ظلت الأمة الإسلامية منذ قرون خلت، تبحث في شغف عن ما يبرئها من أسقامها التي تنامت وتكاثرت وتكالبت عليها، فغدت كجمع من الناس تائه بين الفيافي والقفار، يغدو يمنة ويسرة مبتغيًا شرْبةَ ماء تنهي ظمأه وتبعث روحه، فلا السراب ينجيه، ولا القطرات المتناثرة تكفيه.. تكاد الأنفاس تنقطع والعزائم تخور، فما له غير تآلف القلوب هدفًا منشودًا،
وتضافر الجهود عملاً دؤوبًا وتوجّه بالدعاء المخلص للرحمن الودود.
بصوت شجي نادى منادي التوافق والإجماع من بلاد الأناضول، فهبّ أهل الهم الواحد من مشارق الأرض ومغاربها مستبشرين ملبّين.. لَبَّيك نداء المحبة.. لَبَّيك نداء المودة.. لَبَّيك نداء الإخاء.
من ثمانين دولة جاؤوا، يتقدم الركب أكثر من ست مائة عالم، يتبعهم أزيد من أربعة آلاف مشتاق قاصدين حضن تركيا الدافئ، ليشهدوا منافع لهم، ويذكروا الله ويسرعوا الخطى إليه. إذ احتضن مركز المؤتمرات بإسطنبول، يومي 27 و28 أبريل 2013م، مؤتمرًا دوليًّا عالميًّا حول موضوع “الإجماع والوعي الجمعي.. فقهًا وروحًا وثقافة وسلوكًا” من تنظيم مجلتي “حراء” و”يني أُمِيت”.
افتتح المؤتمر في جوّ مهيب وجمع غفير، يردد في خشوعٍ صدى آيات الله تعالى الداعية إلى الوحدة ولَمّ الشمل، الناهية عن التفرق والتشتت والتنازع، تلاها المقرئ “رضا كوناي” بنفس خاشعة ودموع حارقة.
وفي مستهل الكلمات الافتتاحية لمنظمي وضيوف المؤتمر، اعتلا المنصة الدكتور “أَرْكون جابان” مدير تحرير مجلة “يني أُمِيت”، ليركّز في كلمته على أن التحدث عن الإجماع اليوم يأتي في سياق ما أورده الله تعالى في كتابه الكريم في وصفه لخيرية الأمة، إذ يقول تعالى: “كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ”آل عمران:110)؛ فالإجماع هنا، إجماع الأمة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ويضيف الدكتور “جابان”، أن للإجماع قيمة في حياة المسلم، ودورًا في تحديد هويته. فالمسلمون بحاجة ماسة اليوم إلى زرع ثقافة الإجماع في نفوسهم أولاً، وفي أوساطهم ثانيًا.. ثم اختتم المتحدث باسم مجلة “يني أميت” كلمته متوجهًا إلى الحاضرين، مذكّرًا ومؤكدًا على وجوب السفر في التاريخ وقطع المسافات، بهدف الغوص في حياة الصحابة الكرام وحياة العلماء الأفذاذ والفقهاء المخلصين، لاستخراج المعايير الأساسية في تأسيس فكر وثقافة الإجماع في الأمة.
وفي نفس سياق “يني أميت” سارت “حراء” وغرّدت على لسان مُشرِفها العام الأستاذ “نوزاد صواش”، إذ عزَف على أوتار قلوب الحاضرين حين رحب بهم أجمل ترحيب، ونثر عبارات الشكر والامتنان وَرْدًا فوق رؤوسهم.
استعرض الأستاذ “نوزاد” في بداية كلمته، حال الأمة الإسلامية والأزمات المتعددة التي ترسم ملامحه، متسائلاً عن الحلول التي من شأنها أن تغيّر حاله إلى الأحسن.. فأكد على أن الإجماع والاجتماع، والتوافق والانسجام، حلّ لا بديل عنه، فلتجتمع ألسنة هذه الأمة وقلوبها على الدعاء، ولتتناغم جهودها في الإصلاح، فالربيع لا يتجلّى في وردة واحدة، وإنما في زهور وورود متجاورة متناسقة.
وفي إشارة إلى أن هذا المؤتمر بكِبَر حجمه وعمق معانيه وأصالتها، ليس مفصولاً عن ما سبقه، فله ما قبله وله ما بعده.. فمن خلال اللقاءات والندوات العلمية والفكرية المنظمة من قبل، زادت الألفة، وترسّخت أسسُ المحبة في نفوس كل المشاركين فيها، فهذا هو الأصل، وهذا هو المنبع الذي منه تنبثق الجهود السديدة، وبه تنبت الأصول الخيرة.. فالإنسانية بحاجة إلى قلوب ليّنة رحيمة، وأيادٍ تخفف معاناتها وتأخذ بها إلى دوحة الإخاء والتآلف.
وفي أولى المداخلات للعلماء الحاضرين، مُنحت الكلمة للدكتور “أحمد عبادي” الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء بالمملكة المغربية، فشَكَر اللهَ تعالى وحمَده، وأثنى على منظمي هذا الحدَث المشهود، الذي من شأنه أن يُخرج أصلاً ثابتًا في أصول الشريعة الإسلامية إلى حياة الناس، ليُنهي ما بينهم من فرْقة واختلاف، فجذوره الأصل تبدأ من القلوب إذا تطهّرت وتزكّت، لتثمر ثمار التوافق والمحبة.
وتناول الدكتور”عبادي” بالشرح جُملةً من الدواعي التي تُفَعِّل “الإجماع” وترسِّخ “الوعي الجمعي” وهي أربعة:
1- الداعي البرهاني: فكيف لأمة متفرقة متشرذمة أن تقنع الغير بخيريّتها وأفضليّتها!؟ فعلى المسلمين اليوم أن يوحّدوا كلمتهم، ليكون لِصَوْتهم صدى في الآفاق وفي قلوب الناس.
2- الداعي التشريعي: يفيد الوجوب، لأن الآيات القرآنية تأمر بالإجماع وتدعوا إليه في أكثر من موضع.
3- الداعي الواقعي: فهناك على رقاب الأمة سيوف مسلّطة، تتمثل في قضايا اجتماعية وحضارية حارقة لابد من تفكيكها وتحليلها، والوصول إلى حلول عملية تخمّد لهيبها المتواصل.
4- الداعي التربوي: وهو دور العلماء والمربّين، فعليهم أن ينشئوا الأجيال القادمة على الإخاء والود والمحبة، وعليهم كَبْحُ جِماح التَشْظيَة والتَّشَرْنُق ويُحِلّوا محلها معاني الوئام والاجتماع.
وتوالت كلمات السادة العلماء القادمين من كل حدب وصوب، ملبّين نداء الجمع والإجماع.. فمن السودان قدم الدكتور “عصام البشير” الذي أكد بحرقة في كلمته، على أن كلمة “الوعي” الواردة في عنوان المؤتمر، تدل على الانتباه واليقظة بعد الغفلة، وبالتالي فإن الوعي بالإجماع يأتي تحقيقًا لمفهوم الأمة “الشاملة” التي تنشد “الوحدة” وتعتبر التعددية والتنوع من منطلق قاعدتين، هما وحدة الخالق وتعدد الخلق.
ومن الولايات المتحدة الأمريكية جاءت رسالة الأستاذ “فتح الله كولن”، عابقة بأريج الوفاق، وداعية إلى لَمّ الشَّمل، وحاثّة على حمل همّ الأمة، فمِمَّا جاء فيها:
“والكل يأمل أن يقدم علماؤنا في هذا الاجتماع البالغ، حلولاً بديلة لمعضلاتنا المزمنة، مستقاة من مصادرنا الأساسية”، وفي سياق تَبْيِين وتجلية موطن الداء، ومكمن معاناة الإنسانية عبر التاريخ، ثم تحديد ملامح الحلّ والانعتاق يقول الأستاذ فتح الله: “وكما هو معلوم لدى جمعكم الكريم، فإن النظم المفروضة على الإنسانية قاطبة، خلال قرن أو قرنين أخيرين، لم تُغْنِ عنها شيئًا ولم تزدها إلا اضطرابًا وشقاء.. فلذلك نعتقد جازمين أنه إن كان هناك جو يسمح لبني الإنسان أن يتنفّسوا منتعشين، فما هو إلا جو الإسلام.. وهذا الجو لم يزل كالبحر الذي لا تسكن أمواجه، طاهرًا أبدًا، نديًّا عميقًا، لا يتكدّر قطّ بالأدران الفكرية لأي زمان أو مكان. لكن الوصول إليه وتمام الاستفادة منه، ظل دائمًا يتطلب تثبيتًا لِلنّيّة، وتسديدًا لزاوية النظر، وعلوًّا في الهمّة وثباتًا في المثابرة، وصدقًا في التوجه، وثقة بالأسس والأصول”.. وعن التناول الأمثل للمصادر الأساسية في التشريع الإسلامي، والاستفادة منها وتفعيلها في حياة الإنسان المسلم، يقول الأستاذ فتح الله: “وإني شخصيًّا أعتقد جازمًا بأننا إذا تناولنا مصادرنا الأصلية والفرعية لثقافتنا، من القرآن والسنة والإجماع والقياس والاستحسان وغيرها، واستفدنا منها على غرار المخاطبين بها في القرون الأولى، فإننا سنتغلّب على كثير من معضلات عصرنا المستعصية على الحل، وستنكسر كثير من أمواج الأزمات والدواهي المتلاطمة التي تنتظرنا في المستقبل، أو ستتلاشى أضرارها في أقل تقدير”.
بعدها تحدث الشيخ “محمد سعد أبو بكر” من نيجيريا، عن أحد الأهداف السامية المتوخّاة من هذا المؤتمر، وهي وضع خارطة طريق مشتركة ترسم ملامح “الإجماع” بين المسلمين، وأكد على وجوب الاهتمام بالتربية والتعليم وجميع الظروف المحيطة بهما، باعتبارهما مدخلاً أساسيًّا للوصول إلى مجتمع إسلامي تسوده روح التوافق والإجماع. وشَدّ على يده الشيخ العالم “راشد الغنوشي” من تونس، في رسالة بعثها للحاضرين -قرأها بالنيابة عنه الدكتور عبد الحميد النجار- إذ بيّن فيها أهمية توسيع المساحة الدلالية لـ”الإجماع” لكي لا يبقى حبيسَ التفسيرات والدلالات الفقهية فحسب، ونوّه إلى أن الجهود المباركة التي سيبذلها العلماء في المؤتمر وبعده، هي التي ستعيد الأمل للأمة الإسلامية، وتبعد الفرقة عنها والتشتت، بل وتدفع بها إلى الفعل الحضاري إن شاء الله.
من الهند إلى سلطنة عمان ومن ثم إلى أفغانستان، انتقل الحاضرون بانتباههم وتركيزهم بين كلمات العلماء، إذ تحدث الشيخ الدكتور “أبو القاسم النعماني” رئيس الجامعة الإسلامية دار العلوم في الهند، عن أهمية الإجماع في حياة الأمة، مقدّمًا أمثلة من عصر الخلفاء وحياة الصحابة.. وأكد الشيخ “أحمد بن حمد الخليلي” مفتي سلطنة عمان، على وجوب التكامل والتعاون ولو أوان الاختلاف، وأنه لا مجال ولا وقت اليوم للتنافر والتناحر والتشتت، فعلى الأمة أن تحرص على الوحدة كحرصها على التوحيد، وأن تلتزم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فذلك التزام بالهدى والوحدة.. ثم تبعه الدكتور “يوسف نيازي” وزير الإرشاد والحج والأوقاف من أفغانستان، بكلمة أكد فيها على أن الأمة الإسلامية إذا اجتمع علماؤها، فإنهم يجتمعون بغية الخير والسداد لا للغي والضلال.
وبعد جولة فكرية جابت البلاد العربية ممثلة في أكبر علمائها، شُدّت الرحال عودةً إلى تركيا، لتستقر عند كلمات الدكتور “محمد كورمز” رئيس الشؤون الدينية التركية، فحمَد الله وأثنى عليه، ثم طاف بالحضور بين معاني عنوان المؤتمر “الإجماع والوعي الجمعي” من خلال حياة صحابة رسول الله “، فبيّن أن إجماع الصحابة، فيه الكثير مما يمكن دراسته واتخاذه نموذجًا، فمرجع أمور المسلمين في عصر الصحابة كان للإجماع، إذ كانوا رضي الله عنهم أجمعين، يعيشون المقصد والمبتغى من قول الله تعالى: “وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا”(البقرة:143)، أي الأمة “المركز”، الأمة التي تشكل نقطة توازن دولي بين جميع الأمم.. وبيّن للحاضرين أن التحلّي بالوعي الجمعي يمكّنهم من دراسة الكثير من القضايا الحساسة في حياة البشر اليوم.
إلى هنا تبيّن للحاضرين أثناء تجوالهم من كلمة افتتاحية إلى أخرى، المعاني العامة لمفهوم “الإجماع” وأبعاد “الوعي الجمعي”، لتأتي المحاضرة الافتتاحية للدكتور “علي جمعة” مفتي الديار المصرية السابق، لتزيح الغموض عن بعض القضايا المحورية المتعلقة بموضوع المؤتمر، من حيث دلالة المصطلح وأبعاد توظيفه وتفعيله، فأورد فيها أن الإجماع ممتلك للحجية والمصدرية ما دام محتواه متصفًا بالاتفاق التام بين المجتهدين، أما إن شابه بعض الاختلاف من بعضهم، فإنه يتحول من المصدرية إلى الاستئناس، والشرط الأساسي في هذا الاعتبار، أن يكون الرأي مبنيًّا على العلم والاجتهاد لا عن جهل وادعاء.
ثم ركز الدكتور “علي جمعة” على أنه ليس من الحكمة حصر “الإجماع” على أمور الشريعة، إذ من خصائصه أنه عام على أمور الحياة كلها بمختلف علومها ومجالاتها.. وبيّن أن مسائل الإجماع معدودة، ومسائل اختلاف الرأي كثيرة وعديدة، فللحفاظ على وحدة الأمة، وجب احترام الرأي المخالف، لأنه غالبًا ما يكون الاختلاف في الأمور المتغيرة لا في الثابت منها.
بعد استراحة للتواصل والتعارف والتلاقي -فالمشاريع الحضارية تولد من رحم العلاقات الوطيدة، والمحبة القلبية الصافية- عاد المشاركون، ليشهدوا بداية الجلسة العلمية الأولى برئاسة الدكتور “علي بارداك أوغلو” رئيس الشؤون الدينية السابق من تركيا، ويشارك فيها كل من الأساتذة الأفاضل؛ الدكتور “إبراهيم كافي دُونْمَز” رئيس جامعة 29 مايو بإسطنبول، بمحاضرة تحمل عنوان “أصل الإجماع ومكانته بين الأدلة الشرعية”. والدكتور “محمد كمال إمام” من جامعة الإسكندرية بمصر، بمحاضرة حول “عصمة الأمة باعتبارها مؤسِّسة لثقافة الإجماع”. والدكتور “يونس أبايدن” من جامعة أَرْجياس كلية الإلهيات بتركيا، بمحاضرة عن “الإجماع باعتباره آلية للرقابة الشرعية”.
وتمحورت محاضرات الجلسة العلمية الأولى على أهمية الإجماع ومدى تأثيره حتى في تفاصيل حياة المسلمين، لأنه جزء من البنيان الحضاري للأمة الإسلامية.. فلا يمكن بناء حضارة متكاملة، إلا إذا كان للإجماع مكانة كبرى في نفوس علماء الأمة وفي أفعالهم، وأنه لا مناص من التمكين للإجماع مؤسَّسِيًّا، فعصرنا هذا عصر مؤسسات وعمل جماعي لا عصر العبقرية الفردية والرجال الخارقين.
ثم ترأس الجلسة العلمية الثانية الدكتور “حمزة آكتان” الرئيس السابق للهيئة العليا للشؤون الدينية في تركيا، وحاضر فيها كل من الأساتذة؛ الدكتور “طالب تُرْجان” من جامعة سليمان دميرل كلية الإلهيات بتركيا، بمحاضرة موسومة بـ”أهمية ومكانة إجماع الصحابة”. والدكتور “بشير كوزوبَنْلِي” من جامعة أتاتورك كلية الإلهيات بتركيا، في محاضرة بعنوان “تطبيقات الشورى والإجماع في النموذج العُمْري”. وأخيرًا الدكتور “محمد المختار الشنقيطي” من كلية الدراسات الإسلامية بمؤسسة قطر، بمحاضرة حول “إجماع الصحابة مؤسِّسا للإجماع المنشود اليوم”.
إذ غاص كل من الحاضرين في هذه الجلسة العلمية في حياة الصحابة، واستخرجوا منها المعاني والعبر محاولين إسقاطها وتكييفها، بما يتوافق -نظريًّا على الأقل- مع مقتضيات العصر، إذ أورد الدكتور “طالب تُرْجان” أن “الإجماع” هو وضع لمعايير حَدّية في فهم المصادر الأساسية من قرآن وسنة، إذ لا يمكن تجاوزها أو تجاهلها. وبيّن الدكتور “بشير كوزوبَنْلِي” أن عصر عمر بن الخطاب ، تميز بالشورى والإجماع، إذ كان يَعتبر استشارة الصحابة في القضايا الأساسية والمصيرية للأمة الإسلامية. ولفت الدكتور “محمد الشنقيطي” انتباه الحاضرين إلى أنه تم التركيز كثيرًا -في الدراسات التي تتناول “الإجماع” موضوعًا- على الخليفة الراشد، لكن غالبًا ما يُتناسى المجتمع الراشد، مبيّنًا وموضّحًا أن من صفات المجتمع الراشد ما سماه بـ”التأمُّر”، أي التحكّم في خيارات الأمير والمساهمة في صنعها.
انقضى اليوم الأول من المؤتمر، فافترق الجمع حاصدين من ثمار التوافق والإجماع، حبًّا ومودة، وفكرًا متوافقًا في أصوله ومبادئه، مبتغين تحقيق أفعال حضارية ولودة، تساهم في رأب ما بالأمة الإسلامية من صدع، و تضيء بصيص أمل من شأنه أن يوقد شمعة الأمل في نفوس بشر حائرين.
أشرقت شمس اليوم الثاني من المؤتمر، مؤذنة بتواصل الرحلة نحو إدراك “الإجماع” وتحقيق “الوعي الجمعي”، إذ استُهلت بالجلسة العلمية الأولى برئاسة الدكتور “سعاد يِلْدريم” من جامعة الفاتح كلية الإلهيات بتركيا، وبمشاركة كل من الأساتذة؛ الدكتور “أحمد عبادي” من المغرب، إذ اختار “القرآن مؤسِّسًا لإجماع الأمة اليوم” عنوانًا لمحاضرته، بالإضافة إلى الدكتورة “نادية مصطفى” أستاذة العلاقات الدولية بجامعة القاهرة في مصر، بمحاضرة عنونتها بـ”الإجماع من وحدة المصدر إلى وحدة التنوع”.
إذ تناول الدكتور “أحمد عبادي” العلاقة مع القرآن الكريم بالتحليل والنقد، إذ بيّن أنها لا يجب أن تكون سطحية محصورة في مقصد التبرك به، لأنها علاقة غير فعّالة، بل وجب أن يكون التعامل مع كتاب الله، تعاملاً حضاريًّا تتجلى آياته وأحكامه وضوابطه واضحة في حياة المسلمين، وهذا لن يتأتى إلا بثني الركب وتقويس الظهور، من أجل استخراج كنوز القرآن، لتنوير الإنسانية بها، بفكر شمولي وبرحمة وشفقة لا بإقصاء وغرور.
وواصلت الدكتورة “نادية مصطفى” في نفس السياق، إذ بيّنت أن القرآن الكريم يورد التعدد والاختلاف باعتباره أصلاً في الكون وفي البشرية، لذا فإن الاجتهاد والمرونة، أمران تابعان لذلك بل وحتميان.
وبعد استراحة قصيرة، تواصلت أشغال المؤتمر في جلسته العلمية الثانية التي ترأستها الدكتورة “نادية مصطفى”، وشارك فيها كل من الأساتذة؛ الدكتور “سيف الدين عبد الفتاح” من مصر، بمحاضرة عنوانها “مؤسسة الإجماع: الشورى والديمقراطية”، والدكتور “سمير بودينار” مدير مركز الدراسات الإنسانية والاجتماعية بوجدة المغرب، بمحاضرة عن “منظومة القيم والبناء المجتمعي للإجماع”، ثم الدكتور “عبد الحكيم يُوجَه” عميد جامعة جلال بيار كلية الإلهيات تركيا، بمحاضرة عن “ثقافة الإجماع والبعد العرفاني”.
فاتفق المحاضرون على أن الأمة بحاجة للخروج بالإجماع من الضيق الفقهي، إلى رحابة التفسير الشمولي، على أن يعالج الموضوع في إطارين: مقاصدي وقيمي كما يوضح الدكتور “سمير بودينار”.
هذا وقد ترأس الجلسة العلمية الأخيرة الدكتور “حمدي دوندورن” من جامعة الفاتح كلية الإلهيات تركيا، ونشّطها الدكتور عبد الحميد مدكور من جامعة القاهرة كلية دار العلوم مصر، متحدثًا عن “فقه الائتلاف في ظل واقع متعدد المرجعيات”، والدكتور عبد المجيد النجار” الأمين العام للمجلس الأوروبي للإفتاء، بموضوع تحت عنوان “مراعاة السياق وأثره في فاعلية الإجماع”، وأخيرًا الدكتور “محمد باباعمي” مدير معهد المناهج بالجزائر، بمحاضرة تحت عنوان “نحو جيل الإجماع”.
فبيّن الدكتور “عبد الحميد مدكور”، أن التعصب المذهبي و الفرقة الدينية، تهديد لهذا الأصل العظيم في الشريعة الإسلامية، فأَمْر الرسول صلى الله عليه وسلم بالتزام الجماعة لا يعني اجتماع الأبدان، بل الالتزام بالنسق الحضاري الموحد ذو الهدف الواضح.
وتطرق الدكتور “عبد المجيد النجار” إلى أسس التشريع وسن القوانين، التي تَعتَبر الإجماع ركنًا أساسيًّا فيها.. فوضّح أنها وجب أن تصطبغ بصبغة الأحكام الشرعية الشاملة، لأن الحياة تؤخذ في كلياتها، لا تجزيء فيها ولا تفريق بين المجالات.
وعرج الدكتور “محمد باباعمي” من الجزائر، إلى ما يرومه كل حامل لهَمّ الأمة، وساعٍ من أجل اجتماعها وتوافقها.. فرسم ملامح جيل الإجماع المستقبلي؛ فلا مفر ولا مناص من الاهتمام بالجيل الناشئ، الذي سيطبّق الإجماع فعلاً وسلوكًا لا كلامًا وتنظيرًا، فمَن غيرنا يمسح دمعة طفل يئنّ تحت وطأة الجوع والحرب، ومَن سوانا يُعلي راية المحبة والمودة والتوافق.. إننا إن لم نفعل، لا معنى لحديثنا عن الإجماع.. فلنحرص على أن نكون سببًا في مستقبل التمكين لهذا الدين، تفاديًا للعذاب الأليم، ولنتق الله ولنقل قولاً سديدًا.
بالدعوة القلبية الخالصة لتقوى الله، وابتغاء السداد في القول والعمل، اختتمت الجلسات العلمية لمؤتمر “الإجماع والوعي الجمعي”، وآنت لحظات انتهاء رحلة الفهم والوعي والتداول العلمي، والجلسات العلمية الفكرية، توجتها الجلسة الختامية التي تُلي فيها البيان الختامي للمؤتمر، الذي ضم خطوات وتوصيات عملية تفَعّل موضوع المؤتمر ميدانيًّا، إذ يسعى القائمون على تحقيقها إلى وضع اللبنات الأولى لترسيخ ثقافة الإجماع تنشئةً وتربيةً ودعوةً وسلوكًا، وتكون نقطة التقاء آراء المفكرين واجتهادات العلماء والفقهاء من شتى أقطار العالم الإسلامي.
بدموع التضرّع إلى الله، وبــأنفاس الحب التي ترافق كل شهقات وزفرات الداعين، وبعزائم السائرين في سبيل رفع راية السلام في العالمين، اختتم المؤتمر -شكلاً- على أن تبقى معانيه وروحه تسري في النفوس -فعلاً- يتجسد شعاعًا يرشد الأمة، وينقذها من ربقة الانشقاق إلى آفاق الاتفاق.