الإنساني” للاقتراب من الدوائر الخارجية (خارج الحضارة الواحدة)… وحتى يكون الحوار مثمرًا ومؤثرًا ومقنعًا،

لا يتم -عادة- في ظروف غير طبيعية. وكأي نشاط إنساني إذا حدث بين متكافئين يقدّر كل منهم الآخر، تكون له ثمراته وفوائده. وبالعكس إذا تم في ظروف “طارئة” وبين غالب ومغلوب، فإن نتائجه -في الغالب- لا تكتسب صفة الاستمرار حتى وإن خففت بعض مواطن الاحتقان والألم أو ساعدت على تجاوز ما يهدد أحد الأطراف. والحوار له مستويات مختلفة باختلاف قضاياه وموقع المتحاورين.

حوار التعايش

فهناك حوار التعايش بين الناس حول موضوع التعايش بين أفراد الأمة الواحدة أو بين أفرادها وبين أفراد الحضارات الأخرى. وهذا المستوى من الحوارات، هدفه إزالة الحواجز التي تعيق التواصل، وتولد الجفوة والكراهية بين الأفراد العاديين، ومسرحه وموضوعه، المشاعر الإنسانية والحياة اليومية. وهو لا يتطلب مستوى عاليًا من الثقافة ومعرفة الآخر بقدر ما يحتاج إلى استحضار الأخوة الإنسانية، وفوائد روح التعاون، وثمرات حسن المعاشرة، والذوق الذي لا يحقر الآخرين أو يسخر من ثقافتهم أو يقوم بما يجرح مشاعرهم. وهذا المستوى من الحوار فطري يتجلى في حياة الناس اليومية وعلاقاتهم الإنسانية، إذ يدخل في إطاره الشاب المزارع، والصانع، والعامل البسيط… وهؤلاء الشباب ينبغي أن لا يستثنوا من فهم أدبيات حوار التعايش كما فهمها جيل سلفنا الصالح وطبقوها بالتعايش والتراحم مع أهل الذمة كما عايشهم رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه، وأصّل له بمعاهدة وفد نجران وصحيفة المدينة المنورة. وأكمل عمر بن الخطاب رضي الله عنه منهج المدرسة النبوية بتتويج تاريخنا الإسلامي بالعهدة العمرية، ببنودها الإنسانية الراقية في مراعاة حقوق وواجبات أهل الكتاب.

الحوار المعرفي

وهو حوار بين أصحاب الفكر والعلماء. وهذا المستوى يتطلب منا اليوم، وأكثر من أي وقت مضى مع ثورة العولمة والانفتاح العالمي، أن نؤهل كوادر من شبابنا للمشاركة فيه، وتمكينهم من مفاتيح الدخول إلى المعرفة العميقة بفكر وحضارة الآخر، والقدرة على فحص مقوماتها والتعرف على أسسها ومبادئ منظومتها الفكرية والفلسفية والدينية والسياسية والاقتصادية. وهذا الشباب المرشح لتأهيله للحوار، ينبغي أن تتوفر فيه شروط أولى وأهم، وهي أن يكون متمكنًا حقًّا من فهم مكونات وأسس حضارته، ولديه القدرة على استخلاص قيمها الأصيلة التي لا تتأثر بالراهن الظرفي من الأحداث. ولأن هذا الحوار -بطبيعته- هو حوار بين شباب مختص يضم مجموعات متعددة من الاختصاصات؛ فيها شباب مختص في علم العقائد والشرائع والأديان، وأطر متخصصة في التاريخ والفقه وأنظمة الحكم، وباحثون في علم الاجتماع والسياسة والاقتصاد والعمران.

فموائد الحوار مع الآخر تقتضي -حتى نخرج من نفق التعميم- توزيع الاختصاصات، وتخصيص الندوات والمؤتمرات، وحلقات النقاش لكل محور على حدة، حتى يصبح الشباب فعلاً قادرًا على ضبط الحوار في إطاره وموقعه. وبذلك يستطيع أهل الاختصاص ممن أهلناهم للمنافسة الحضارية العالمية، أن يتحدثوا لغة مشتركة يفهمها جيدًا شباب الثقافات والحضارات المراد الحوار معها.

الحوار الإنساني

من أولويات الحوار الحضاري، دفع الحوار في اتجاه معرفة “الإنسان”، فهذه المعرفة ضرورية للوقوف على مدى جدوى الحوار، إذ لو كان الإنسان حلقة متطورة من السلاحف والديدان والقرود، وكانت الحياة قائمة على أساس تنازع البقاء وصراع المصالح المادية، لقامت العلاقة على أساس الحرب والقتال لا على الفكر واللسان… أما الحوار الإنساني، إنما يقوم بين البشر على خلفية الإيمان بالجانب المعنوي السامي في الإنسان وليس الجانب المادي فقط. فنزعة “الطين” وحدها لا تؤدي إلى تعايش سلمي، بل تدفع إلى صراع مصلحي محموم، والسلام والتعايش والتفاهم والحوار، مقولات تتحقق في ظل نفخة روح رب العالمين في هذا الموجود البشري بالتعبير القرآني: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾(الإسراء:70)، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾(الحجرات:13).

دور الشباب في البناء الحضاري

من أسباب تراجع مفاهيم الحوار الندي المتكافئ مع الآخر لدى شبابنا، عدم وجود تخطيط محكم بعيد المدى، حتى في حالة وجود أهداف وطموحات لهذا الحوار، فغالبًا ما تكون غير مدروسة ولا واقعية. وهكذا، نجد أن تدخلات شباب مجتمعاتنا، تتميز عمومًا بالفوضى والارتجالية وغياب التخطيط المحكم بتأهيل كوادر وأطر، وإهمال تقويم أهداف وطموحات الحوار الفعال مع الآخر.

فالحديث عن الحوار، يتطلب مواجهة التحديات والأخذ بأسباب النجاح والقوة، ومن ذلك فهم أسباب تراجعنا عن الدور الحضاري لأمتنا، وشروط بناء الشخصية السليمة عند الشباب، وتنمية المهارات الإبداعية لإيجاد الحلول المناسبة للمشاكل المطروحة، والتحلي بالجدية والإيجابية والصرامة لمواجهة الواقع، وحسن تخطيط المشاريع والإعداد للمستقبل، والتشبث بالقيم الإسلامية.

بناء الدور الحضاري المؤهل للحوار

إن بناء الدور الحضاري كما عبر عنه “مالك بن نبي”، يحتاج اليوم من الشباب حسن توظيف ثلاثية مشكلات النهضة وهي مشكلة الإنسان، مشكلة التراب، مشكلة الوقت.
1- الإنسان: إن المشروع الإصلاحي يبدأ بتغيير الإنسان، ثم بتعليمه الانخراط في الجماعة ثم بالتنظيم فالنقد البنّاء. وتبدأ عملية التطور من الإنسان، لأنه المخلوق الوحيد القادر على قيادة حركة البناء وتحقيق قفزات نوعية تمهيدًا لبناء الحضارة. أما المادة، فإنها تبقى تجميعًا كميًّا لا يعطي معنى كيفيًّا نوعيًّا إلا بسلامة استخدام الإنسان له، فلكي يتحقق التغير في محيطنا، يجب أن يتحقق أولاً في أنفسنا، وإلا فإن الشاب المسلم لن يستطيع الحوار مع نفسه وبناء داخله الحضاري الذي يمكنه من الحوار مع الآخر، وعندها يجب على شباب أمتنا أن يحقق بمفرده شروطًا ثلاثة:

أن يعرف نفسه… أن يعرف الآخرين وأن لا يتعالى عليهم وأن لا يتجاهلهم… ويجب عليه في الشرط الثالث أن يعرف الآخرين بنفسه ولكن بالصورة المحببة، بالصورة التي أجريت عليها كل عمليات التغيير بعد التنقية والتصفية من كل رواسب القابلية للانهزام والتخلف الحضاري… فالشباب هو الهدف، وهو نقطة البدء في التغيير والبناء.

إن الحوار هو أبسط صورة لتبادل الأفكار، وهو بذلك المرحلة التمهيدية البسيطة لكل عمل مشترك. فقواعد الحديث إذن لا تخص حسن الآداب فقط، بل هي جزء رئيسي من تقنية العمل. ونحن نجد هذه الصلة بصورة رمزية في مجتمعاتنا حين نرى تعطلاً في العمل والإنجاز بمجرد تعطل تبليغ الأفكار بالكلام.

فالمشكلة مشكلة أفكار في النهاية، لأننا بها ننظم حوارنا في إثبات ذواتنا، وبها ندفع طاقتنا في إرادة العطاء والإنجاز. وأهمية الأفكار التي نحاور بها في حياة مجتمع معين، تتجلى في صورتين؛ فهي إما أن تؤثر بوصفها عوامل نهوض بالحياة الاجتماعية، وإما أن تؤثر على عكس ذلك بوصفها عوامل ممرضة تجعل النمو الاجتماعي صعبًا أو مستحيلاً.

فالإنسان الذي لا يؤمن بالتفاعل والحوار ينتهي من الوجهة النفسية إلى التشاؤم، كما ينتهي من الوجهة الاجتماعية إلى تكديس المشكلات.

ومشكلة شبابنا اليوم تتخلص في جوهرها في عدم توجيه الأفكار، ولذلك كان علينا أن نحدد المعنى العام لفكرة التوجيه؛ فالتوجيه هو تجنب الإسراف في الجهد وفي الوقت. فهناك ملايين العقول الشابة المفكرة في البلاد الإسلامية، صالحة لأن ترشد وتوجه للبناء الحضاري حتى لا يذهب جزء كبير منها في العبث واللافاعلية.

إن الشباب المكلف بالتأهيل في عملية الحوار الحضاري لا يمكن تخليصه من عقدة الدونية والمؤامرة باتجاه الآخر، إلا إذا هيأنا له شعورًا متعاليًا بالشخصية الدينية والمعرفية والحضارية من خلال محيطه الداخلي. فالمحيط الثقافي الداخلي الذي يكبر الشاب في ثناياه، هو المكون الأساسي لإطاره وعقله الجمعي الثقافي.

2- التراب: وهو العنصر الثاني الذي يشكل الحضارة مع الإنسان والوقت في فكر مالك بن نبي. وحيث يتكلم عن التراب لا يبحث في خصائصه وطبيعته، ولكن يتكلم عن التراب من حيث القيمة الاجتماعية، وهي قيمة مستمدة من قوة وتمكين مالكيه. فحينما تكون قيمة الوطن مرتفعة، يكون ثمن التراب غاليًا لدى أبنائه، وهنا يكمن دور الشباب في رفع المزيد من قيمة أوطانهم كما ثمنوها الأجداد والآباء بأرواحهم ودمائهم، حفاظًا على سلامة أمننا وكرامة حريتنا التي نزخر بها اليوم بعيدًا عن ربقة المستعمر.

3- الوقت: وهو العنصر الثالث في تكوين الحضارة. إن حظ الشباب العربي والإسلامي من الساعات، كحظ أي شعب متحضر، ولكن هل نقدّر قيمة الوقت؟ هل ينتهي الوقت عندنا إلى إنجاز أم إلى عدم؟ هل أحسنا ترشيد شبابنا في عملية توظيف العلاقة التكاملية بين حسن استغلالهم للوقت في خدمة ترابهم لبناء حضارة مجتمعاتهم العربية والإسلامية؟

لقد أمعن مالك بن نبي، هذا المفكر الذي أصّل لشروط النهضة والحوار الحضاري، بتفكيك وتحليل مشكلات البناء الحضاري، متجاوزًا -بوضعها تحت مجهر مختبر المقاربة الحضارية- الظواهر السطحية إلى الجذور المتغلغلة في الأعماق، وباحثًا عن السنن والقوانين الكفيلة بتحويل شباب أمتنا من حالة العجز إلى القدرة والفعالية، ومن حالة مرحلية الانبهار والتقليد والاقتباس المتبع بالاستتباع المطلق إلى حالة البناء والإنجاز، ومن المطالبة بالحقوق إلى القيام بالواجب أولاً، لأن مفاتيح حل المشكلات بالحوار نجدها في الذات لا عند الآخر. واستكمال تفعيل الشخصية المسلمة باتجاه الواقع، يتطلب الاعتراف بتعدد التشكيلات داخل عالمنا الإسلامى (مذهبية، فكرية، سياسية، جغرافية، عرقية، تاريخية… إلخ) من حيث وجوب إفضائها إلى دلالة مقصدية واحدة، تنتج بدورها كما من الممارسات الغنية بتنويعاتها. كما يتطلب غوصًا في معارف الآخر الغربي، علومه وفنونه وآدابه وفلسفاته، وفرزها وغربلتها وإثراء أفق الذات بما يتوافق مع هذه المعارف وتوجهاتها وغاياتها، ويعمل على إنماء قدراتها ومهاراتها.

دور جوهري للشباب في الحوار

يحتل العالم العربي موقعًا جيوستراتيجيًّا مهمًّا وهو فضاء غني ثقافيًّا وحضاريًّا ويشكل استثناء بتعدده الثقافي، فنجد أن كل دولة من دوله تتضمن ثقافات متفرعة تنصهر في ثقافة وطنية موحدة (الهوية العربية)، بيد أن ذلك التنوع يطرح سؤالاً عميقًا: هل هذا التعدد يعيش في حالة صراع، أم أنه في حالة هدوء تام وخضوع لأدبيات الحوار البناء؟

يبقى المجتمع بشكل عام والشباب بشكل خاص، هو البوصلة في تحديد مدى تلاؤم وتنافر المفهومين؛ فالشباب له دور ريادي بارز في مدى تعاطيه مع مسألة القيم وعلاقته بالآخر، لأن الشباب في الأول والأخير، هو وحدة متنقلة تساهم في التطبيع والتلوث الثقافي إن هي تركت قيمها، أو تتعامل في إطار من الانفتاح المحافظ عن القيم لتشكل فضاء للحوار والتبادل.

وحتى يكون للشباب دوره كمساهم في الحوار الثقافي، يجب أن يأخذ بعين الاعتبار مدى تطلعات المجتمعات العربية وغاياتها بعيدًا عن تكريس أشكال العصبية والتفرقة… والحوار الثقافي الداخلي بين مكونات الذات ليس سهلاً، لأنه يتطلب عناء فكريًّا ونقدًا مزدوجًا للذات والآخر، وتفكيرًا في العوائق الفكرية والنفسانية والحضارية المتراكمة في الترسبات الجيولوجية لكتل الأحكام المسبقة والمترتبة عبر العصور وفي وظيفتها الثقافية.

وبناء على ذلك فإنه على الشباب المسلم إعمال الفكر في نقد ذاته أولاً، والوقوف عند النقاط السلبية التي تحول دون الخوض في حوار ثقافي حضاري تنموي بناء، وكذا القيام بنقد الآخر؛ غايته تحقيق التوافق والتصالح مع الذات والآخر في علاقة تؤسس لفضاء التعايش وتركز على القيم الأخلاقية. فلا بديل للشباب المسلم من أجل التنمية، إلا بحوار ثقافي باعتباره مدخلاً أساسيًّا في نبذ كل أشكال العصبية العرقية والمذهبية والفكرية.