الطلاق أكبر تهديد على الأسرة

الزواج من المراحل المهمة في حياة الفرد، وبه يُتاح للفرد أن يغدو أبًا أو أمًّا. وقد يبدو الزواج أو الأبوة أو الأمومة أمرًا عاديًّا لبعض الناس، بيد أنها تتطلب مسؤولية كبيرة كمًّا وكيفًا. ففي أثناء هذه المرحلة من الحياة يتأثر الفرد سلبًا أو إيجابًا؛ إذ تفضي مشكلات الحياة الزوجية إلى الطلاق أحيانًا. ولابد من التنويه إلى أن الطلاق أو التفكك الأسري، يؤدي إلى تحولات نفسية واجتماعية في المجتمعات. لذا يتطلب هذا التفكك في الأسرة، دراسة عميقة وتركيزًا دقيقًا من قبَل المهتمين المتخصصين.جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “أبغض الحلال إلى الله تعالى الطلاق” (رواه ابن ماجة)، وهذا يزيح الستار عن مدى أهمية مؤسسة الزواج.

وتزداد نسبة الطلاق بتأثير التحوّلات والتبدّلات التي تطرأ على الحياة الاجتماعية والفردية مع الزمن. وكما جاء في السجلات القضائية التركية، فإن دعاوى الطلاق ازدادت بنحو ضعفين ما بين عامي 1986-1998. ووفقًا لبيانات مؤسسة الإحصاء التركي التي تم الكشف عنها في عام 2006، أن نسبة الزواج وصلتْ إلى 636.121 بينما نسبة الطلاق بلغت 93.489، أي إنه ينتج عن كل مائة حالة زواج خمس عشرة حالة طلاق.

أكثر أسباب الطلاق شيوعًا هو عدم التوافق بين الزوجين ثم الهجر، فضلاً عن الأمراض العقلية، وضرب الزوج زوجته عمدًا، وارتكاب جريمة الزنا… وقد يتغير هذا الترتيب بتغير الأيام والأزمان.

لا ريب أن من يتتبعون الملذات باستمرار لن ينالوا السعادة الحقّة أبدًا. وإذا تأملنا في أسباب الطلاق اليوم، سنجد أنْ لا قيمة لها في حقيقة الأمر، إلا أنّها تؤدي في كثير من الأحيان إلى دمار الأسرة وتشتيت شملها. ومما لا شك فيه أن عوامل الضغوط النفسية والتغيرات الاجتماعية لها أثر بالغ في الطلاق… وإذا شبّهنا الأسرة بالكائن الحي نرى تارة الأمراض الباطنية وتارة أخرى الميكروبات الخارجية تعمل على هدم بنية هذا الكائن الحي وتدميره.
يعتقد الكثيرون أن الطلاق هو السبيل الوحيد للتخلّص من المشاكل، أو الحصول على السعادة والهناء. إلا أنهم لم يضعوا بالحسبان أنّ الطلاق إنْ خلَّصهم من مشكلة فإنه سيوقعهم في مشاكل أخرى متعددة… لذا، لا يمكن النظر إلى الطلاق على أنه بداية مرحلة جديدة وجميلة، بل يجب النظر إليه على أنه مرحلة من مراحل الحياة تغلب عليها السلبيات وتحيطها من كل الجوانب. إن الوقائع التي تحدث قبل الطلاق وأثناء الطلاق وبعده، غالبًا ما تخلق نتائج سلبية، وتؤدي إلى تفككٍ وتمزّقٍ خطير في كيان الأسرة، ومن ثم تكون سببًا في غياب الماضي المشترك والحياة المشتركة.

وقد بيّن الله تعالى في سورة الطلاق أحكام الطلاق؛ منها زمن وقوع الطلاق، ومدة العدة التي تمضيها بعد الطلاق قبل أن تتزوج المرأة مرة أخرى، وغيرها كثير. فمن الواجب على المؤمنين أن يحرصوا أيما حرص على إدامة الحياة الزوجية والمحافظة عليها، وألا يلجؤوا إلى هذا المسار إلا إذا غدت مشكلات الأسرة الداخلية جحيمًا لا يطاق.

الجانب الروحي لدى الأسرة

الأسرة مؤسسة مقدسة وليست بضعة أفراد جمعتهم الصدفة، فالإسلام قد أعطى الأسرة من المعاني الحقيقية ما أعطى، وبيّن المقومات الروحية والديناميات الحيوية لماهية الأسرة بأدق التفاصيل… ومن الأهمية التي منحها الإسلام للأسرة، غدت الأسرة مؤسسة قوية رصينة في الحياة الاجتماعية. كما أن عقد الزواج في القرآن الكريم، يعتبر ميثاقًا أبديًّا يتطلب من الزوجين الالتزام به والشعور بالمسؤولية تجاهه، لأن حفظ نسل بني آدم، والتكاثر، والعفاف يحصل نتيجة الزواج.

عندما بيّن القرآن الكريم مدى القرب بين الزوجين، عدّ كلًّا منهما لباسًا للآخر، وهنا ينبغي لمن يقدم على الزواج أن يتذكر أنه -بهذا العقد- قد خطا خطوة دنيوية وأخرى أُخروية. وهذا ليس لغزًا محيّرًا، بل إنه أمر لابد من الانتباه إليه قبل الزواج، ومن يمعن حقًّا في بنية الأسرة وهيكلتها، يجد أنّ الطلاق لا يُلجَأ إليه إلا اضطرارًا… فعندما لا يُستوعَب معنى مؤسسة الأسرة ويدرك بحقٍّ، يُعتقد أن الطلاق أبسط وأسهل طريقة لحل المشاكل، بينما النظرة إلى الطلاق على أنه الملجأ الأول في حلّ المشاكل اليومية، مصدرها التوهم بأن كل شيء سوف يُحلّ بالطلاق… ويعتبر اللجوء إلى الطلاق بسرعةٍ من الأمور التي غالبًا ما تؤدي إلى قرارات خاطئة وسلبية، يبد أن المفضّل في مواجهة المشاكل الأسرية -التي يُحتمَل أن تقع في كل أسرة- إحياء المحبة والاحترام المتبادل من جديد، والتحمّل على بعض المعاناة، والدعاء المتبادل، والتركيز على الجوانب الروحية… إن المسؤولية الكبرى لتكوين كيان الأسرة المعنوي والروحي تقع على عاتق الأبوين بالدرجة الأولى، لأن الأبوين هما من يحدد أولويات الأسرة.

وهذا الجانب المعنوي يتألف من قيم، منها التضحية والإيثار وعدم الأنانية، والتقدير، والحب، والتسامح، والتضامن والتعاون، وتأسيس السعادة والطأنينة، والصبر وعدم جرح مشاعر الآخرين بقولٍ أو فعلٍ. فإن انعدم الكيان المعنوي في الأسرة احتلت العوامل المادية موقع الصدارة فيها، وبالتالي فإن العوامل المادية كالمال والجمال والشهرة لا تقيم أسرةً، لأن اللهث وراء الملذات والشهوات المؤقتة ستهزّ حتمًا دعائم هذه الأسرة وتشتتها… فلن تكون الأسرة أسرة حقيقية إلا إذا كانت العوامل الروحية سائدة في كيانها. فالأسرة التي تخلو من المقومات المعنوية، تكون عرضة لتعشش الأمراض فيها، وقد تؤدي هذه الأمراض إلى تغيير سلوكيات الأفراد ومشاعرهم الودية تجاه بعضهم البعض، ومن ثم إلى تغيير نظرتهم إلى الحياة يومًا بعد يوم… والأسرة التي تتغير سلوكياتها ومشاعرها، تتشابك أفرادها فيما بينهم وتخوض في صراع ظاهري حينًا، وخفي حينًا آخر… وقد ينتبه الأطفال إلى الصراع الظاهري بسهولة، فضلاً عن أنهم ينتبهون أيضًا إلى ما يخفى من مشاكل وشقاقات بين الأسرة، ومع مرور الأيام تتولّد عند الأطفال مشاكل نفسية خطيرة. إن المقومات الروحية تمثّل دعمًا للأسرة لمواجهة المشاكل، فالأسرة تشبه البنية السليمة، فإذا كانت متماسكة صعُب تفككها، وكانت كالبنيان المرصوص لا يتصدَّع ولا ينهار بسهولة.

الطلاق سبب للأمراض الروحية

البنية الشخصية والأخلاقية هما طريق تعزيز الروابط المعنوية في الأسرة، بينما تشكِّل الأمراض الروحية التي يخسر بها الفرد الحياة الأبدية، خطرًا على الشخصية المعنوية للأسرة. ولا شك أن أفراد الأسرة الذين يقترفون المآثم كشرب الخمر ولعب القمار والزنا، يسهّلون انفكاك الأسرة. وقد تزداد السلوكيات السلبية عندما لا يراعي الإنسان حقوق الآخرين وينتهكها، بل إنها تنعكس مع الزمن على أقربِ مَن يمارس هذه السلوكيات… وإذا بالروابط الأسرية تضعف، وتتقطع بعد فترة معينة. إن المخاطر التي تهدّد الأسرة اليوم هي نفسها التي حرّمها ديننا. ففي المنزل الذي يشرب فيه الخمر -على سبيل المثال- يشيع فيه العنف والفقر والاضطرابات السلوكية، أما من يرتكبون الزنا فإنهم في الحقيقة لا يضرون إلا أنفسهم، ثم يفقدون أهمّ القيم والمبادئ تدريجيًّا… فالخمر والزنا والقمار والكذب من الأسباب الرئيسية في التنافر وعدم التفاهم داخل الأسرة؛ لأن السعادة والثقة والتضحية، لا تجتمع مع الخمر والزنا والكذب والقمار، ومن ثم تتقطع الروابط الأسرية.

الأنانية والحرص على السعادة الفردية، تعتبَر من الأمراض النفسية التي تؤدي إلى الطلاق. أمّا الذي يؤمن بالكيان المعنوي للأسرة يعكس ذلك إلى سلوكياته. فالسلوكيات التي تنشأ في جوٍّ من التضحية، تحث الآخرين على التضحيّة والتأسّي بها. أما الشخص الأناني الذي يرفض الرأي الآخر ولا يفكر إلا في مصلحته الخاصة، فهو يفسد سلوكيات الآخرين أيضًا… بعبارة آخرى إن الذين يرون التضحية يسلكون طريق التضحية، وأما الذين يرون الأنانية يقولون “لماذا سأكون أنا المضحي دائمًا” ومن ثم يبتعدون عن السلوك الإيجابي يومًا بعد يوم.
ونادرًا ما تستمر التضحية من طرف واحد، لأنها تتطلب صبرًا كبيرًا ومعاناة… والأنانية معناها تجاهل الآخرين، حيث الأناني لا يفكر إلا بنفسه، ولأنه يركّز على كلمة “أنا” دائمًا، ينعدم عنده مفهوم “نحن”. كما أن الحرص على السعادة الفردية، مظهر من مظاهر الأنانية؛ فقول “سعادتي فقط ولا سعادة غيري” يؤدي إلى عزلة الإنسان ويؤدي كذلك إلى الطلاق أيضًا.

عنصر المساواة في الطلاق

لكلٍّ من الرجل والمراة واجبات وحقوق في النظام القانوني.. ولما كانت خلقة الرجل تختلف عن المرأة، اختلفت واجبات وحقوق كلٍّ منهما في الحياة الأسرية.. وقد تم تحديد هذه المسؤوليات والواجبات لكلٍّ من الرجل والمرأة تجاه أولادهما بشكل واضح.. ففي كتاب الله من سورة النساء أنّ الرجل هو رب المنزل وراعيه، والقائم بالمهامّ الشّاقة داخل المنزل وخارجه.. وعلاوة على إدارة الرجل للمنزل فإنّ عليه تقدير زوجته ورعاية حقوقها، فالزوج مسؤول أمام الله وأمام نفسه عن صون عرضه وشرفه.. فإذا أُدّيت الواجبات والحقوق بنية حسنة في وسط أسريّ يعمّه الحب والاحترام، فلن يستاء أحد من أحد، أمّا احتلال المرأة لموقع الصدارة بإفراط وبلا ضرورة، واستغلالها حريتها الاقتصادية ورقةً رابحة تجاه زوجها، وقولها “أنا أملك المال ولا أحتاج إليك، فسأفعل ما أريد”، وغياب الاحترام والإحساس بالمسؤولية تحت اسم المساواة.. فذلك كلّه بمنزلة زرع ألغام تحت أسس الأسرة.

والمبالغة في فكرة المساواة بين الجنسين، أَدْخَل المرأة في صراع مع الرجل، فقُضِي بذلك على الطمأنينة، ونشأ خلط بين دور الرجل ودور المرأة عقِبَه نظامٌ أسريّ تشيع فيه المخاوف الاقتصادية، وأسفرت دعوة المرأة إلى العمل عن وجود أفراد في الأُسرة مستعدِّين لقطع المودَّة والانفصال المادي وإن كانت المشكلة تافهة.. فمن هذه الناحية لا ينبغي أن ننكر أنّ رياح نظرية المساواة بين الرجل والمرأة اقتلعت كثيرًا من جذور الأسر.. ولقد أثّر الإعلام على دور المرأة فغيّر فيه كثيرًا، وعُرِضَت التضحية في سبيل الأسرة على أنها سلوك بسيط ومستوى محدود، وسادت فكرة خاطئة مفادها؛ المرأة الأمية غير المتعلمة أحسن من المتعلمة المثقفة. ولكن الحقيقة أننا في حاجة إلى امرأة ترى خدمة زوجها وأبنائها واجبًا مقدَّسًا، وتحظى لدى زوجها وأبنائها بما تستحقه من احترام.

التدخل مباشرة في مشاكل الأسرة

كل عائلة من الممكن أن تمرّ بأوقات عصيبة، ومن المفيد في باب حقوق الزوجين وواجباتهما، أن يقوم كل منهما بالكشف عن أمراضه المعنويّة بأسلوب مهذب.. فأهمُّ شيء هو وجود القابلية للكشف عن هذه الأخطاء والتعبير عنها بطريقة مهذبة.. فأسلوب التعبير عن الخطأ مهمّ جدًّا في إصلاحه؛ فاستخدام التعبيرات التي توحي بتجريم المخاطَب واتهامه والتهوين من أمره، تزعجه بلا شك، فلا أحد يرفض المداخلة البناءة والمساعدة والنيّة الحسنة.. إن حرص الأزواج على مصادر الغذاء الروحي، يزيد طمأنينة الأسرة ويقوّي بنيتها بأطفال ينشأون في هذا الجوّ الروحي، ويقي الأسرة من التعلُّق المفرط بالتلفاز والحاسب الآلي والرسائل الواردة من عوالم أخرى.. فالتعلُّق المفرط بما سبق، يُعدِم هوية الأسرة ويغيَّب الشخصية الروحية لها.

ينعكس حزن الإنسان المكتئب على تصرفاته أيضًا، فالوالد، كان أبًا أو أمًّا، إذا كان غضوبًا أو ضجِرًا أو متوتر الأعصاب، فإن تصرفاته هذه تنعكس على الأسرة فتجلب لها الحزن والأسى، وها هنا تضطرب علاقات الأسرة وتتوتر وتخمد طاقتها الإيجابية.. وفي هذا الموقف يسود القلق والتوتر بين أفراد الأسرة، وما إن تمضي فترة حتى يتم أخذ القرار بالطلاق..

فنسبة 40% من حالات الطلاق، تكون في السنوات الخمس الأولى، ولا يحدث الطلاق عند التدخل فورًا -وفي الوقت المناسب- في مشكلات تقع في الفترة الأُولى، على أن تُترك المشكلات الصغيرة للزمن.. ومن نتائج حلّ المشكلات إبان حدوثها وترك التافه منها للزمن، أنْ تناقصت نسبة الطلاق بعد السنوات العشر الأولى إلى نصف ما كانت عليه في الخمس الأولى من الزواج.

التدخل الخارجي في شؤون الأسرة

حيث تنتشر العادات والتقاليد، يكثر تأثيرها في حياة الأبوين والأبناء، فمثلًا لا حرَجَ -البتة- في عيش الجد والجدة في منزل الأسرة، بل إنَّ لوجودهم فوائد جمَّة، وبوسعهم أن يعيشوا حيث شاؤوا في هذا المنزل أو في غيره.. كما أن تدخلهم المفرط في الحالة الأسرية، يكون بمثابة بوّابة لمشكلات كبيرة.. وكنا قد شبهنا الأسرة بالكائن الحي؛ فالمداخلات التي تحدث للكائن، يجب أن تكون إيجابية وداعمة، وهكذا الأسرة، فإنّ على أفرادها أن يقدِّموا تعليقات إيجابية دائمًا -لا سيما ما يتعلَّق بالأبوين- ويتجنّبوا السلبيات.. فما يكون بين الزوجين من غيبة أو نميمة أو شائعة أو بهتان، يجلب شرًّا مستطيرًا على الأسرة، فمن الضروري لكل أب وأم أن يحبّا ابنهما ويفكرا في سعادته، وأن يحرصا عليه أيّما حرص، فيتدخلا بطريقة إيجابية بعد زواجه إذا ما اقتضى الأمر.. فالتدخلات المفرطة وغير الضرورية، تأتي بردود أفعال بعد فترة ما، فيدخل الزوجان في صراع بسبب أهليهم.

إن مبدأ “فليقل خيرًا أو ليصمت” هنا، يتعيّن تطبيقه، أمَّا الذين يشتّتون الأسرة من أجل إيجاد زوج أفضل أو زوجة أفضل لأنفسهم، فإنهم يواجهون مشكلات عصيبة بعد ذلك، فالأهل الذين يمزقون الأسرة ليحظوا بمن هو أفضل زوجًا كان أو زوجة، يواجهون مشكلات عصيبة فيما بعد، وسرعان ما تتفكك الأسرة بالتدخل الخارجي، وهو من أسباب الطلاق المؤسفة، وأحيانًا تتفكك الأسرة بالقيل والقال.

وفي النهاية لا ينبغي أن يُتَّخَذ قرار الطلاق البتة إلا بعد أن يفكِّر الفرد مليًّا فيما للطلاق من عواقب لا تنتهي.

ـــــــــــــــــــــ

(*) الترجمة عن التركية: مصطفى عباس.