هيّا بنا نُلامس فيضًا دافقًا من معاني “أَشهَدُ”، نحيا لحظات ربّانية، نُرخي العنان لحبال أفكارنا، نركب مطية العقل، نتدارس عصارة من التأمّلات حول أول كلمة من ركن الإخلاص والتوحيد، كلمة التقوى “أشهد أن لا إله إلا الله”، والتي نشيد عليها إسلامنا، ونعلن بها انتسابنا إلى أمة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ. نجدّد العهد والميثاق الذي واثقنا الله به في رحاب السمع والطاعة، نستشعر نعمة الله علينا (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)(المائدة:7)، نمشي في ركب السائرين إلى الله تحت ظلال (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)(الفاتحة:5)، نصوغ مفهوم الأمّة في وحدة الوجهة “قبلةً”، ووحدة القلوب “اعتقادًا” في أسمى معانيها؛ “إذا اشتكى منها عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسّهَر والحُمّى”… في انسلاخ عن الفردانية المُميِّزة للذات إلى تمسك متين بحبل الجماعة الممتدّ من الأرض إلى السماء، في سموّ ورفعة من غير وهن واستكانة نعلنها صيحة تهزّ أركان الكون: بالقرآن نحيا ونشيّد عمارة الأرض، لنا العلو والمجد.
“أَشهدُ” في الحاضر والمستقبل
هي إعلان لعهد وميثاق أزليّ يبدأ في الزمان منذ أن كنا نُطفًا في صلب أبينا آدم، حيث مسح ربّنا على ظهره، وأخرج منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، ثم جعلَنا على صعيد واحد وأشهدنا على أنفسنا: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ)، فنطق كل منا على لسان واحد (بَلَى شَهِدْنَا)، فأخذ منّا ربنا موثقًا غليظًا، وأنذرنا (أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ)(الأعراف:172). شهادة سرمدية لا ينقطع أمدها أبدًا… فطرة الله التي فطر الناس عليها، ثم تتجدّد عند كل مسلم ناصيته للحق تبارك وتعالى… حين يلامس إحسان الرّبوبية قلوبَنا فيأسرها، فتألهه كل ذرة في أجسادنا، فتنطلق ألسنتا بقول “أشهد”، ثواني تنساب أنوارها على عمر الدّهر بأكمله… فهي تنقلنا منذ لحظة قولها من الفناء إلى الخلود، ومن الموت إلى الحياة… ترحل بنا من ضيق البقعة الأرضية التي نمشي في مناكبها من حيز الفضاء المستوعب لحركيتنا في الكون إلى جوار عرش الرحمن، لنفوز بمعيّة خالقنا، فتتحرر أرواحنا بهذه المعيّة من قيد كل زمان ومكان… ثم إن هذا الشعور الذاتي بالسموّ لكل فرد منا، هو الذي يعطي مجتمعًا لهذه الأمة حق الشهود الحضاري: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾(البقرة:143)؛ شهادة على الناس باستحقاق، لما أوثقنا به أنفسنا من عهد مع من لا يَعزُب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء. ثم إن التزامنا حاضرًا هو ملزم للمستقبل، فحين نشهد اليوم، فهي شهادة للغد بكل أبعاده في الزمان، نحيا ونموت ونبعث عليها، فالمرتدّ -أيًّا كان- لا يلغي انتسابه للأمّة فحسب، بل يلغي كرامته البشرية وإلى الأبد فتهدر إنسانيته.
“أَشهدُ” صرخة حُرّية
نعلنها صرخة حُرّية في وجه كل ظلم، تتناغم ونبضَ قافلة السائرين إلى الله: ملائكة، جن، نبات، حجر وشجر… نشهد لرب العزّة بوحدانيته في الوجود، وبانفراده بالخلق والأمر. نستهديه صراطًا مستقيمًا نلتزم به، لندخل محراب العبودية في ذل وانكسار وخضوع، بكمال محبة… لنحرّر أنفسنا -كما فككنا أسرها من قيد كل زمان ومكان- من ذل أيّ مخلوق جبار معاند ومكابر كان، أم ملك قاهر. ويكون لسان حالنا: (قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا)(طه:72). فلا خضوع ولا انكسار لغير بارئ البرايا وخالق الأكوان. فهو شعور بالرفعة وبالسيادة في الكون، يرفعنا بعيدًا عن سفاسف الدنيا، فلا اغترار بمغرياتها، ولا انغماس في شهواتها، بل استشعار بوطء الأمانة وثقلها.
“أَشهدُ” ميلاد حياة سرمدية
بقولها يُنجِبنا الزمان لتدبّ فينا الحياة الحقيقية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)(الأنفال:24). بعد لحظات ظاهرية نقضيها لهوًا ولعبًا، سيميتها التّيه والضلال، نقتسمها وكل الأحياء “المعطلة” لا سمع ولا بصر ولا فؤاد. بقول “أشهد”، يحين الوقت لكل منّا أن يقول: أنا حيّ أرزق، فما شهد يومًا ميّتٌ في نازلة، وما كان لقاض عدل أن يأخذ بشهادة ميّت وإن نقلت له عن عدل ضابط. فلندع هذه الحياة النوعية تسري في عروقنا، ندرك ونحسّ ونستشعر الفضل الجليل والعطاء الجمّ الكثير في أنْ أوجدنا الحكيم الخبير من عدم، وأمدّنا الكريم الجواد بكل النعم. فنسلم له الناصية تألهه أرواحنا التي بعثت من جديد، فيُذكر ولا يُنسى، ويُطاع ولا يُعصى، ويُشكر فلا يُكفر. إلهًا يستلزم إنعامه أسر النفوس، وجماله الأخذ بالألباب، وعظمته انبهار الوجدان. وبهذا الاستشعار لنِعَم الله ينبجس ينبوع المحبة ليطهّر أغوار القلوب عشقًا تذوب له الأوصال، ثم تنقاد الجوارح في حركية طاعة لا حركية معصية، ولسان الحال ﴿وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾(البقرة:285). تظهر آثارها لتملأ الحياة عمارة في الأرض أخلاقًا وسلوكًا وعملاً، في صلاح وإصلاح، يبرز على أن انتماءنا لآدم هو انتماء نبوة لا انتماء جنس وحسب. فإرثنا نبوة، ومالنا ثقة بالله وتوكل عليه، فلا ضيق ينكد العيش ولا سعة تفرح الوجدان… فالكلّ موصول بخالقه منقطع عن كل مخلوق، وحسبه الله، منفصل الرجاء عن غيره، لا يعشُ عن ذكره، ولا يُعرض عن وصله.
“أَشهدُ” ينبوع علم
إنها باب علم معرفة الله ـ عز وجل ـ وتوحيده، ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ﴾(محمد:19)، لذا ألزمنا الحق سبحانه بعلم ما تستلزمه هذه الشهادة لا بالقول به، فما نشهد إلا بما استيقنتْه قلوبنا، بعد أن أعملنا عقولنا تدبُّرًا في كتاب الله حرفًا حرفًا وكلمة كلمة، تتشرّبُ معانيها أفئدتنا، ثم تفكُّرًا نجول بنظرنا عبرة في آيات الله المبثوثة في الآفاق والأنفس، نخرج أنفسنا مِن زمرة مَن كانت أعينهم في غطاء عن ذكر الله، إلى زُمرة أولي الألباب الذين يتفكرون في خلق السموات والأرض. فتغشانا السكينة، وتتلبّسُنا الطمأنينة، أن الله واحد، لا ندّ ولا عدل له سبحانه… لنشيد صرحًا شامخًا من المعارف والمدارك على القاعدة الذهبية: “أَحَد أَحَد”، لننتج علمًا يتماشى والسننَ الكونية التي شاء الله تعالى أن يُقيم عليها خلقه… فتأتي علومنا الكونية توحيدية لا إلحادية وقد استقت روحها من كلام الحق ـ عز وجل ـ… فيكون منهجُنا في كل العلوم، قراءة صفحات الكون باعتباره مخلوقًا لخالق خبير عليم حكيم، قراءة واعية يكون فيها شعارنا: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾(العلق:1).
“أَشهدُ” أمة وحضارة
لكل إنسان انتماء اجتماعي وآخر وجودي. فالأول يُعلم بمعرفة أبيه وأمه وفصيلته التي تؤويه، والثاني تتضح معالمه وأبعاده حين يعلن انتماءه لهذا الوجود كمخلوق لرب الأكوان وباريها: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ)(الأنبياء:92)، غير أن هذا لا يقف عند انتمائه المادّي كحلقة ضمن سلسلة الموجودات المادّية، يتساوى فيها الإنسان والحيوان والجماد في إطار تصوّر يلغي أفضليته في الكون ويخلع عنه لباس التكريم الرباني الذي حباه الله به، بل هو انتساب إلى أنماط فكر وقيم وأخلاق، وإلى ضرب من المعاملات والسلوكيات، تنمُّ عن تصوُّر عميق للحياة والكون، يتجاوز عالم الشهادة إلى عالم الغيب، ويعطي خصائص بارزة عن ذاتية حضارية لا مثيل لها، مكينة الجذور، غارقة الامتداد في أعماق الزمن، ثابتة الأصل… إنها الذاتية الحضارية لأمة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ، تفيض عطاء بخيريتها على كل الناس، تسود دون إقصاء للآخر، تحاكم العدو والصديق بما تحاكم به الذات، حاملة لواء الخير للغير، تعلم أن المخالف ما كان ليكون لولا وجود حيثيات ومفارقات صاغت وجوده، فتقرب وتقارب، توحد القلوب في إطار البعد الإنساني، وتوحد التصور في إطار البعد الوجودي، بحوار يسلك الإقناع ويراعي المشاعر، يعرض الرأي الثاقب دون تسفيه للرأي المخالف، ويبسط الحُجج الدامغة من غير حجر لحرية القرار والاختيار.
(*) عضو الهيئة المغربية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة / المغرب.