أصل العنوان فكرة مستلة مما قرأته عن الشيخ محمد البشير الإبراهيمي أمير البيان وسلطان البرهان في الكشف عن الدرر المستخرجة من القرآن وسنّة سيد الإنس والجان.
درج الناس في البلاد الإسلامية أن يدعو بعضهم لبعض، بهذه المناسبة بالسعادة في العيد وبه، ولكن هل تساءلوا فيما إذا كانوا أهلاً لنيل السعادة، بل فيما إذا كانوا أهلاً لإسعاد أنفسهم، قبل نقل هذه المعاني السامية للآخرين؟
العيد لا يحمد لذاته ولا يذم… قال الشيخ محمد البشير الإبراهيمي مخاطبًا العيد: “يا عيد! لو عدْت على قومي بالخفض والدَعة، أو جُدْت عليهم باليُسر والسعة، لوجدت منّي اللسان الخافق بذكرك، والقلم الدافق بشكرك، ولكنّك عُدت عليهم بنهار كاسف الشمس، يوم شرّ من الأمس، فاذهب كما جئت، فلست منك ظاعنًا ولا مقيمًا، وعُدْ كما شئت، فلست مني حميدًا ولا ذميمًا”.
فالعيد السعيد، ما تصممه العقول وتتحقق به القلوب، وتبذل لتحقيقه في شعاب الحياة السواعد. فالعيد السعيد ما نصنعه؛ فإن شقينا فيه فهو حصاد ما زرعناه في سالف الأيام، وإن سعدنا به فبفضل بذل وصناعة لا تجتمع والخمول والكسل والسبهللة، قال الشيخ: “إنما الناس لأعمالهم، سعد العاملون وشقي الخاملون (…) فلو عمّرنا أيام العام بالصالحات، لكنت (العيد) لنا ضابط الحساب وحافظ الجراب، ثم لم تلتْنا من أعمالنا شيئًا ولم تبخسنا من أزوادنا فتيلاً، ولكنّنا قصّرنا وتمنّينا عليك الأماني، وتبادلت ألسنتنا فيك أدعية لم تؤمّن عليها قلوبنا، ثم ودّعناك وانتظرنا إيابك، وأطلنا الغيبة واستبطأنا غيابك”.
لقينا هذا العيد و ما سبقه من الأعياد بالاكتئاب، وتلك نتيجة الاكتساب، وكيف لا يكون كذلك، وقومنا كما قال الشيخ: “يتخبّطون في داجية لا صباح لها، ويفتنون في عام مرة أو مرّتين، ثم لا يتوبون ولا هم يذكّرون، وأراهم لا ينقلون قدمًا إلى أمام إلا تأخّروا خطوات إلى الوراء (…) حصرت همّها في إثارة حرّة على حرّة، وتسخير نفسها لضرة، نكاية في ضرّة”، ثم يذكر الشيخ متسائلاً عن سبب البلاء الذي حلّ بالأمة فيقول: “وأفكّر في علّة هذا البلاء النازل بهم، وفي هذا التفرّق المبيد لهم، فأجدها آتية من كبرائهم وملوكهم، ومن المُعوّقين منهم الذين أشربوا في قلوبهم الذلّ، فرئموا الضيم والمهانة، واستحبّوا الحياة الدنيا فرضوا بسفاسفها، ونزل الشرف في نفوسهم بدار غريبة فلم يُقَم، ونزل الهوان منها بدار إقامة فلم يَرِم…”.
كيف لنا أن نسعد بالعيد والمسلمون “ورثوا من الدين قشورًا بلا لباب، وألفاظًا بلا معان، ثم عمدوا إلى روحه فأزهقوها بالتعطيل، وإلى زواجره فأرهقوها بالتأويل، وإلى هدايته الخالصة فموّهوها بالتضليل، وإلى وحدته الجامعة فمزّقوها (…) قد نصبوا من الأموات هياكل يفتتنون بها ويقتتلون حولها ويتعادون لأجلها، وقد نسوا حاضرهم افتتانًا بماضيهم، وذهلوا عن أنفسهم اعتمادًا على أوليهم، ولم يحفلوا بمستقبلهم لأنه غيب والغيب لله، وصدق الله وكذبوا، فما كانت أعمال محمد وأصحابه إلا للمستقبل، وما غرس محمد شجرة الإسلام ليأكل هو وأصحابه ثمارها، ولكن زرع الأولون ليجني الآخرون”.
جاء العيد والهوى في ممالك المسلمين يأمر وينهى، والاستبداد في كثير من بلدانهم بلغ المنتهى، وكيد العدو الأجنبي بمعاونة خدمه في الداخل يسلّط الأخ على أخيه، لينام هو قرير العين، لِيَكِل أمر المسلمين إليهم، فيقومون مقامه في تخريب الديار ومنع النهضة الحضارية المنتظرة بهدر الطاقات فيما لا طائل منه، وبعث المسائل الميتة المميتة من مراقدها على حين غفلة من الجمارك الفكرية المعطّلة عن الاشتغال، مما يجعل التفكير في النهضة من سابع المحال في ظل وضعنا الراهن.
إذا أردنا أن يستعيد العيد معناه الديني والإنساني والنفسي والاجتماعي، فيكون العيد دينيًّا شكرًا بعد تمام عبادة تتحقق بها القلوب وتنار بها العقول وتُرى عمارة في الأرض، ويعود في هذا اليوم مال الله الذي استودعه الغني على فقير يدعو له بحفظ النعمة من الزوال، لأنه كان أمينًا في نقل الأمانة التي استأمنه الله عليها.
نفرح بالعيد حين يكون يومنا أحسن من أمسنا؛ في السياسة والتربية والتعليم والاقتصاد والاجتماع، وتستعيد أمتنا الصدارة الحضارية، ويعود مال الأمة على الأمة… نسعد بالعيد عندما يقدّم خيارنا في كلّ شيء، نسعد به عندما تكون الكفاءة المعرفية والأهلية الأخلاقية معيارًا للتقديم، نسعد عندما يستعيد المجتمع المبادرة التي تتوافق مع الأوامر الإلهية في كل شؤون الحياة، نسعد حينما تسعفنا شهواتنا فنتحرر من قبول السوم فضلاً عن الترشّح للبيع أمة وشعبًا حكامًا ومحكومين، نصرّح بملء فينا وبكّل قوة أننا لسنا أمة للبيع، وأننا أمة لا تقبل الضيم والإذلال.
من ظنّ أنّ الشعوب والمجتمعات قد تسعد بما لا يُسْعد، فهو مجانب للصواب، مخالف لما أرشدت إليه الألباب، منازع لما درجت عليه سنة (قوانين) رب الأرباب. الأمم لا تسعدها الآلام والشجون إلا إذا تعطّلت فيها العقول والقلوب باللهو المجون، وطمست المواهب بفعل القرب من المحلي أو الأجنبي من الكانون (الموقد رمز الدفء)، واندثرت فيهم المروءة، وقلبت فيهم الموازين فصار التحريش بين أهل الوطن الواحد في الصحافة مهنية وحصافة، وتعريض وحدة المجتمع والأمة للخطر سياسة، وتزعّم أردَءِ السفلة نباهة، وتقدّم من خلاق له كياسة (…) حتى أصبحت الروائح التي تزكم الأنوف مقدمة لما لها من نفاسة (…) الأمم لا تسعد إذا كانت لغة التواصل المخلب والظفر والناب، والميل الصريح عن كل قول صواب، لأنه صدر عن (مشاغب كذّاب)، الأمم لا تسعد بتعطيل إرادتها بمزيّف من الانتخاب، أو حيل (دهاء)ساسة لأجل أن تهنأ الأمة بطول غياب، في تعمير الأرض والمراقبة والحساب، لا يرتاح لها بال حتى تراقب الكلّ حتى البواب.
عيدنا سعيد إذا نوينا بحق وصدق ثم فعّلنا وشغّلنا تلك النية في شعاب الحياة، فيتحول حالنا إلى أحسن حال، فيكون يومنا تصميمًا على ترك التخلّف بكل أشكاله وألوانه، فنطرده من تعليمنا ومشهدنا السياسي والاقتصادي والاجتماعي، التخلّف وفق المعايير الإنسانية الجامعة.
هل يقبل من يريد أن تكون أمته على أفضل حال إيمانًا وأمنًا واستقرارًا وتنمية، بالدونية، ورأس ما يصنعها وفق المتفق عليه بين العقلاء، عُبَّاد ذواتهم بعنوان حبّ الأمة والوطن، فيخاطرون بالأمة لأجل الحفاظ على حطام زائل من الدنيا، لأن حب الوطن والأمة لها مقتضيات جلية، تتجلى في أن تبذل لهما كل ما تقوى عليه من غير انتظار عِوَض، ومن بذل لأجل انتظار العوض، فهو محب للعوض لا للوطن.
عيدنا سعيد إذا أردنا، فهل نسترد إرادة السعادة؟ ونكتشف آليات تفعيلها وتشغيلها في شعاب الحياة، فنسعد بأيام هَنيّة في التعليم والتربية والسياسة والاقتصاد ثم تتوج بالبعث الحضاري للأمة، وأمة هذا شأنها تنأى بنفسها من أن تبقى أمة للفرجة (تتفرج عليها الأمم لأنها أشبه بالبهلوان)، لتتحول وفق سنن التغيير إلى أمة الشهادة ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾(البقرة:143)، من فكّر ونوى وعمل على إسعاد يومه، فغده من جنسه إن داوم عليه، وهذا نتمنى أن نكون معه ومنه، ونقول له عيدك القادم سعيد، لأن السعادة اكتساب، “إنّما هي أعملنا ردّت إلينا”… وإلى عيد آخر.