تُعد النقود الإسلامية من أهم المصادر وأدقها في إعادة كتابة التاريخ، كونها لا تقبل الخطأ، لأنها تصدر من جهة رسمية.
وأهمية النقود تبرز في كونها إحدى أركان الدولة، وشارة من شاراتها، وعنوان مجدها، تتصل باقتصادياتها وتشريعها وسائر أوضاعها وعلاقاتها بالدول المجاورة والمعاصرة لها.
ويعتقد الدارسون أن النقود العربية الإسلامية منذ ظهورها، اقتصر ضربها على التعامل والتبادل التجاري، ولم يتجاوز ذلك الضرب بأيّ حال من الأحوال إلى أغراض أخرى. إلا أن الدراسات العلمية، أثبتت أن للنقود دورًا آخر لا يقل أهمية عن الدور التجاري، ألا وهو الدور الإعلامي، حيث كان هذا النوع من النقود، شبيهًا بالدور الذي تلعبه الصحافة والإذاعة والتلفزيون والمؤتمرات في الوقت الحاضر.
كما تُعد النقود مدرسة للتصوير في مراحلها المختلفة، إذ تعطينا في كل فترة زمنية تصورًا كاملاً لمميزاتها العامة والخاصة لها. وتُعد النقود أيضًا مدرسة للخط العربي وتطوره بأنواعه المختلفة، ومدرسة لدراسة العناصر الزخرفية بأشكالها المختلفة الهندسية والفلكية والنباتية والحيوانية والآدمية… ولا ننسى ما تضم دراسة النقود من كُنى، وألقاب ومُدن، وشعارات تستوعب دراسة كل منها معجمًا خاصًّا بها تسد فراغًا كبيرًا في المكتبة العربية والإسلامية.
الدينار الإسلامي
إذا كان الدينار الذهبي الذي أصدرته الإمبراطورية البيزنطية قد اكتسب تلك المكانة الدولية في صدر العصور الوسطى، فإن الدينار الذهبي الإسلامي الذي أصدره الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان (65-86هـ/685-705م) قد حظي بمكانة عالمية، واكتسب بجدارة احترامًا وقبولاً في أرجاء العالم القديم دون أن ينازعه في ذلك منازع، منذ أوائل القرن الثامن الميلادي (الثاني الهجري) حتى أوائل القرن الثالث عشر الميلادي (السابع الهجري).
إن إلقاء بعض الضوء على قصة “عالمية” الدينار الإسلامي، يشكل موضوعًا مهمًّا وممتعًا. كان سك الخليفة عبد الملك للنقود الإسلامية (الدينار الذهبي والدرهم الفضي) من أهم أحداث التاريخ الإسلامي نظرًا لما ترتب عليه من نتائج بالغة الأهمية اقتصادية وسياسية، محلية وعالمية، بل يمكن القول إن هذا الإنجاز كان إيذانًا بـ”انقلاب” جذري في النظم المالية والاقتصادية التي كانت سائدة في عالم العصور الوسطى.
ولكي ندرك هذا الإنجاز على حقيقته، علينا أن نتعرف بداية على الخريطة النقدية التي كانت سائدة في العالم عشية ظهور الإسلام في مستهل القرن السابع الميلادي. فقد أجمعت المصادر أن الإمبراطورية البيزنطية كانت الدولة الوحيدة التي تصدر العملة الذهبية وهي المعروفة باسم “الصولدي”. والدولة الفارسية كانت تصدر العملة الفضية وهي الدرهم الفضي الفارسي. أما المماليك الجرمانية البربرية التي كانت قد قامت على أنقاض الإمبراطورية الرومانية في الغرب الأوربي منذ القرن الخامس الميلادي، فقد كانت لا تسك إلا عملات فضية.
وقد استخدم عرب الجزيرة في تجارتهم مع الشام وفارس واليمن قبل الإسلام بشكل رئيسي، الدينار البيزنطي والدرهم الفارسي، ولم يكن أمام الدولة الإسلامية الناشئة خيار سوى استخدام النقود المتداولة من بيزنطية وفارسية؛ خدمة لشؤونها المالية والاقتصادية، وحرصًا منها على مصالح الناس عامة، ولا سيما أن الهم الأول للمسلمين في تلك المرحلة، كان نجاح الدعوة الإسلامية وتثبيت أركان الدولة، ونشر الإسلام في الجزيرة وخارجها. ولهذا فإن سك نقد جديد لم يكن مطلبًا مُلحًّا آنذاك، كما أن الشروط اللازمة لنجاح مثل هذا المشروع لم تكن قد توفرت بعدُ.
ولكن على الرغم من ذلك فقد حاول بعض الخلفاء والأمراء المسلمين قبل عبد الملك سك بعض النقود، ولكنها جاءت في معظمها على طراز النقود الفارسية والبيزنطية، ولم يتم تداولها رسميًّا. وعلى أي حال، فقد شكلت هذه المحاولات إرهاصات أولية لظهور النقود الإسلامية.
وقد أشار الكتّاب المسلمون إلى علم النقود أو “علم النميات” (Numismaticc)، ولكن في نُبذ عرضية أو فصول خاصة -فيما عدا “المقريزي” الذي خصص كتيّبًا أسماه “شذور العقود في ذكر النقود”- وأطلقوا على النقود الإسلامية لفظ “السّكة”.
ولما استخلف أبو بكر الصديق رضي الله عنه، عمل بسنة النبي صلى الله عليه وسلم في إقرار التعامل بتلك النقود ذات الصور الآدمية والشارات غير الإسلامية، ولم يغير منها شيئًا. ولكن ما لبث المسلمون في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن أصبحوا سادة فارس وما بين النهرين والشام ومصر، فأبقوا على نقود كانت مألوفة لديهم. ثم ضرب عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعض الدراهم على نقش الكسروية وشكلها، وغيّر في بعضها “الحمد لله” وفي بعضها “لا إله إلا الله”. وكذلك فعل عثمان بن عفان ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما.
تعريب السكة الإسلامية
وتؤكد لنا النقود ما جاء في المصادر التاريخية، أن الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان (65-766هـ) كان أول من عرّب السكة الإسلامية تعريبًا كاملاً حين بدأ بتعريب الدواوين؛ حيث وجد أن من ضرورات الاستقرار السياسي والاقتصادي، إضفاء الطابع الإسلامي على جميع الميادين الإدارية والمالية.
ويقف كذلك وراء قرار عبد الملك بتعريب العملة، جملة من الأسباب، ولكن السبب المباشر هو ما عُرف تاريخيًّا باسم “مشكلة القراطيس”، أي ورق البردي. وخلاصتها أن مصانع البردي في مصر اعتادت أن تبعث بهذا الورق إلى بيزنطية، وقد كتبت عليه بسملة التثليث (الآب والابن وروح القدس) باللغة اليونانية.
واستمر هذا التقليد قائمًا بعد فتح مصر على يد المسلمين، ولا سيما أن أصحاب هذه المصانع كانوا أقباطًا، وقدَّر الله أن يتنبه عبد الملك إلى هذا الأمر، فطلب من عامله على مصر بأن يلغي هذا التقليد، وأن يكتب على البردي: ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾. وعندما علم الإمبراطور البيزنطي جستنيان الثاني (ت 711م) بذلك، استشاط غضبًا وبعث إلى الخليفة أكثر من مرة يطلب منه سحب قراره. وعندما أدرك الإمبراطور أن عبد الملك مصمم على موقفه، هدّده بأن يصدر دنانير تحمل نقشًا مُهينًا للإسلام والمسلمين. فاستشار الخليفة أصحابه، واتخذ في ضوء ذلك قراره التاريخي بسك الدينار الذهبي الإسلامي، وتحريم تداول الدنانير البيزنطية تحريمًا كاملاً. وبذلك انتزع من جستنيان الورقة التي كان يهدد بها.
ولقد أزال عبد الملك عن النقود الإسلامية رسوم الأباطرة البيزنطيين والشارات المسيحية من الدنانير، وكذلك ألغى رسوم الملوك الساسانيين وشارات معابد النار، مستعيضًا عنها بآيات من القرآن الكريم ومأثورات إسلامية خالصة، بل نجد على الوجه الثاني للعملة تاريخ الضرب واسم المدينة.
الاستقلال المالي
وانتهى النزاع باشتعال الحرب من جديد بين المسلمين والبيزنطيين، تلك الحرب التي كان النصر فيها للدولة الإسلامية.
ومما لا جدال فيه أن هذه الحرب لم تكن مجرد صدام بين حاكمين، ولكنها كانت تحديًا وصراعًا بين حضارة قديمة تفتخر بتراثها الديني وسلطتها العالمية من ناحية، وبين دولة فتية تحتم عليها أن تفسح مكان لعقيدتها الدينية الخاصة بها، ولحقوقها الخلافية من ناحية أخرى.
ويرى الباحث “عادل زيتون”، أنه إذا كانت “مشكلة القراطيس” هي السبب المباشر لقرار عبد الملك في سك النقود الإسلامية -الدنانير منها والدراهم- إلا أن هناك أسبابًا أخرى ربما تفوق في أهميتها تلك المشكلة… وفي مقدمتها رغبة الخليفة في تحقيق الاستقلال المالي عن الدولة البيزنطية، وفي التخلص من الفوضى التي كانت سائدة في النقود الأجنبية المتداولة في العالم الإسلامي آنذاك، الدنانير منها والدراهم، نتيجة تنوعها واختلاف أوزانها وعيارها، وما كان على تلك الفوضى من أضرار مالية واقتصادية تلحق بالدولة والرعية على السواء. هذا فضلاً عن رغبة الخليفة في التخلص من الغش الذي انتشر في تلك النقود، وأدى بالتالي إلى انخفاض قيمتها الشرائية وارتفاع الأسعار وانعدام ثقة الناس بها.
وجاء شكل الدينار الذهبي الإسلامي الذي سكه عبد الملك عام (777هـ) على النحو التالي: نقش على أحد الوجهين “الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد”، ونقش على مدار الوجه نفسه “بسم الله، ضرب هذا الدينار في سنة سبع وسبعين”، أما على الوجه الآخر فقد نقش “لا إله إلا الله وحده لا شريك له”، ونقش على مداره “محمد رسول الله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله”. أما وزن هذا الدينار فقد كان 25،4 جرامًا وهو الوزن الشرعي للدينار. وكانت نسبة الذهب فيه نحو 96%.
وقد أخذ الدينار الإسلامي بالانتشار التدريجي، وغدا العملة الذهبية الوحيدة في العالم الإسلامي؛ من حدود الصين شرقًا إلى الأندلس غربًا، ووضعت الدولة الإسلامية النظم والقواعد لدعمه وحمايته. ولكن لم يقتصر انتشار هذا الدينار داخل حدود العالم الإسلامي فقط، وإنما اجتازها إلى مدن العالم القديم وأسواقه أيضًا.
السيادة الاقتصادية
ولا ننسى أن قوة اقتصاد العالم الإسلامي وازدهاره، من أهم العوامل التي ساعدت الدينار على تحقيق مكانته العالمية. فقد أصبح للمسلمين جميعًا -في العصور الوسطى- سيادة اقتصادية على الشرق والغرب، فثرواتهم الزراعية منها والصناعية وما تميزت به من تنوع وجودة وسمعة عالمية، جعل التجار المسلمين يمسكون بأيديهم معظم التجارة الدولية آنذاك. فقد غدت الطرق التجارية الكبرى -البرية منها والبحرية- بأيدهم أو تحت إمرتهم. ويضاف إلى ذلك كله أن البحر الأبيض المتوسط قد تحوّل منذ مستهل القرن التاسع الميلادي (الثالث الهجري) إلى بحيرة إسلامية.
وأضحت النقود الإسلامية خير سفير لعقيدة التوحيد بما تحمله من كتابات عربية وآيات قرآنية، اكتسبت الثقة بين شعوب أوربا التي أطلقت عليها لفظ “المنقوشة” كما وردت في النصوص اللاتينية، بل إن بعض ملوك إنجلترا -وهو الملك أوفا- لم يقبل شعبه غير النقود التي ضربها تقليدًا للنقود العربية المنقوشة. ولا زال بالمتحف البريطاني واحد من دنانير الملك “أوفا” وعليها شهادة التوحيد والرسالة المحمدية والتاريخ الهجري عام (157هـ) واسم الملك باللاتينية.
وأخذت النقود الأوربية المقلدة للنقود الإسلامية يزداد ضربها حتى القرن الثالث عشر الميلادي، ولم يمنع ذلك من تعامل أوربا بالنقود العربية الإسلامية. وقد استعارت أوربا في معاملاتها التجارية كلمة “سكة” لتصبح في الفرنسية (Seguin)، وفي الإيطالية (Zecca)، كما استعيرت من العربية كلمة “صك” لتصبح (Cheque).
الخط العربي والزخرفة
ومن ناحية أخرى، فإن أثر الخط العربي والكتابات العربية المنقوشة على النقود الإسلامية، كان له تأثيره على النقود الأوربية. وهو موضوع قد حظي بكثير من عناية الباحثين الأوربيين.
وقد أفادت صناعة العملة وصكها، من تقدم فنون الزخرفة الإسلامية. فقد تميز فن العملات الإسلامية بالمزج بين الخط والتجريد. وقد حافظ التيار الرئيسي للعملة الإسلامية على نهج القرن الرابع الهجري الذي يعرض عن الصور، باستثناء قطع قليلة تأثرت بمصدر غير إسلامي.
إن إلقاء نظرة عابرة على الدنانير الأموية والعباسية، يترك انطباعًا بأنه لم يطرأ أي تغيير على شكل الدينار الإسلامي لمدة تناهز قرنًا من الزمان. لكن في أوائل القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي) ظهر طراز جديد من العملة العباسية فيه ميل متزايد إلى النقش الزخرفي. واستمر هذا الاتجاه حتى أصدر الفاطميون طرازًا جديدًا من النقود، يختلف عن الطراز الذي استعملوه عن الأغالبة. ويتميز الطراز الفاطمي، برقة خطه وأناقته وبروز النقوش الدائرية. وقد أدى الاستقرار الذي تمتعت به العملة الفاطمية إلى تقليدها ليس فقط من قبل الأيوبيين، بل ومن قبل بعض الدويلات المعاصرة، مثل الصليبيين والسلاجقة.
الجدير بالذكر أن النقود الذهبية بعد التعريب، لم يسمح الخليفة الأموي بضربها في غير مصر وسوريا، فانحصر إنتاج الدنانير العربية في دار السك بدمشق والفسطاط، وأصبح من الصعب في نقود العصر الأموي التمييز بين تلك الدنانير السورية أو المصرية بعد أن وحد بينهما المظهر العربي العام، الذي حدده إصلاح عبد الملك للنقود وخاصة في الكتابة العربية المنقوشة.
وإذا كان من الصعب علينا التمييز بين النقود الذهبية التي ضربت في مصر وبين تلك التي ضربت في سوريا في العصر الأموي، فإن الأمر لم يكن كذلك بالنسبة للنقود من الفلوس التي كان يسجل عليها أسم الوالي أو عامل الخراج الذي ضرب النقد على يديه وتحت إشرافه، كما يحمل اسم مكان السك أحيانا. ولذلك يمكن اعتبار هذا الفلس نقطة التحول إلى الفلوس العربية؛ فقد ظهرت بعد ذلك سلسلة من النقود البرونزية في مصر الأموية -بوجه خاص- كشفت عنها حفائر الفسطاط، وتزدان بها مجموعة متحف الفن الإسلامي، وتحمل هذه النقود أسماء الولاة أو عمال الخراج الذين تولوا أعمالهم في مصر.
وقد تميزت الدراهم الأموية بجمال خطها ودقة وإتقان ضربها، بالإضافة إلى صفاء ونقاء معدن الفضة التي ضربت منه. وإن دل هذا على شيء، فإنما يدل على وفرة المعادن. ونظرًا لاتساع رقعة الدولة وترامي أطرافها، نجد أن دور السك بالنسبة للدرهم، بلغت ما بين “دراسك” من الأندلس غربًا إلى “كاشغر” في الصين شرقًا.