تُعرَض للمجددين من علماء المسلمين قضيتان الأولى: هي التزامنا الأدبي والأخلاقي بعد أو قبل التزامنا الديني أمام الله عز وجل، بأننا ورثة لهذا التراث الطيب الذي قام به أئمتنا وعلماؤنا عبر التاريخ من لدن الصحابة الكرام وإلى يومنا هذا. وهذا التراث والنتاج الفكري عاش عصره، وأدى كل إمام واجب وقته. ولا ينبغي إطلاقًا إذا ما رأينا اختلافًا في المسائل التي نعيشها أن نتهمهم بالقصور أو التخلف، أو مثل هذه الدعاوى التي تخالف الواقع والحقيقة.
فهم أدركوا واقعهم إدراكًا دقيقًا، وساروا في المنهج العلمي الذي يتلخص عندهم كما تقرر في تعريف مدرسة الرازي لأصول الفقه بأنه أولا: إدراك مصادر البحث، ثانيًا: كيفية طرق البحث، ثالثًا: شروط الباحث، وهي الثلاثة التي أشار إليها “روجرز بيكون” بعد ذلك. فإن أصحاب الرازي يعرفون أصول الفقه بأنه: “معرفة دلائل الفقه إجمالاً، وكيفية الاستفادة، وحال المستفيد”، هذا كلام البيضاوي في “المنهاج” والرازي في “المحصول”.
فهذا هو المنهج الذي ينبغي علينا أن نسير عليه كما سار أسلافنا، ونقوم بواجب وقتنا كما قاموا بواجب وقتهم. فيجب علينا أن نتعلم منهم كيف كانوا يفكرون، وكيف تعاملوا مع هذه المصادر، وما الضوابط والخطوط والأطر التي لا يمكن أن نتعداها، وما المجالات التي يمكن فيها الخلاف… وفي نفس الوقت لا نجمد على مسائل عصرهم التي ارتبطت بواقعهم، والتي لا تنسجم مع واقعنا بسبب الثورة الهائلة في الاتصالات والمواصلات والتقنيات الحديثة، وخاصة بعد نشوء الشخصية الاعتبارية واستقرارها بهذا الشكل، وبعد وجود هذه الشركات عابرة القارات، وهذه الطرق السريعة والحديثة في التمويل عبر البنوك… كل تلك الأشياء تسببت في تغير الواقع المعيش تمامًا عما كان، مما يحتم علينا إدراك هذا الواقع الجديد، والتعامل معه بمنهج السلف الصالح؛ حتى نصل إلى المقاصد الشرعية التي ينبغي أن نصل إليها.
إذا انطلقنا من العلم الموروث -وهو أصول الفقه- نجد أن الأساس فيه، هو إدراك النص وتحديد الحجة. فالحجة هي الكتاب والسنة، ولا يمكن التعامل مع الحجة، إلا من خلال علوم التوثيق الخاصة بهذين الأصلين “الكتاب والسنة”. وعلم أصول الفقه، يجيب عن أسئلة مهمة خاصة بتوثيق تلك الحجة مثل: ما الفرق بين القراءة المتواترة والشاذة؟ وما الفرق بين الحديث الصحيح والضعيف؟ ما الذي يكون محل قطع؟ ما الذي يكون محل ظن؟
فعلم أصول الفقه -بعد هذا التوضيح- هو الأساس لفهم النص الذي هو مصدر البحث، وهو تحصيل حكم الله في أعمال البشر. ولكن هناك واقع معيشي بعوامل متشابكة له سمات: عالم الأشخاص، والأشياء، والأحداث، والأفكار. هذه العوالم الأربعة متصفة بالتطور والتركيب والتعقد والتغير والتجاوز والنسبية والتقاطع في نحو ثلاثين صفة لهذا العصر.
ينبغي على المجتهد أن يكون عنده القدرة على النظر في النص وطريقة فهمه، وفي الواقع وطريقة فهمه، ثم عليه أمر ثالث وهو كيفية الوصل بينهما؛ كيف يغير هذا الواقع بمؤسسات وبأفكار وبعقود تتواءم مع هذه الأحكام التي قد حصلها من النص. هذا الواقع يدفع العالم أن يبدع ولا يبتدع، فيبدع بمعنى أن ينشئ ما لم يكن قد نشأ من قبل، ولا يبتدع بمعنى ألا يخرج عن مقتضيات ذلك النص الكريم الشريف وهو الوحي؛ إذ إن هذا يحتاج منا أن نعرف أن مصادر معرفتنا هي: الوحي والكون معًا، وأن الوحي هو كتاب الله المسطور، والكون هو كتاب الله المنظور، وكلاهما قد صدر عن الله تعالى، هذا عالم الخلق وهو الكون، وذلك عالم الأمر وهو الوحي. ولذلك لا تناقض بينهما، فهما مصدران من مصادر المعرفة لدى المسلم، وقد أشار الكتاب العزيز إلى هذين المصدرين فقال تعالى: ﴿ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾(الأعراف:54).
أما القضية الثانية فهي أننا متمسكون بالحفاظ على هويتنا، ولا نريد محو ثقافتنا وتراثنا، فنستعمل أصول الفقه لفهم النص المقدس، ونستعمل عقولنا بأدوات شتى قد لا تكون معنا الآن لإدراك واقعنا… فإن عناصر النموذج المعرفي الإسلامي، تختلف وتتقاطع مع بعض الأديان والمذاهب الأخلاقية، هذا الذي ينحي قضية الألوهية -ولا أقول ينكرها- وينحي قضية الغائية، وينحي قضية الإطلاق ويقول بالنسبية، وينحى قضية الآخرة ويعيش للدنيا فقط، مما يترتب عليه اختلاف في النظام والتحليل والسلوك اختلافًا تامًّا عن النموذج المعرفي الإسلامي. فالمسلم عندما يكون متشبعًا بهذا النموذج المعرفي، يكون صاحب قضية، يلتزم بالعمل من أجلها أمام الله ثم أمام الناس.
فكان ينبغي أن تكون أداتنا لفهم الواقع مختلفة، ولكن جامعاتنا تدرس العلوم الاجتماعية والإنسانية على نفس النموذج المعرفي الغربي وليس على النموذج المعرفي الإسلامي؛ لأن إدخال هذا النموذج إلى حيز التدريس في الجامعات، يحتاج إلى ما يمكن أن نسميه بالصناعات الفكرية الثقيلة، التي تحتاج إلى بناء أسس هذه العلوم بناءً مؤسسًا على الواقع، وإدراكه بصورة قوية صناعية كأصول الفقه الذي وضعه علماؤنا، وتوَّجه الشافعي بـ”الرسالة” ثم بعد ذلك توجه بهذا التراث الضخم.
ونحن في عصرنا هذا نفتقد هذه الأداة، فإن أصول الفقه يوفر للمجتهد ما يحتاجه لفهم النص، ولكن ليس هناك ما يوفر فهم الواقع، فغياب هذه الأداة، يفسر لنا كثيرًا من أسباب اختلاف العلماء في المجامع الفقهية، وإنكار بعضهم على بعض، فمدى إدراك الواقع هو أساس اختلاف الفتوى في العصر الحديث.
إن واجب وقتنا هو بناء أداة لإدراك الواقع، وبتأمل الواقع نجد سمات أساسية واضحة تصل إلى ثلاثين سمة منها: التجاوز، والجوار، والنسبية، والتغير، والتركب، والتقاطع، والتطور… إلخ، وهذه السمات منها السلبي، ومنها الإيجابي. فينبغي أن ندرك المساحة السلبية في تلك السمات، حتى نتمكن من تنحيتها بقدر الإمكان، أو تفاديها، وكذلك ندرك المساحة الإيجابية التي يمكن أن نستعملها لتمكين الدين والمنهج الذي أمرنا الله به في حياتنا الدنيا.
كما يجب على المجتهد أثناء الاجتهاد، أن يكون له سقف وخط لا يتعداه، ألا وهو نص الكتاب وصحيح السنة بعد توثيقهما وقبول هذا التوثيق. فلا يمكن أن نقبل الخروج عن القطعي الذي في الكتاب والسنة، ولذلك لابد أن نضيف من ضوابط الاجتهاد الفقهي، الإجماع، فالإجماع ضابط مهم جدًّا، فلا يجوز لنا الخروج عليه بحال من الأحوال.
كذلك ينبغي الاهتمام باللغة العربية التي نزل بها النص، لأن هناك طوائف من الذين ادعوا التجديد قدحوا في دلالات اللغة، ومن هنا يبدأ الخطأ؛ حيث يتسع المجال لكل من شاء أن يقول في دين الله ما شاء. فلا نقبل دعوى التلاعب باللغة، وهي ما يدعو إليها معسكر ما بعد الحداثة، حيث تمثل هذه الدعوى القدح في دلالات اللغة، وليست اللغة العربية وحدها، إنما أي لغة، يريدون جعل وظيفة اللغة مجرد التلقي. واللغة في الحقيقة، الأداة والتلقي، فالاستعمال من صفة المتكلم، والحمل من صفة السامع، والوضع قبلهما، وبذلك فإنهم يسعون إلى تفسير النص الشريف حسب انطباعات المفسر، دون الالتزام بدلالات اللغة. فنستطيع أن نقول: إن النص الشريف، والإجماع، ودلالات اللغة، وهي مع ما يأتي أسقف ينبغي للمجتهد ألا يتعداها.
ينبغي على المجتهد كذلك مراعاة مقاصد التشريع؛ إذ تمثل النظام العام وهي حفظ النفس، والعقل، والدين، وكرامة الإنسان -حسب التسمية المعاصرة وكانت تسمى قديمًا بالعِرض أو النسل- والملك -وهي تسمية معاصرة كذلك والتسمية القديمة المال- وإنما رَتبتُ هذه المقاصد بهذا الترتيب، لأنه ليس مُتفق على ترتيبها بشكل معين، فالشاطبي بدأ بالدين، والزركشي يورد الخلاف في هذا الترتيب، وهذا الترتيب أراه مناسبًا للتفكير وللعصر كذلك. فالإنسان يحافظ على نفسه ثم على عقله ثم يكلَّف فيحافظ على دينه ثم يحافظ على كرامته وملكه. وعلى هذا الترتيب نكون قد جعلناه نظامًا يصلح لغير المسلمين أيضًا، لأنه متفق عليه بين البشر، فليس هناك نظام قانوني يبيح القتل العدوان، أو يبيح السرقة -إلى يومنا هذا- في أي مكان، مما يجعل هذا النظام العام يتسع للتعددية الحضارية التي فعلها المسلمون عندما أبقوا غير المسلمين بكافة طوائفهم.
والمبادئ الدينية التي تبين أنه: ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾(الأنعام:164)، ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى﴾(النجم:399)، ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ﴾(الشورى:40)، وهو ما يسمى بفورية القوانين… إلخ، من المبادئ الحاكمة للعقل المسلم، والقواعد الفقهية مثل: الأمور بمقاصدها، والضرر يزال، واليقين لا يرفع بالشك، والعادة محكمة، وكذا المشقة تجلب التيسير.
فبعض هذه القواعد خلاصة الفقه، وهذه القواعد يتفرع منها قواعد أخرى، لابد لنا من إدراك المنهج، ولابد لنا من عملية التجريب التي تسقط المشخصات، وتبقي المعنى لابد لنا من النظر إلى المآل، لابد لنا من النظر إلى المصالح، لابد لنا من إدراك مراتب هذه المقاصد، وأن منها ضرورية وحاجية وتحسينية ودرجات العلاقات البينية بينها، وهو ما لم يتم إلى الآن.
فكتاب المقاصد نجده يتكلم عن المقاصد ومراتبها، ولكن لا يتكلم عن العلاقات البينية، فإن هذا محتاج إلى عمل كثير حتى نستطيع أن نُفعلها، أي نجعلها أداة أو آلة بيننا… إذا حدث هذا فهذه بعض ضوابط الاجتهاد، ولابد أن تكتمل من إدراك النص وإدراك الواقع، ومن الوصل بينهما، لابد أن يكون تحت سقف صريح النص والإجماع واللغة والمقاصد والمصالح والمبادئ والقواعد.
فإذا كان الاجتهاد على هذا الشكل من إدراكه للنص والواقع ومن الوصل بينهما تحت هذه المظلة، فإن اجتهاده اجتهاد صحيح، خاصة في الجانب المالي الذي نحن في أشد الحاجة إليه، لأن العبادات -والحمد لله- ليس هناك فجوات كبيرة فيها، ولا هناك مستحدثات تعكر صفوها أو تعطل مسائلها ومقاصدها وثمرتها بقدر ما حدث في عالم المال.
وبعد ذلك العرض، يتضح لنا مفهوم التجديد الذي نقصده وكيفيته، وهو بإدراك الواقع بعوالمه المختلفة، وربط الواقع بالمصادر مع الالتزام بالحدود الأساسية للمجتهد المسلم.