يعيش الفرد المسلم المعاصر بين ضغوط مفارقتين كبيرتين؛ قرآن منزل يحتوي على أسرار العظمة الربانية وتوجيهاتها الفريدة وما أناطته بالمسلم من تكاليف تتعدى الشأن الفردي، وتنقل هذا الإنسان لمهمة كونية كبرى هي هداية الإنسانية الحائرة: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾(يوسف:108). فأتباع الرسول صلى الله عليه وسلم محملون بمهمة كبرى، على خطاه يسيرون، ومع هذه المهمة تاريخ من الإنجازات الحضارية الكبرى، حيث افتتحت العصور البشرية الجديدة للإنسانية قاطبة، بإبداع المنهج التجريبي الذي أتم الحلقتين الكبيرتين السابقتين للبشرية؛ حلقة المنهج العملي (في الحضارات ما قبل اليونانية)، والمنهج التجريدي النظري الذي أبدعته الحضارة اليونانية. وهكذا تكامل للبشرية المنهج العملي، والمنهج النظري، والمنهج التجريبي، الذي قامت عليه الحضارة الإنسانية المعاصرة، وبين حاضر تبدو فيه الأمة خارج السباق الحضاري علمًا وعملاً، أرضها وسماؤها وبشرها مكشوفون أمام العالم.
ومن هنا ولد باستمرار سؤال المرحلة في صيغه المختلفة وبعناوينه المختلفة: النهضة، اليقظة، الصحوة، التقدم، البعث، الشهود الحضاري… مفردات كثيرة جوهرها وباعثها واحد هو غياب الأمة عن المشهد الكوني المعاصر وانطلاق أمم الأرض. فبعد الأوروبيين واليابانيين، برزت النمور الآسيوية والصين والهند ثم إيران وتركيا… وفي قلب المنطقة ولدت دولة اليهود المكوّنة من خمسة ملايين من الأفراد، والتي ألجمت أمة يبلغ تعدادها المليار ونيف… عصر لم يعد فيه العدد هو سيد الموقف، بل المعرفة والنوع والاستعداد للتدافع الحضاري بكل أشكاله… حالة جديدة طرحت نفسها -ولا زالت- على العقل المسلم وعلى الواقع المسلم ونحن في رحلة البحث عن الإجابات.
مقاربة المفاهيم
حين نقترب من عنوان المقال، سنجد أنفسنا أمام فكرة الوعي، وفكرة الحضارة، وفكرة الفاعلية، وفكرة التمكين وفكرة الشهود… ونحتاج أن نقترب من هذه المفاهيم المشتبكة شيئًا ما، حتى يمكننا أن نتحدث عن موضوعنا بشيء من الوضوح.
1- الوعي
حين نتحدث عن الوعي نجد أنفسنا أمام كلمة الإدراك، والإدراك هنا -وفي هذا السياق- سنستعمله لعدد من الأبعاد؛ إدراك الذات وممكناتها، وإدراك الآخر وممكناته، وإدراك الزمان والمكان. وبالتالي نحن نبحث عن وعي عام، يسمح لنا باتخاذ القرارات في موضوع صناعة الحضارة، أو استعادة الدورة الحضارية للأمة في ضوء معرفتها بقدراتها وبقدرات الآخر، وبالزمان والمكان الذي تتم فيه عملية التدافع الحضاري.
إن ما نبحث عنه بهذا المعنى، حالة من الرشد تصاحب الروح والحماس، معادلة تقوم على أولي الأيدي والأبصار. وهنا يطرح السؤال نفسه، ما هي المعارف الضرورية لخلق حالة الوعي؟ وكم حجم ما يلزم منها؟ وكيف ستصل للمستهدفين بالوعي؟ الأمر الذي يخلق طيفًا واسعًا من الإجابات، وسنجد مقاربة واسعة للموضوع في المناهج المدرسية، حيث تسعى هذه المناهج لطرح الإسلام وتنوير الجيل ونقله ليكوّن المجتمعات الجديدة… فلماذا لم يتم التنوير رغم أن نسبة التعليم في المنطقة العربية تصل في المتوسط 55%، وفي بعض البلاد تصل 80% من الكتلة الجماهيرية!؟ فما هي الحلقة المفقودة؟.
ما الذي عطل حركة الوعي رغم كل هذا الضجيج حولها!؟ هل هو غياب المادة المعرفية؟ أو افتقاد المهارة، أو نقصان الكثافة، أو غياب التطبيق، أو عدم الوصول للشريحة الفاعلة، أو افتقاد محاولة الانتقال من التنظير للتطبيق بما يخلقه ذلك من تحد عملي؟
إن فكرة الوعي تتركنا حول أسئلة عملية، مثل الوعي بماذا؟ والوعي لمن؟ وأسئلة الكيفيات كاملة، وأسئلة المؤشرات على حدوث الوعي، وهي جميعًا تشكل حلقة الوصل بين النظري والعملي.
2- الحضارة
كلمة الحضارة ومنها كلمة الحضاري الواردة في عنوان المقال بإضافة ياء النسبة، مصطلح في التداول المعرفي يستخدم بثلاثة معاني، أولها: استخدامه للتعبير عن انتقال مجتمع ما من الطور البسيط إلى الطور المركب، فمن حياة الصياد البدائي أو الراعي المتنقل لطلب الكَلأ والماء للسكنى -مثلاً- حول الأنهار والاستقرار، ونشوء المجتمعات المركبة التي تظهر فيها آثار الاستقرار والتوسع في النظم، وبروز الظاهرة السياسية والاقتصادية والدينية والقانونية والكتابة والعلوم المعمارية والفلك والطب، ونظم المعمار المختلفة، وبروز الصناعات وشق الطرق وبناء الكباري والجسور… كل ذلك يعبَّر عنه بالانتقال من البسيط للمركب، وهو المعنى الأول في تداول كلمة حضارة في الحقل المعرفي. أما الاستخدام الثاني: فهو استخدام كلمة حضارة بالتبادل مع كلمة ثقافة، بمعنى ما يميز مجتمعًا ما من ظهور أنماط الفنون والملابس وأنماط الحياة والمعتقدات والقيم والمنتجات التي تعطي كل شكل اجتماعي خصوصيته وهويته. أما الاستخدام الثالث: فهو استخدام عنصري للمقارنة بين المجتمعات غير المتحضرة أو البدائية. ويركز بعض الباحثين في تقويم الحضارات على الجانب القيمي فيها، ويفضل آخرون تقويم الجانب القيمي والمادي في الحضارة.
أما حين نتكلم عن الوعي الحضاري فنحن نتكلم عن الإدراك المكافئ لمشروع إعادة إنتاج حضارتنا، أو استعادة الدورة الحضارية لمجتمعاتنا. وفي هذا السياق، تبرز الحاجة لمعرفة المنافس الحضاري أين وصل في تقدمه الفكري والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والتقني والزراعي والقيمي؟ وأن ننظر في مخزوننا الحضاري أين توقف في هذه المسارات!؟ فبمعنى من المعاني، كل حضارة تنظر لنفسها من خلال النظر في مرآة الآخر الحضاري بصورة أو بأخرى، ليس لتتماهى معه، ولكن لتنظر في أمر الفجوة التي يراد سدها، وتضع إستراتجية التحرك الحضاري المناسب. بمعنى آخر، الوعي الحضاري يطرح أسئلة قراءة الواقع والتخطيط له إستراتيجيًّا وتكتيكيًّا وهي المنطقة الأكثر صعوبة بعد التحليل والتنوير. وفي هذا السياق، بدت كلمات مثل الفاعلية والتمكين والشهود، كمراحل تقطعها الإستراتيجية للوصول إلى المطلوب النهائي فلنقترب منها.
3- الفاعلية
الفاعلية هي بمعنى من المعاني، مقاربة النشاط المنتج من خلال الجهد البشري، والمنتج هنا تعني المنتج للحضارة. فهناك في جانب، مطلب كلي هو إنشاء الحضارة واستعادة دور الأمة في الحضور على مسرح الفعل الإنساني لا مجرد الوجود الفيزيائي. هي الإسهام المفيد للذات وللبشرية والذي يعطي مبررًا للوجود.
فهو من جانب، مطلب إنساني، ومن جانب آخر، هو مطلب رباني، باعتبار خصوصية الأمة الإسلامية ودورها المناط بها في الكون من خلال خاتم الرسالات السماوية.
والسؤال العملي: كيف نطلق ممكنات الإنسان المسلم حتى يمارس دوره في صناعة الحضارة؟ وأين تكمن معوقات هذه الفاعلية؟
فسؤال المعوقات، وسؤال كيفية تجاوزها، ومن سيقوم بحل لغزها، هل تكمن أسرار عدم الفاعلية في عدم معرفة الحاجة للفاعلية؟ أم تكمن في اليأس من إمكانية الفعل؟ أم تكمن في نوعية الغذاء الفكري المتداول؟ أم تكمن في صعوبة الواقع المعاش؟ أم في القيود التي تفرضها الأوضاع السياسية والاجتماعية على الفعل؟.. في كل الأحوال نحتاج أن نكتشف موضوع الفاعلية، وكيف سرت في مجتمعات كانت تعيش ظروفًا قريبة من مجتمعاتنا. فما الذي أخرج الجزيرة من ركودها في عصر الرسالة؟! وما الذي أخرج أوروبا من ركودها الذي استمر ألف سنة؟! وما الذي أخرج الصين والهند من ركودهما؟! هل هو مسار واحد أم مسارات متعددة؟! وما سر فاعلية الإنسان وانطلاقته؟ إننا حين نتحول من التحليل اللغوي للفظ الفاعلية للأسئلة العملية المتعلقة بالفاعلية، نضع أيدينا على أسرار كثيرة تعيننا في مقاربة موضوع الفاعلية. ويمكن النظر إلى الموضوع من زاويتين، الأولى: زاوية لانطلاقة المشروع في غيبة المشروع المركزي للدولة. والثاني: انطلاقة المشروع من خلال الدولة وهما المساران المحتملان للحراك، ونحتاج أن ننظر فيهما لمقاربة الموضوع من زاويته العملية. ولكن سنقف عند الأول منهما، لأنه جوهر السؤال المطروح لحين تبني الدولة المعاصرة العربية مشروعًا لاستعادة الفاعلية الحضارية.
مشروع التحولات التي يقودها الأبطال المنفردون
حين ندرس المسارات الطويلة التي قطعتها الحضارات في غياب التخطيط المركزي طويل الأمد، نرصد جهودًا نوعية ومفصلية أثمرت الصورة الكلية للإنجازات العظمى، وهي تسير عبر تراكم نقاط مضيئة في فضائها، ومن مجموعها تشكل الحالة الكلية للحضارة. فلو أخذنا نموذج الحضارة الإسلامية -ابتداءً- لوجدنا أنفسنا أمام تراكم يسير في مسارات متعددة، فهناك تراكم علمي معرفي، وهناك تراكم سياسي، وهناك تراكم عسكري، وهكذا… وللنظر للتراكم العلمي من فترة الوحي والبذور الحية، لفترة جمع القرآن، لفترة حصره في مصحف عثمان، لفترة تقنين اللغة العربية، لفترة تقنين الفقه وأصوله، لفترة جمع الحديث وعلومه، لفترة الترجمة، لفترة إنتاج المنهج العلمي… لن نجد خطة مركزية انطلقت منها كل هذه الجهود، بل إبداعات أفراد قادت لصناعة الصورة النهائية… ولو نظرنا للحضارة الغربية، لوجدنا من القرن العاشر الميلادي بدأت نذر تحولات في أوروبا آتت ثمارها في القرن الثاني عشر، بإنشاء الجامعات التي تعلم علومًا غير علوم اللاهوت. ثم ظهرت مسارات متعددة للتطور لو تابعنا منها المسار العلمي، فمن صرخة “روجر بيكون” في القرن الثالث عشر، حتى إبداع المطبعة في القرن الخامس عشر، حتى صرخة “كوبرينكس” وهزه لخيمة القرون الوسطى، لصرخة “جاليليو” بمنظاره التي كسرت عمود الخيمة التي تقوم بها القرون الوسطى بأنه لا علم إلا في الكتاب المقدس، ثم يعطي “ديكارت” صك الوفاة للقرون الوسطى، ثم تتوالى الإبداعات حتى تصنع الحداثة الغربية وعصر الصناعة وما تلاه… مسار طويل ليس له خطة مركزية تضافرت فيه طفرات أحدثها المبدعون في كل مسار أنتجت الصورة التي نشاهدها اليوم.
باختصار، هو مسار غير مخطط على المدى الطويل، نقطة الانطلاق فيه هي المبدعون الذين يستجيبون لصوت اللحظة، ومع كل فكرة جديدة يتولد شعاع من النور يكون الفجر القادم.
مشروع التحولات التي تقودها الدولة
وهناك مسار قصير تخطط له الدولة مركزيًّا، وتنحته نحتًا مثل التجربة الصينية والهندية والإيرانية والماليزية، وهو مسار تحرق فيه المراحل، يعتمد على وجود رؤية محددة لدى القيادة في دخول السباق الحضاري، ودافع نفسي كبير لحدوث التحولات الكبرى.
وهنا يبرز السؤال الكبير، كيف تتحرر ممكنات البعض في بيئات لا يوجد فيها دور مركزي تخطيطي للدولة، ويساهمون في صنع الحضارة؟ والتمهيد لبروز مسار الدولة الموعود… لو استطعنا أن نجيب على هذا السؤال، لتجاوزنا عنق الزجاجة في المعضل المطروح على العقل العربي اليوم.
فالعقل العربي اليوم، يطرح معادلته كالتالي: كلنا نريد النهضة، ولا يعجبنا ما هو قائم، والنهضة تحتاج لمشروع دولة، والدولة غير مستجيبة لمطلب الانطلاق، فإلى أن تستجيب لا حيلة لنا!
وهو غير مدرك بأن مسار النهضة -ليس بالضرورة- يمر عبر بوابة التخطيط المركزي للدولة، فقد عبرت النهضة من بوابات أخرى كما رأينا في الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية. وهنا يطرح العقل سؤاله التالي: أليس هذا مسارًا طويلاً لا قبل لنا به… فمن سينتظر كل هذه القرون؟
وهو سؤال مشروع يغيب عنه ممكنات اللحظة التاريخية…لقد حدث في عصرنا ما يسمى بتسارع التاريخ. فالأحداث الكبرى لم تعد تحتاج لقرون، والتخطيط الذي لا تقوده الدولة قد يثمر ثمارًا كبيرة بما توفره التقنية اليوم من أدوات التواصل والتأثير. لقد أصبح للفرد أثر كبير في التحولات بسبب التقنية وأدوات الاتصال، فربما شخص واحد مثل “بيل جيتس” في عصرنا، له من التأثير على واقعنا ما يتعدى دور أكبر الحكومات اليوم. فهناك زلزال معرفي عملاق يتدفق في فضاء العالم اليوم، تستطيع فيه فئة قليلة واعية أن تصنع تحولات معرفية كبرى في مسار الوعي الحضاري، حتى في غياب مشروع للتخطيط المركزي.
4- التمكين
ومصطلح التمكين، مصطلح يعني زيادة القوة للفرد والمجتمع والدولة، بشكل ينعكس على قدرة الفعل وعلى ديمومة الفعل… وقوة المجتمعات اليوم تتمركز في قدراتها العقلية ومعارفها، وتنعكس على اقتصادها وصناعتها وزراعتها وخدماتها وقدراتها الدفاعية ومعنوياتها… والتمكين عملية مستمرة من زيادة القوة، وكلما زادت القوة زادت الثقة في الذات، وزادت القدرة على استمرارية الفعل.
5- الشهود
والشهود في المعنى الذي ننحته هنا، هو الحضور المعياري الفاعل، هو مكانة الأستاذية الحضارية، هو واقع الأمة حين تنحت لنفسها مكانًا بين الأمم. ورغم أن التفاسير المتداولة تنحى منحى أخرويًّا في تعريف الشهود، فهو حدث متعلق بيوم القيامة في ما هو متداول… إلا أن السقف القرآني أعلى من ذلك بكثير، هو يحتمل المعنى الدنيوي والأخروي، هي حالة مكتسبة ناتجة عن جهد كبير لتكون الأمة معيارًا لبقية الأمم، وشاهدًا على مخالفتها للمعايير الكبرى للمطالب الربانية السامية، والشاهد حاضر للوقائع عالمٌ بها، فهو لا يشهد إلا على ما علم.