هل يا ترى كان للحيوان موقع في منظومة الأخلاق الإسلامية يومًا؟ وهل نال من الحقوق والرحمة به نصيبًا يليق به باعتباره مخلوقًا من مخلوقات الله في الأرض؟
جوابًا عن هذه الأسئلة، تتقدم آية عجيبة من كتاب الله عز وجل لتخبرنا أولاً أن عالم الحيوان كعالم الإنسان تمامًا بتمام، يقول عز من قائل: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ﴾(الأنعام:38).
يقول سيد قطب -رحمه الله- معلقًا على هذه الآية في “في ظلال القرآن”: “إنه ما من دابة تدب على الأرض -وهذا يشمل كل الأحياء من حشرات وهوام وزواحف وفقريات- وما من طائر يطير بجناحيه في الهواء -وهذا يشمل كل طائر من طير وحشرة أو غير ذلك من الكائنات الطائرة- ما من خلق حي في هذه الأرض كلها إلا وهو ينتظم في أمة، ذات خصائص واحدة وذات طريقة في الحياة واحدة كذلك… شأنها في هذا شأن أمة الناس”. من هنا نعلم أن للحيوان حق الرحمة كحق الإنسان، وذلك لما له من خصائص وطبائع وشعور لا تقل عما لدى الإنسان، وإلا فلا معنى لكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم -وحاشاه- وهو يستوصي بالحيوان خيرًا حتى ولو كنت قائده للموت حين قال: “إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته” (رواه مسلم).
تسمية سور القرآن بأسماء الحيوان
وفي إشارة لطيفة بموضوعنا هذا، نجد القرآن الكريم يحمل فيما يحمل سورًا بأسماء الحيوان؛ وذلك كالبقرة والأنعام والنمل، ولم تكن هذه التسميات عبثًا، وإنما سميت بها ليلفت سبحانه انتباهنا إلى الاهتمام بالحيوان، لكونه أولاً خلقًا من مخلوقات الله، وثانيًا لأنه مصدر من مصادر رزق الله لنا.
وقد أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الحقيقة الكبرى حين قال: “لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها” (رواه الترمذي). فالحيوان -حسب منطوق الحديث الشريف- لا ينبغي أن يباد أو يقتل أو يعتدى عليه وإن كان يؤذي الإنسان أحيانًا. والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يشير هنا إلى الحقيقة القرآنية التي سجلها القرآن في قوله تعالى السالف الذكر: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ﴾(الأنعام:38).
الطريق السوي حق من حقوق الحيوان
ومن منا لم يسمع بقولة الفاروق عمر رضي الله عنه وهو يشرع فيها لحقوق الحيوان حتى جعل الطريق المعبد السوي حقًّا واجبًا من حقوقه حين قال: لو أن بغلة عثرت بشط العراق لخشيت أن يسألني الله عنها لِمَ لَمْ تصلح لها الطريق يا عمر.
إنه لسبق حضاري رفيع أن نجد من ينادي بهذا الحق للحيوان في هذه الأمة منذ خمسة عشر قرنًا، أما حق الأكل والشراب والرعاية فمكفول بكل تأكيد.
وإن تعجب، فعجب كله أن هذا النداء من الفاروق رضي الله عنه، صدح به عاليًا في وقت كان الإنسان يُستعبد وتداس كرامته عند الأمم الأخرى كالفرس والروم وغيرهم… ولا يتمتع بأدنى حقوقه التي تليق بكرامته كمخلوق كرّمه الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾(الإسراء:70). بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة القتال كان يستوصي أصحابه بالناس والحيوان والنبات خيرًا، يقول صلى الله عليه وسلم: “اغزوا باسم الله ولا تقتلوا شيخًا هرمًا، ولا عابدًا في صومعته، ولا صبيًّا ولا امرأة، ولا تهدموا جدارًا، ولا تغوروا بئرًا، ولا تخربوا عامرًا، ولا تقطعوا شجرة يستظل بها ابن السبيل، ولا تذبحوا بهيمة لغير مأكلة” (رواه أبو داود).
بهذه القيم والأخلاق الرحيمة التي سادت عالم الإنسان والحيوان على حد سواء، فتح المسلمون قلوب العباد قبل حدودهم، فدانت لهم الدنيا طواعية، حتى قال المفكر الفرنسي “غوسفان لوبون” في “حضارة العرب” بعد قراءة متأنية دقيقة لتاريخ الإسلام: “ما عرف التاريخ فاتحًا أعدل من العرب المسلمين”. ولندع -اللحظة- شواهد من هذا التاريخ الإسلامي تنطق بنفسها وتشهد على سمو أخلاقنا مع الحيوان.
رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بالحيوان
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فرأينا حمرة (طير يشبه العصفور) معها فرخان لها، فأخذناهما فجاءت الحمرة تعرش (ترفرف بجناحيها)، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها” (رواه أبو داود).
لقد أحس رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أحست به تلك الحمرة من حرقة ولوعة، فدعا إلى الرفق بها بإرجاع فرخيها إليها حتى تسكن ويهدأ روعها، إنها من أمة الطيور لها حقها من الرفق والرحمة كحق الإنسان. وإن الرحمة لخلق عظيم يدخل صاحبه الجنة كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال لصحابته رضي الله عنهم يومًا وهو يحثهم على الرحمة بالحيوان: “بينما رجل يمشي بطريق إذ اشتد عليه العطش، فوجد بئرًا فنزل فيها، فشرب ثم خرج، فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل، لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي بلغ مني، فنزل البئر فملأ خفه ماء، ثم أمسكه بفيه حتى رقى فسقى الكلب، فشكر الله تعالى له فغفر له”، قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم لأجرًا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: “في كل ذات كبد رطبة أجر” (رواه البخاري).
قد يحتقر الواحد منا هذا الصنيع ولا يوليه كبير اهتمام في زحام الحياة، لكن الله سبحانه قدره وخلد ذكر ذلك الرجل فرحًا بما صنع. وكيف لا يلتفت سبحانه لهذه الرحمة من بشر وهو سبحانه الرحيم الرحمن القائل: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾(الأعراف:156)، بل إنه وصف نبيه المصطفى الكريم بكونه رحمة للعالمين: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾(الأنبياء:107). لذا وجدناه صلى الله عليه وسلم في كل مرة يذكّر أصحابه بخلق الرحمة: “الراحمون يرحمهم الرحمن” (رواه الإمام أحمد).
وفي حديث آخر شديد الصلة بالرحمة والرأفة يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “من أُعطي الرفق فقد أعطي حظه من خير الدنيا والآخرة” (رواه الإمام أحمد).
هكذا نجد خلق الرحمة بالحيوان عنوان حضارتنا الإسلامية التي كان لها قدم السبق في ذلك، بل إنك لو اتبعت تشريعنا في هذا المجال لوقفت على تراث زاخر عظيم ينطق رفقًا ورحمة، فها هو ذا نبي الله سليمان عليه السلام تستوقفه نملة بواد فيتبسم إليها ضاحكًا، ويجلس إليها تحاوره ويحاورها بوحي من الله سبحانه وتعالى، لأنها -وأمتها- خلق من خلق الله، بل أنه سبحانه سمى -كما سبقت الإشارة- سورة باسمها ليخلد ذكرى هذه النملة وأمتها، ويجعل كلامها متعبدًا به إلى يوم القيامة.
القسوة على الحيوان موجبة لعذاب الله
وإذا كانت الرحمة بالحيوان خلقًا يوجب المغفرة -كما سبق- فإن القسوة عليه في المقابل تدخل النار. فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً: “دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض” (رواه البخاري).
فإذا كانت البشرية -قديمًا وحديثًا- أذاقت وما تزال تذيق الناس ألوان التعذيب والتقتيل والمهانة، فإن الإسلام قد كرم هذا الإنسان أحسن تكريم، بل إنه لم يقف عند هذا، بل نجده قد حرم تعذيب الحيوان وجعل ذلك موجبًا من موجبات عذاب الله تعالى له. فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى قرية نمل قد أحرقها بعض الصحابة قال مستنكرًا: “من أحرق هذه؟” قلنا: نحن، قال: “إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار” (رواه الطبري والحاكم). بل إنك لتعجب حين تعلم أن إضجاع الحيوان للذبح قبل أن يعد المرء شفرته، قسوة في دين الله لا تجوز. فقد قام رجل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأضجع شاته للذبح وشرع يحد شفرته، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: “أتريد أن تميتها موتات؟ هلا أحددت شفرتك قبل أن تضجعها؟” (رواه الطبري والحاكم).
إنها لمشاعر إنسانية تفيض نبلاً ورحمة، ما عرف التاريخ مثيلاً لها إلا في ظل شريعتنا الغراء التي تحس بكل ما يحس به أي مخلوق. ولكي تزداد يقينًا، أدعوك لنصغي جميعًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقوم سلوكًا منحرفًا أساء إلى حيوان أبكم أرهقه صاحبه فوق ما يطيق؛ فقد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بستانًا لرجل من الأنصار، فإذا فيه جمل، فلما رأى النبيَّ حن وذرفت عيناه، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح دموعه ثم قال: “من صاحب هذا الجمل؟” فقال صاحبه: أنا يا رسول الله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: “أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملّكك الله إياها، فإنه شكا إليّ أنك تجيعه وتدئبه” (رواه الإمام أحمد).
فكما أن تحميل الحيوان فوق طاقته منكر قد حاربه الإسلام واستنكره، نجده كذلك قد حرم -في إطار حقوق الحيوان- إجاعته وتعريضه للهزال والضعف والتلف. فقد مر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببهيمة قد لصق ظهرها ببطنها، فهاله ما رأى من خرق لحقوق هذا الحيوان، فانتفض غاضبًا وقال: “اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة فاركبوها صالحة وكلوها صالحة” (رواه أبو داود).
ومما يستفاد من هذا الحديث أن النفقة على الحيوان واجبة على صاحبه، ومما استخلصه الفقهاء كذلك بدورهم أنه يجبر كل من امتنع عن إطعام الحيوان على بيعه أو الإنفاق عليه أو ذبحه.
ويذكر التاريخ كذلك أن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يسير يومًا وهو يتفقد أحوال الرعية، فرأى رجلاً يسحب شاة برجلها ليذبحها، فهاله ما رأى من إساءة بالغة في حق شاة بكماء فقال له: ويلك، قدها إلى الموت قودًا جميلاً.
ومما قرره فقهاؤنا من حقوق للحيوان، أنه إذا لجأت هرة عمياء إلى بيت شخص، وجبت نفقتها عليه إذ لم تقدر على الانصراف.
هذا غيض من فيض مبادئ الرفق بالحيوان في تاريخنا، وتلك أمثلة على ذلك كواقع تطبيقي لرعايته وعدم الإضرار به ومنع الأذى عنه، حتى صار قانونًا بين الناس عدم تحميل الدواب فوق ما تطيق، أو تعذيبها وضربها أثناء السير، أو إيقافها في العراص وعلى ظهورها أحمالها، كما منع السماح لأصحاب الدواب بإلجامها بلجام ثقيل أو نخسها بمقرعة من حديد في أسفلها.
الرفق بالحيوان عنوان حضارتنا
فهل تجد أمة من الأمم بلغت هذا المستوى من الرفق والرحمة بالحيوان في غابر الأزمان غير أمة الإسلام؟ ولعل أرق وأصدق مثال يدلك على سمو تلك الروح لدى حضارتنا أن نجد صحابيًّا جليل القدر كأبي الدرداء الذي كان له بعير فيقول له عند موته: “يا أيها البعير لا تخاصمني إلى ربك، فإني لم أكن أحملك فوق طاقتك”. وأن نجد كذلك في منظومة القتال والحرب في الإسلام، أنه يحرم حرق الزرع وقلع الشجر وعقر الدواب إلا ما كان لحاجة.
بل إن المرء ليحار وهو يسمع للإمام أبي إسحاق الشيرازي الذي كان يمشي في طريقه ومعه بعض أصحابه، فعرض له كلب فزجره صاحبه فنهاه الشيخ قائلاً له: أما علمت أن الطريق مشترك بيننا وبينه؟
وإن تستغرب، فالغرابة كلها في أن تجد صحابيًّا جليلاً وهو عدي بن حاتم الذي تعود أن يفت الخبز للنمل ويقول: إنهن جارات لنا ولهن علينا حق.
وتتويجًا لأخلاق الرحمة والرفق بالحيوان، انتشرت في بقاع العالم الإسلامي أوقاف تخص الحيوان وتهتم برعايته وتطبيبه، كما وجدت أوقاف لرعي من عجز منها وكبرت سنة فسميت “مروجًا خضراء”. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على سبق هذه الأمة إلى الرفق بالحيوان قبل أن تدعو أي أمة لذلك.
ولمن أراد أن يزداد يقينًا، فليصغ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعلن جهارًا نهارًا إلى الإنسانية جمعاء، عن حق من حقوق الحيوان حين قال: “لا تتخذوا ظهور دوابكم كراسي” (رواه الإمام أحمد). فالجلوس طويلاً على ظهر البعير وهو واقف، حرام في دين الله تعالى، لأنه اعتداء على بهيمة تحس لكنها لا تنطق.
كذلك يحرم التلهي بالبهيمة والطير في الصيد عبثًا، مصداقًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: “من قتل عصفورًا عبثًا عج إلى الله يوم القيامة يقول: يا رب إن فلانًا قتلني عبثًا ولم يقتلني منفعة” (رواه النسائي).
إنه دين كله رحمة ورأفة شملت الإنسان والحيوان والجماد وكل شيء. بل إننا نجد مصطلح الرحمة يغطي القرآن الكريم كله باشتقاقاته المتنوعة، إذ لا تكاد صفحة من القرآن الكريم تخلو منه، إن لم يكن لفظًا فدلالة. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن المنظومة الأخلاقية لهذا الدين تقوم على مبدإ الرحمة. يقول الله تعالى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾(الأعراف:156)، ﴿كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾(الأنعام:12)، ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾(الإسراء:82)، ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾(الأنبياء:107)… وغيرها من الآيات كثير.