تتجلى عبقرية المسلمين الفنية في المباني والعمائر المدنية مثل تجليها في المساجد والأبنية الدينية، بل لقد أضفى المسلمون طابع الفخامة على كثير من المنشآت ذات الأغراض المدنية العادية، كالمدارس، والدكاكين، والفنادق، والمارستانات، ومواضع الاستراحة أو الخانات على طول الطرق التجارية، والحمامات، وأسبلة المياه في الشوارع، وحتى مخازن البضائع الكبيرة المعروفة بـ”الوكائل”.
لقد أكسب الفن الإسلامي تلك العمائر -كما يشير “إيتان سوريو” في “الجمالية عبر العصور”- مسحة جمالية مرموقة، تظل أشكالها الجوهرية من أخص خصائصه وأبرز صفاته. وإذا كانت روح الإسلام قد أعطت تلك العمائر فكرًا جماليًّا ذا مسحة روحية، فإن تلك المسحة لم تنزع عنها النكهة الحسية الحية والإثارة للتأمل والتخيل.
ويشير الباحث الفرنسي “أوليج جرابار” إلى أنه ينبغي أن نلتمس أسباب تطور العمارة الإسلامية في عدد من الخصائص الاجتماعية والدينية التي يتميز بها العالم الإسلامي، كالأهمية التي أضفاها الإسلام على العمل إلى جانب الإيمان، مما شجع الناس على القيام بنشاط اجتماعي، وكذلك القوة التي وصلت إليها طبقات المياسير في المدن الإسلامية بما لها من ذوق ومن حاجات خاصة.
كما يؤكد في مكان آخر، على أن القدرة الفريدة لدى المسلمين على تحويل عناصر شكلية أو وظيفية عديدة أخرى إلى شيء إسلامي، مع الاعتراف بأن هذه التوليفات كانت أول أمثلة هذه القدرة الفريدة وأقواها تأثيرًا.
ولا أدل على عبقرية المسلمين في العمارة من قدرتهم على توفير المرونة اللازمة. فبالإضافة إلى المعنى التاريخي لمسجد “الصحن” ذي الأعمدة كانت له دلالة أخرى، ذلك لأن المسلمين عندما ركزوا جهودهم على تنظيم المساحة الداخلية للمسجد بحيث تناسب الحاجات المتغيرة لجماعة في طور التوسع، جعلوا من المسجد منشأة ذات مرونة ظاهرة، وذلك بفضل بساطة تكوينه التي أتاحت إمكانية توسيعه أو تضييقه.
ففي قرطبة -مثلاً- أضيفت ثلاث زيادات إلى الجامع الأصلي. وتوجد هذه الزيادات أيضًا في جوامع الكوفة والبصرة وبغداد والقاهرة. أما المثال الوحيد الذي يمكن إثباته لحالة التضييق بين المباني الكبرى على الأقل، فهو المسجد الأقصى في القدس. ومن الناحية النظرية، تعتبر إمكانية تعديل الشكل بما يتفق وحاجات الجماعة، ظاهرة حديثة بصورة ملحوظة لم تكن معروفة في العمائر السابقة أو المعاصرة.
وفي البلاد الإسلامية التي يميل أهلها إلى المحافظة -كالمغرب الأقصى- نجد البهو ذا الأعمدة، ظل لعدة قرون الشكل المعماري الوحــيد المستعمل في إنشاء المساجد، بينما نجد في الغالب بالنسبة للبلاد التي فتحها المسلمون حديثًا -أو تحولت إلى الإسلام فيما بعدُ مثل الأناضول والهند- أن البهو ذا الأعمدة، كان الصورة الأولى التي بني عليها المسجد، وأن هذه الصورة ترمز -دون شك- لأنقى خصائص الإسلام، ولكنها كانت من البساطة بحيث يمكن فيما بعد تطويعها لأي تقليد معماري.
وفي الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى، نجد منشآت معمارية ذات بوابات ضخمة وذات عقود عالية مدببة. فقد خلف لنا المعماريون المسلمون، بوابات حجرية مثقلة بالزخارف في مساجد سمرقند وطشقند وبخارى وغزنة وأزربيجان، ولجؤوا أحيانًا إلى تزيين الأبواب بإنشاء مآذن عالية على جانبي المدخل أو على أركان جدار المدخل.
وجدران المساجد عالية كأنها الأسوار، تتوسطها الأبواب وتزينها -أحيانًا- فتحات في شكل نوافذ ذات عقود. فإذا دخلت من الباب، وجدت نفسك في صحن واسع شبيه بالفناء، تحيط به البوائك ذوات العقود المدببة. أما مآذن هذا الطراز فغالبها مستدير، ومنها ما هو مضلع ذو ستة أضلاع، وأحيانًا يتفنن المعماري في التضليع، ولا يكون للمئذنة في معظم الأحيان إلا شرفة أذان واحدة في نهايتها.
المئذنة في العمارة الإسلامية
وتعتبر المئذنة من عناصر الإبهار في العمارة الإسلامية، وذلك في جمال نسبها المعمارية ورشاقة تكوينها، بالإضافة إلى أن أشكال المآذن قد تعددت وتباينت واختلفت مواد البناء فيها باختلاف موطنها؛ ففي بلاد الشام نشأت الفكرة، واحتفظ المغرب والأندلس بصورتها الأولى المربعة، وفي مصر اتخذت طابعًا جديدًا في عصر دولة المماليك قوامه ثلاثة طوابق، ولا يخلو طابق من هذه الطوابق الثلاثة، من الزخارف الهندسية المحفورة على الحجر، من خطوط متعرجة أو دوائر متقاطعة أو نجوم متشابكة، كما يفصل بين الطابق والآخر، شرفة تحملها مقرنصات على شكل خلايا النحل.
واتخذت المآذن في العراق النظام اللولبي أو المخروطي الذي تدور حوله مراق حلزونية. وفي إيران والهند اتخذت المآذن أشكالاً أسطوانية تضيق أقطارها كلما ارتفعت إلى أعلى، كمئذنة قطب منار بدهلي ومئذنة ضريح تاج محل في “أجرا”.
أعطت هذه المآذن -كما عند محمد عبد السلام العمري- صفة فاحصة لهذه المساجد الإسلامية بجمال وشكل وسحر، وهي ترتفع كالسهم “المسلة الفرعونية” في الفضاء السماوي الرباني خلفها، كأنها أذرع ممتدة إلى الله سبحانه وتعالى تطلب المزيد من الرحمة.
ويكاد تصميم المئذنة المعماري، أن يكون نحتًا أخضعت فيه التقنية الإنشائية للتعبير الفني المعماري الذي يهدف إلى الصعود والتسامي، فلم يأبه المعماري المسلم بالمصاعب الإنشائية العويصة التي صادفته في سبيل تحقيق فكرته الفنية التعبيرية، فقد ذلل له الإيمان المصاعب وحقق المعجزات.
القصور في العمارة الإسلامية
اتسمت المنشآت المعمارية الإسلامية بالضخامة، معبّرة عن طابع الحياة الحربية الخشنة، وخير مثال على ذلك، عمائر مدينة “سامرا” التي اتخذت نمطًا خاصًّا تأثرت به المدن العسكرية في العالم الإسلامي، خصوصًا في مصر والشام. كذا مدن الثغور على الحدود مع بيزنطة، وفي الأندلس في المناطق المتاخمة للمالك النصرانية، حيث خصت بالأسوار العتيدة والأبراج والمزاغل، خصوصًا في مدن المغرب.
وقد كان معاوية بن أبي سفيان، أول من أنشأ في دمشق قصرًا منذ أن كان واليًا على الشام، واستمر قصر معاوية يتوارثه الخلفاء الأمويون…
تقوم القصور الأموية، وفق مخطط متشابه وشكل معماري موحد، على مبدإ السور المحيط والصحن الداخلي الذي تشرف عليه أروقة، بعضها غرف في طابق أو طابقين، ويأخذ السور الخارجي طابعًا حصينًا بعيدًا عن الفتحات والزخارف. ومع ذلك فإن الأبراج لم تكن ضرورية لوظيفة الدفاع والتحصن، إذ البادية كانت آمنة دائمًا، بل إن سكانها كانوا موالين وأنصارًا للأمويين، ومن الممكن أن تكون الأبراج لتدعيم الأسوار من جهة، ولإظهار البناء بمظهر المنعة والقوة.
وسوف تكون الغلبة للطابع العسكري بعد ذلك على قصور الخلفاء والأمراء، كما هو حال قصر “بلكوارا” الذي أقامه الخليفة المتوكل قرب سامرا، والذي تأثر في تصميماته بإيوان كسرى.
هذا وقد اختلفت الآراء في تحديد مصادر استيحاء الشكل المعماري للقصور الأموية، فمن قائل إنها قريبة الشبه بالطراز الهلينستي والبيزنطي الذي تجلى في دير الكهف وقلعة عنتر والأندرين، أو الطراز الساساني، أو إنها مستمدة من المنشآت التي أقامها العرب الأوائل في الحيرة وهم المناذرة الذين أقاموا الخورنق والسدير.
ومن هنا ففن العمارة الأموي، هو فن أصيل نشأ في غالب الأحيان ووفق الظروف المناخية القاسية وبالمواد المتاحة المنسجمة مع هذه الظروف والتقاليد، واستعار متفننًا في عمارته بما انتقاه من تقاليد زخرفية ومعمارية شائعة، رومانية أو ساسانية أو بيزنطية.
ويجب أن نلاحظ أن الخلفاء الذين جاؤوا بعد الوليد، لم يقيموا في دمشق بصفة متواصلة، بل أقاموا في قصور تقع على تخوم البادية قريبًا من الأراضي الزراعية، لعدم ألفتهم التامة لحياة المدينة، ولتوالي الأوبئة والأمراض على دمشق. وكذلك لقربهم من القبائل العربية التي تسكن البادية، والتي يسعى الخلفاء يومئذ للاحتفاظ بولائها. فضلاً عن أن هذه البوادي كانت مدرسة للأمراء الأمويين، يتكلمون العربية الخالصة من الهجنة أو الرطانة الآرامية كما يقول ابن عبد ربه في “العقد الفريد”.
لذلك فإن المنشآت الأموية في البادية، والتي يطـلـق عليها اســـم “البوادي”، لم تكن على مستوى واحد من الاكتمال. فلقد ابتدأت -حسب رأي لامنس- على شكل سرادق، ثم تطورت فأصبحت تضم حمامًا ومسجدًا، ثم لا تلبث أحيانًا أن تتوسع لكي تضم قصرًا يليق بالخليفة، ويستتبع ذلك استغلال الماء في الاستحمام والزراعة، وإنشاء الأقنية، وإقامة المنشآت للمزارعين والحيوانات، كما هو الأمر في قصر الحير الغربي.
ولا ننسى أن المهرة من الفنانين العرب المسلمين، قد بلغوا الغاية في التفنن وفي التعقيد الزخرفي في مزج المنظر الطبيعي بالبناء، وإحداث تأثير جمالي يحرك المشاعر ويهز النفوس؛ فدار الزينة كان قصرًا ريفيًّا لبني عباد، يشتمل بالأشجار، وتكتنفه الأزهار، وتحيط به البساتين النضرة ذات الزهور العطرة والألوان الزاهية.
رعاية الفنون في مسيرة الفن الإسلامي
ويجب أن لا ننسى دور المهتمين برعاية الفنون الإسلامية في تقدم وازدهار هذه الفنون، خاصة وأنهم قد وفروا إمكانيات العمل، منها الأموال على شكل رواتب، أو أدوات الرسم والنقش، أو ألوان وأوراق، أو توفير المكان المناسب… وقد وصلَنا العديد من الإشارات التاريخية حول دور رعاية الفنون في مسيرة الفن الإسلامي، وخاصة الحكام والسلاطين والوزراء والأمراء، الذين حكموا الدولة الإسلامية في عصروها المختلفة.
ولا شك أن اهتمام حكام الدولة الأموية بالخروج إلى الصحراء، أدى إلى فكرة إنشاء الاستراحات والقصور الصحراوية، وأن مجموعة هذه الأبنية كانت تخضع لعدد من الأفكار التي فرضها الرعاة القائمون على تنفيذ العمليات الفنية. فجاءت هذه الأبنية تعكس ذوق رعاة الفن، بالإضافة إلى كونها تؤدي وظيفة محددة. من هنا نلاحظ أن ذوق رعاة الفن، كان يظهر من خلال توجيهاته للفنان أثناء أداء واجبات العمل الفني أو قبل قيامه به. فلولا حرص هؤلاء الرعاة ورغبتهم في البناء، لما وجدت هذه المباني وبهذا الشكل الذي وجدت عليه، إضافة لتأثير العقيدة الدينية التي كان يعتنقها هؤلاء في تغييب العناصر الفنية التي ميزت أعمال الفنان في العصور السابقة على الإسلام. وقد حاول الفنان أن يتخلص من الرموز العالقة بفنه، التي لها علاقة بمعتقدات دينية أو فكرية غير ما يعـتقـده راعي الفـن الجديد؛ نضرب أمثلة على ذلك بمنتجات الخزف ذي البريق المعدني، وكذلك المنسوجات الإسلامية التي كانت تحوي قبل الإسلام رموزًا دينية ما لبثت أن اختفت بعد الإسلام.
ولقد أقام عبد الملك بن مروان عام (72هـ/669م) قبة الصخرة المقدسة، ورصد لبنائها خراج مصر لسبع سنين. وتعتبر “قبة الصخرة” عند معظم مؤرخي الفنون، أعظم العمائر الإسلامية في الجمال والفخامة وإبداع الزخرفة، كما تمتاز عنها ببساطة التصميم وتناسق الأجزاء. وقد روعي في تصميمها أن يكون ملائمًا ليحيط بالصخرة المقدسة في الحرم الشريف، وهي تتكون من مبنى حجري مثمن الشكل، قوامه تثمينة خارجية، وبداخلها تثمينة داخلية، وبين التثمينة الداخلية والدائرة المقام عليها القبة، رواق، وقد خصصت هذه الأروقة للصلاة ولمرور الناس حول الصخرة.
ومن آيات الإعجاز المعماري في تصميم بناء قبة الصخرة، أنه روعي فيه أن يكون في دائرة دعامات القبة لفت بسيط، حتى لا تحجب الأعمدةُ الواقفة أمام الرائي الأعمدةَ الأخرى المقابلة في الطرف الآخر. ولذلك يتسنى لمن يدخل في أي باب من أبوابها، أن يرى جميع ما بها من الأعمدة والأكتاف، سواء فيها ما كان أمامه تمامًا، أو ما كان في الجهة المقابلة.
المدارس والخانات في العمارة الإسلامية
أما المدارس كمنشآت معمارية، فلم تنتشر في بلاد الشام إلا منذ النصف الثاني للقرن الحادي عشر، وإن ما بقي منها إنما يرجع إلى عهد السلاجقة أنفسهم، وخاصة المدرسة النظامية التي أنشأها نظام الملك في بغداد، التي تكاد تكون أشبه بالجامعة، وتخضع لنظام معماري مختلف عما ظهر في دمشق. إن ترتيب المدارس الشامية على اختلاف أشكالها يبقي متقاربًا، فهي مؤلفة من قاعات للتدريس وحجرات للأساتذة والطلاب، ومن مصلى وميضآت، وقد تتضمن مدفنًا مقببًا لمنشئ المدرسة، كما تتضمن إيوانًا لممارسة التدريس في الهواء الطلق أيام الصيف.
ولقد ظهرت في بلاد الشام وفي العهد المملوكي -ولأول مرة- نظام المدارس المصلبة، وذلك بانفتاح أربعة أواوين على صحن المدرسة الداخلي، لتسهيل تدريس الفقه حسب المذاهب الأربعة. ولقد انتشر هذا الشكل المصلب فيما بعد، في المدارس المصرية التي كانت تستعمل من قبلُ كمساكنَ خاصة، وكثيرًا ما كانت تحوّل إلى مدارس.
ولعل أقدم خان أنشئ في العهد الإسلامي، هو الخان الذي بناه هشام بن عبد الملك عام 728م على مقربة من قصر الحير الغربي، ولم يبق من هذا الخان إلا بوابته الحجرية الضخمة التي أعيد بناؤها في متحف دمشق، وقد نقش على ساكفها (Architrave) كتابة بالخط الكوفي تبين اسم المعمار “ثابت بن أبي ثابت”. وتاريخ الإنشاء، رجب تسع مائة. وليس بإمكاننا تحديد الوصف المعماري لهذا الخان، ولكن الخانات الشامية تجد أشكالها المطابقة واضحة في الأندلس، حيث نراها مجرد فنادق مؤلفة من نزل وسوق وصحن محاط بالأروقة، وتنفتح تحت الأروقة غرف، ومدخل الفندق مفتوح في وسط أحد الجهات بباب عريض. وثمة بوابة ذات قوس كبير ودهليز يسبق المدخل، ومن أمثلة هذه الفنادق، فندق التطوانيين في فاس، وفندق مخزن الفحم في غرناطة.
(*) رئيس قسم الفلسفة والاجتماع، كلية التربية، جامعة عين شمس / مصر.