كلَّما حدث أمرٌ حقير أو عظيم في أيِّ زمان من الأزمنة وفي أي مكان من الأمكنة، كان اختبارًا وامتحانًا لمن قامت عليه الحجة في ذلك الأمر. لا شيء في الدنيا يقع اعتباطًا أو سَبَهْلَلاً أو بغير حكمة، ولا شيء بتاتًا يندُّ عن إرادة الله وعلمه ومشيئته سبحانه.
فما وقع -ويقع هذه الأيام- من حملة لتشويه صورة أعظم الخلق محمد عليه الصلاة والسلام بكل الأشكال والألوان وبجميع الوسائل والإمكانات، تسندها تخطيطات واستراتيجيات. كل هذا ليس عبثًا ولا هو خارج قدر الله الحكيم العليم سبحانه.
وما كان أبو لهب، وأبو جهل، ومسيملة، وأبيٌّ، وغيرهم من الكفار والمنافقين والمعاندين… ما كانوا عبثًا في مسيرة الرسالة المحمدية المباركة؛ وجودهم حكمة ليبتلي الله إيمان المؤمنين وعمل العاملين: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا)(البقرة:214).
وإني لَأجد هذه الحملة وغيرَها، اختبارًا عسيرًا لكلِّ الناس ولكلِّ الأطياف ولكل المؤسَّسات، ولكلِّ الأمصار ولكلِّ التوجهات ولكلِّ الاتجاهات بلا استثناء. وأوَّل من يتعرَّض للاختبار هو “أنا”، بها أبدأ، ومنها أنطلق، وعنها أسأل، وإياها أحمِّل الواجب؛ فهل يمكن أن أتركها خارج دائرة الأمر الرباني، والحكم الإلهي، والواجب الشرعي؟!
يا نفسُ، ما مدى حبكِ لرسول الله عليه الصلاة والسلام؟ أهو حبٌّ فُلْكلُوري مناسباتيٌّ آني عابر؟ أم هو حبٌّ إيمانيٌّ رساليٌّ دائم؟ ثم ماذا فعلتِ وتفعلين في حقه عليه أفضل الصلاة والتسليم؟ هل كنتِ في مستوى عصركِ، وهل أعددتِ العدَّة الكافية لنصرته، وهل جهَّزتِ الأسباب والمقدِّمات للانتصار له؟ أم أنكِ في دوَّامتكِ تعمهين، وعن التخطيط تُعرضين، وللظروف تَستجيبين؛ ثم ما تلبثين أن تدخلي دوامة الحياة، وتدورين في دائرة مفرغة إلى حين؟
علميًّا، ماذا أعددتِ؟ تربويًّا، ماذا أعددتِ؟ إعلاميًّا، ماذا أعددتِ؟ اقتصاديًّا، سياسيًّا، فنيًّا… وهكذا في كلِّ مناحي الحياة أسأل نفسي، وكلُّ عاقل يسائل نفسه: “ماذا عملتِ فيما علمتِ؟”، (وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(النحل:93)، (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ)(الصافآت:24).
إنه اختبار عسير للعلماء اليوم، وللتجمُّعات العلمية العالمية، ولهيئات الفتوى، ولوزارات الشؤون الدينية… تُرى هل تصوغ المخططات وتجيب على الإهانة بما يليق؟ أم أنها تبقى مثل الأطفال على شاطئ الإرادة والعصر، تاركة المبادرة للسياسة أو للشارع، مبررة لهذا أو لذاك، ناقلة لأدلة في أغلب الأحيان مبتورة، مجتزئة كما رأينا هذه المرَّة من بعض مجامعنا الفقهية المحترمة؟ للأسف.
ثم، هو اختبار عسير للمدارس، وللمناهج التربوية، وللمقررات، ولوزارات التربية، بل لكل معلّم ومدير ووليّ وتلميذ… فهل هي تسير على وقع رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ وهل تخِذته أسوة وقدوة، ومارست التربية بناء على معياره هو؟ أم أنها تغنِّي خارج السِّرب، وتصفِّق لـ”ديوي” و”روسو” وغيرهما في عرس المدنية السمج؟
هو اختبار لمؤسَّسات الإعلام؛ هل أهمَّها أمرُ قرآنها ورسولها، وهل يهمُّها أمر دينها كما أمر الله؟ أم أنَّ مشادات كرة القَدَم، والانتخابات الحامية الوطيس، وفضائح الناس… كلُّ أولئك أَوْلى في أجندتها من الانتساب إلى خيرِ البرية ورسولِ البشرية محمدٍ عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم؟
ثم هو امتحان للمال ولصاحب المال؛ أمِن الحرام هو أم من الحلال؟ وهل يُنفق فيما لا يعني، سرفًا وسفاهة؟ أم أنه ينفق ليبني واقعًا جديدًا، ويؤسِّس عهدًا جديدًا تكون فيه الأمَّة متمكنة متحضِّرة متفوِّقة في جميع المجالات، ويكون فيه المال وقود هذه النقلة التاريخية الإيمانية المنشودة؟
هو امتحان، لا يخوضه واعيًا اليوم للأسف، إلا الإنسانُ البسيط، وهو يحترق وينطلق، وقد يخطئ أو يتهوَّر، لكنه على الأقل يملك قلبًا مفعَما بالحبِّ، وفؤادًا خالصًا مرهفًا. أمَّا الكثيرون ممن يشار إليهم بالبنان، فقد باتوا أرباب مصالح وأصحاب حسابات، لا يؤمَّل فيهم الكثير ولا يرجى من بابهم الخير.
هو اختبار، وهو امتحان إذن… والإجابة لا تكون في يومٍ أو يومين، وإنما هي طوال الحياة ودائمًا ما دام ثمة إنسان. ونتيجة الاختبار لن تعلَّق إلا يوم الحساب، فلينظر كلُّ مؤمِن كيف ينجِّي نفسه يوم الفرقان، ويوم التغابن، ويوم يلقى ربه، سبحانه وهو القائل: (الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لاَ ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)(غافر:17).
رحم الله العلامة بديع الزمان سعيد النورسي، ففي حوالي سنة 1316هـ/1899م، حدث له انقلاب كليٌّ في حياته؛ إذ علم من الوالي “طاهر باشا” أنَّ أوروبا تحيك مؤامرة خبيثة حول القرآن الكريم، ثم سمع أنَّ وزير المستعمرات البريطانبي “غلادسون”، صرَّح في مجلس العموم البريطاني وهو يخاطب النواب قائلاً: “ما دام هذا القرآن بيد المسلمين، فلن نحكمهم حكمًا حقيقيًّا، فلنسع إلى نزعه منهم”. ولقد زلزل هذا الخبر كيان النورسي، وأقضَّ مضجعه، فأعلن لمن حوله:
“لأبرهننَّ للعالم بأنَّ القرآن شمس معنوية لا يخبو سناها، ولا يمكن إطفاء نورها”، ثم حبس عمره كلَّه للخدمة الإيمانية والقرآنية، ولاقى في ذلك ما لاقى من معاناة، ولكنه خرج منتصرًا مظفرًا، راضيًا مرضيًّا بحول الله.
واليومَ، ليس مقبولاً أن تمرَّ علينا الإهانات لمقدَّساتنا وعقائدنا وديننا وإسلامنا ثم لا يتغير شيء في حياتنا وفي تصوراتنا وفي مواقفنا وفي أفعالنا وفي اختياراتنا… ولذا نسأل، مَن منَّا يحمل قلبًا مفعمًا بالإيمان بالله واليوم الآخر، وبكتاب الله الحكيم ورسوله الكريم، يقف حياته ومهجته للدفاع عن إيمانه ونصرة دينه بموجب “التدافع”، وقد قال جلَّ من قائل: (وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ)(البقرة:251).
فهلاَّ كنا جادِّين في تحمُّلنا لأسئلة الاختبار العسير، وهلاَّ احترقنا شوقًا وهمًّا وهمَّة، وانطلقنا علمًا وعملاً وتخطيطًا… فإن فعلنا كان الله معنا، وكان رسولنا وحبيبنا شفيعًا لنا يوم اللقاء، وإلا كان خصمًا وخصيمًا لنا والعياذ بالله.
ولا يزال حديث الحوض يقرع آذاننا ويهدُّ قلوبنا ويزلزلنا زلزالاً شديدًا، وقد ورد فيه:
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه أتى إلى المقبرة فسلم على أهل المقبرة فقال: “سلامٌ عليكم دارَ قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون”، ثم قال: “وَدِدتُ أنَّا قدْ رأينا إخوانَنا”. قال: فقالوا: أَوَلسنا إخوانَك يا رسول الله؟! قال: “أنتم أصحابي، وإخوانُنا الذين لم يأتوا بعدُ”، فقالوا: كيف تعرف من لم يأت بعدُ من أمَّتك يا رسول الله؟ قال: “أَرَأيتَ لو أن رجُلاًًً كان له خيلٌ غُرٌّ مُحَجَّلةٌ بين ظَهْرَيْ خيلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ ألا يعرفُ خيلَهُ؟”، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: “فإنهم يأتون غُرًّا مُحَجَّلين من الوُضُوء، أنا فَرَطُهُم على الحَوْض”، ثم قال: “ألا ليُذادَنَّ رجالٌ عن حَوْضي كما يُذادُ البَعير الضالُّ، أُنادِيهم: ألا هلُمَّ فيُقال: إنهم قد بَدَّلوا بعدكَ، فأقول: سُحْقًا سُحْقًا” (رواه مسلم).
فهل يا ترى نأتي رسولَنا الحبيب غُرًّا مُحَجَّلين، أم أننا نأتيه -ونعوذ بالله من ذلك- ثم نذاد مثل “البعير الضال”، ثم يقول لنا “سحقًا سحقًا”.
هذا هو الاختبار العسير!
أمَّا نبيّنا وقرَّة أعيننا، فيكفيه أنَّه وُعد من ربِّه وعدًا حقًّا؛ أنه سيعلي من شأنه وقدره وسيجعل أعداءه عبرة لكلِّ معتبر، فقال: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ)(الكوثر:3)، وقال: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا)(الأحزاب:57).
(*) مدير معهد المناهج، الجزائر العاصمة / الجزائر.