إن أساس فكرة العلاج السلوكي الإدراكي، هو أننا بإمكننا أن نعيد برمجة أذهاننا، ونتخلص من الأفكار الانهزامية السلبية.مهما بلغت حدة الشعور بالاكتئاب، فإنه يمكن السيطرة عليه مع الوقت وقليل من الجهد، بل والعلاج إن استدعى الأمر. وقد تطورت وسائل العلاج والتعامل مع الاكتئاب، سواء من الناحية الدوائية أو العلاج السلوكي والتحكم بنمط التفكير وردود الفعل، عن طريق تمارين ذاتية أثبتت نجاحها في علاج حتى أعتى حالات الاكتئاب.
إن الشعور بالكآبة شعور مؤلم يسنتفد طاقة الفرد، ويسبب له الشعور بالخور والهبوط والإحباط، إلا أنه قابل للانفراج بالبدء بخطوات صغيرة نحو التغيير، والبناء عليها خطوة بخطوة بثبات وصبر وأمل، واستعانة بالمحيط الاجتماعي المساند.
التعافي من الاكتئاب يحتاج إلى طاقة، وهذه يصعب جدًّا إيجادها أثناء هجمة الكآبة، بل لعل مجرد التفكير ببذل طاقة يعتبر بحد ذاته مجهودًا لمن يعانيها. الوضع صعب، لكنه ليس مستحيلاً، وإليك بعض الخطوات أو الإضاءات التي قد تعين:
1- حافظ على دائرتك الاجتماعية مهما بلغ بك الحال: حين تضيق بك الأمور، قد تميل نفسك إلى الانطواء أو الانعزال وتجنب الناس، حاول أن تقاوم هذا الشعور، وخذ خطوات -ولو بسيطة- باتجاه الاختلاط مع من ترتاح إليهم عادة، ومن يبثون في نفسك السعادة والتفاؤل.
قد تشعر بالخجل من اكتئابك، أو بالخوف من ظهور علامته لمن حولك، أو بانعدام الطاقة للمحادثة والمشاركة في أي شيء، لكن من المهم أن تعلم أن الانعزال يزيد من كآبتك، ويغرقك في أعماق أفكارك السلبية.
تذكر مهما بلغ بك الضيق، لابد أن تقاوم إغراء الهروب والانطواء؛ قد يمتص الاكتئاب طاقتك، لكن لا تسمح له بأن يوقف حياتك.
2- اعتن بنفسك: لكي تتغلب على الاكتئاب، فإنك بحاجة لأن تلتزم ببعض الخطوات التي قد تبدو بسيطة وغير ذات أهمية (قضاء الوقت في الطبيعة، تجنب الأخبار والبرامج المحزنة، نيل الكفاية من النوم…)، إلا أن لها المفعول الملحوظ جدًّا في تبديد ما تشعر به من غم.
3- مارس الرياضة بانتظام: حين تكون مكتئبًا قد تكون الحركة هي آخر ما تود القيام به، لكن الرياضة أداة فعالة في مكافحة الاكتئاب، بل لقد أثبتت الأبحاث أن الممارسة المنتظمة للرياضة، كثيرًا ما تحقق نفس النتائج التي تحققها الأدوية مضادات الاكتئاب في رفع مستوى الحيوية، وخفض شعور الإجهاد لدى الشخص المكتئب. لم يتوصل العلماء إلى السبب وراء هذه الحقيقة، إلا أنهم وجدوا أن الممارسة المنتظمة للرياضة، تزيد من كمية وفاعلية الناقلات العصبية المحسنة للمزاج، كما ترفع من نسبة هرمون الإندورفين الذي يؤثر على المشاعر الإيجابية، وتخفف من التوتر، وتعين على الاسترخاء العضلي.
4- اجعل غذاءك متوازنًا وصحيًّا بقدر الإمكان: لم تخطئ الحكمة القائلة: “أنت ما تأكل”. واحرص على الغداء المتوازن المكون من البروتنيات، والكربوهيدرات المركبة (الخبز الأسمر مثلاً) والفاكهة والخضار… تجنب السكريات والكربوهيدرات المكررة -كالإكثار من البطاطس المقلية والوجبات السريعة- فلها تأثير سلبي على تقلب المزاج… وأكثر من تناول الموز والرطب واللبن، إذ لها تـؤثر في رفع مستوى السيريتونين واستقراره.
أكثر من الأغذية المحتوية على دهون “الأومغا 3” لأن لها الأثر الملحوظ في رفع المعنويات، وهي متواجدة في الأسماك الدهنية، خاصة سمك السالمون، والماكريل، والسردين، والمكسرات (خاصة الجوز).
5- تجنب الأفكار السلبية وارفضها: يقول الأخصائي النفسي “ديفيد بيرنز”: “المكتئبون هم أساتذة فن الخداع، إذ أنهم بنظرتهم المتشائمة، لديهم القدرة على قلب النجاح إلى فشل، والفشل إلى إخفاق”.
كثير ممن عندهم القابلية للكآبة، هم من أكثر فئات المجتمع نجاحًا وإنجازًا، إلا أنهم مصابون بداء التفكير السلبي المتواصل حول أنفسهم ومستقبلهم. ورؤيتهم تلك تشوه نظرتهم للكون حتى يغدو كل شيء حولهم كئيبًا وبائسًا.
إن التوجه نحو التفكير السلبي، لا يعتبر من أعراض الكآبة فقط بل هو أساسها، إذ بما أن أفكارنا ومعارفنا هي التي تشكل مزاجنا فإن الأفكار الإيجابية تترجم نفسها إلى مزاج حيوي ومتفائل، بينما الأفكار السلبية المتكررة قد تغرق صاحبها في بحر من اليأس.
لا تتعجل النتيجة… من سار على الدرب وصل… أكثر الأخطاء شيوعًا عند من يعاني من الأفكار السلبية هي الانهزام المبكر، والإحباط أمام ما يرى من طريق طويل أمامه وجهد شاق في تصيد أفكاره السلبية والصبر على تغييرها.
لا تلم نفسك على سلبية أفكارك؛ اكشف بالاعتراف بوجودها والحاجة لتغييرها، ثم سر في طريقك بإيجابية وثق بالوصول.
كلما حدثتْك نفسك بتشاؤم، حدِّثْها بلطف الله وفضله ورعايته وعنايته. وجه انتباهك وتركيزك لكل ما هو إيجابي وبناء في الناس حولك؛ وفي الأحداث وفي الظروف،
﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾(الضحى:5). الجانب الذي توجه انتباهك إليه، هو الجانب الذي سوف ينمو ويقوي. ولو تأملت في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، لوجدت الكثير من الأدلة على أثر نظرتك في واقعك؛ مثل قوله صلى الله عليه وسلم: “أنا عند ظن عبد بي”، “تفاءلوا بالخير تجدوه”… إلخ.
كن على يقين بأن الكون يسير في مساره الطبيعي والمفترض له، وأن الأحداث -وإن بدت لك أنها تسير على غير المطلوب- إلا أنها حتمًا تسير وفق المكتوب ووفق المسار الذي يحقق الحكمة الإلهية المطلقة. لا تيئس من رَوح الله، ﴿إِنَّهُ لاَ يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾(يوسف:87)، واترك التشاؤم فالله تعالى نبهنا أنه من أمر الشيطان إذ قال:
﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ﴾(البقرة:268)، وإذا حدثتك نفسك بيأس فردها وقل مقالة سيدنا موسى عليه السلام حين أدركه فرعون، إذ قال: ﴿كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾(الشعراء:62).
6- احرص على مصاحبة الشخصيات الإيجابية، وتجنب المتشائمين والسلبيين: لا أحد ينكر أثر الصاحب على النفس، فالصاحب ساحب، “قل لي من تصاحب، أقل لك كيف ستشعر”.
وقد نبه الله تعالى في أكثر من موضع في القرآن على أهمية اختيار الرفقة لعل من أهمها قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾(التوبة:119)؛ فأمر بعد التقوى باختيار الصحبة.
7- ابنِ لنفسك كيانًا مستقلاًّ عن مدح الناس أو ذمهم: إذا اعتمدنا في استقرارنا النفسي على مدح الناس أو ذمهم، فلن نعرف الراحة ولا القرار أبدًا.
المدح والذم وجهان لعملة واحدة، كلاهما حكم ورأي شخصي على الآخرين، وينبغي علينا أن نكتسب المناعة من كليهما. فالالتفات للمدح ما هو إلا تغذية للغرور والذي سوف يكون له الأثر العكسي تمامًا على النفس بحلول أدنى نقد أو ذم.
يجب علينا أن نعتاد على التعرف على ذواتنا وإعطائها قدرها من الثقة والإيمان بعيدًا عن نظرة أو رأي من حولنا. ليس المقصود الغرور بالنفس، وإنما الوصول إلى قيمة ذاتية ثابتة لا تتأرجح بتأرجح رأي الآخرين.
ولعل هذا أيضًا من منافع تحقيق مبدأ الإخلاص الذي يدعو إليه الدين. فقد قال العلماء: إن من علامات الإخلاص في العمل، أن يستوي عندك المدح والذم. فمن عمل على تحقيق الإخلاص اكتسب راحة النفس، إذ لا يبتغي سوى رضى الله تعالى.
ويتبع هذه النقطة أن تتجنب النقد للغير: فإن كثرة النقد علامة على نفسية تتجه نحو رؤية النقص، سواء في النفس أو في الغير، وكلاهما تفكير سلبي غير بناء.
8- لا تتردد في اللجوء للمساعدة إذا شعرت بالحاجة: إن كل ما ذكرناه مسبقًا من خطوات، من شأنها أن تنجح في تبديد أغلب حالات الاكتئاب البسيط والمتوسط إذا ما تم الالتزام بأغلب الخطوات بثبات واستمرار، والتحلي ببعض الصبر. إلا أن الشعور بالاكتئاب في بعض الأحيان قد يكون من الحدة، بحيث يصعب على الإنسان أن يتغلّب عليه وحده، ويحتاج إلى معونة من متخصص.
والأدوية المضادة للاكتئاب ليست كما يدور في أذهان الكثيرين في مجتمعاتنا، من أنها تؤدي إلى النوم أو إلى الإدمان عليها… فهي أدوية مثلها كمثل المضادات الحيوية التي لها برنامج معين في أخذها وتركها باستشارة طبيب لا أقل ولا أكثر. بل قد يكون لأغلبها أعراض جانبية أخف بكثير من أعراض المضادات الحيوية وغيرها من الأدوية.