الدولة المدنية كما مثلها عصر المبعث النبوي

“الحقيقة في نظر الإسلام هي بعينها تبدو دينًا إذا نظرت إليها من ناحية، وتبدو دولة إذا نظرنا إليها من ناحية أخرى”.(محمد إقبال)

واحدة من المشكلات الرئيسة في منهج المعرفة، هي قضيةالمصطلحات وعلاقتها بالمفاهيم. وحين يتعلق الأمر بمنهج المعرفة الدينية المتصلة بقضايا الدين وقيمه وأحكامه، فإن هذه المشكلة تزداد حدة وتفاقمًا. ذلك أن مقتضى الفهم في هذا المقام، هو إدراك العلاقة بين مبدأ الدين وواقع الحياة، أو منهج استمداد الهدي الديني وتنزيل أحكامه وتعاليمه على القضايا المتصلة بحركة الحياة، تحقيقًا للغاية الدينية في واقع الإنسان والمجتمع بكل ما يحتويه من إشكالات وتعقيدات.

ولعل قضية الدولة في الإسلام عامة -سواء في نموذجها المعرفي والحضاري أو تجربتها التاريخية، والدولة المدنية خاصة وعلاقتها بمفهوم “الدولة الدينية”- هي أحد أوضح الأمثلة على حجم تلك المشكلة.

فما أكثر ما يُستخدم مصطلح الدولة المدنية اليوم، وما أشد ما يُثار حوله من نقاشات وخلافات، دون أن نتوقف -إلا قليلاً- للتساؤل عن المفهوم. وهل الإشارة إلى صفة المدنية في الدولة تعني تمايزها عن الصفة الدينية حتمًا؟ وبأي دلالة للمدنية يتم استخدامها في نعت الدولة تحديدًا؟ أهو بالدلالة الفلسفية كما طرحه “الفارابي” في حديثه قبل خمسة قرون عن “السياسة المدنية”؟ أو بالدلالة الاجتماعية كما استخدمه “جون لوك” قبل ثلاثة قرون في حديثه عن “الحكومة المدنية”؟ أم أنه على خلاف هذا وذاك بالدلالة الحضارية التي قصد إليها الشيخ “محمد عبده” قبل قرن من الزمان وهو يكتب سلسلة مقالاته التي جمعت تحت عنوان “الإسلام بين العلم والمدنية”؟!
لعل ما يجعل مفهوم الدولة المدنية في التصور الإسلامي المعاصر مفهومًا إشكاليًّا، هو تظافر عاملين أساسيين:

• أولهما: الإسقاط التاريخي لدلالة المصطلح كما تشكلت في الاستخدام خلال مرحلة معينة من مراحله، على شبكة المفاهيم الراهنة، باستخدام المصطلح التاريخي للدلالة على المفهوم المعاصر، في تجاهل لما اعترى هذه الدلالة من تغيرات، وما شهدته سيرة المصطلح من تطورات وتحولات، وكيف انتهىت به التواضعات إلى مدلوله المعاصر أو مدلولاته.

• وثانيهما: استيراد المفهوم من بيئة حضارية أخرى وسياق معرفي وثقافي مغاير، جاهزًا محملاً بدلالاته وإيحاءاته، وتراثه ومشكلاته التي أنتجتها تلك البيئة وسياقاتها. ومن ثم استخدامه في المجال التداولي العربي والإسلامي، وكأنه مفهوم مطلق في دلالته، متجاوز لإشكالات نشأته الحضارية والتاريخية، قادر على التفسير في أي مجال لغوي أو بيئة اجتماعية أو سياق حضاري.

والحقيقة أن كلا الأمرين؛ الإسقاط التاريخي، والاستيراد الحضاري، إن هما إلا تقليد يدل على فقد القدرة على الاجتهاد في التجاوب مع الأسئلة المستجدة في أي عصر، والقضايا المشكلة على أهل كل مرحلة، وفقرٍ في أدوات الإبداع اللازمة لتحقيق ذلك التجاوب. وليس لنوع من التقليد في هذا المقام مزية على آخر، أكان تقليدًا للآخر الماضي، أم تقليدًا للآخر الحاضر.

ينضاف إلى ما سبق عامل آخر للاضطراب، خاص بمنهج النظر إلى مفهوم الدولة وعلاقتها بالدين خاصة، وبكل ما له علاقة بمفاهيم الفكر السياسي في حضورها وإلحاحها على العقل المسلم اليوم، سواء بسبب عودة النقاش المتصل بالهوية والذات الحضارية الجامعة بقوة، وما يترتب عليهما من إشكالات في تدبير الاجتماع الإسلامي المعاصر، أو بسبب ضغط التحولات الجارية في ساحة المجال العام على امتداد عالم المسلمين بإلحاحها على الفكر الجمعي وإثارتها المشاعر على السواء.

لقد بات من الضروري اليوم، محاولة فض الاشتباك الحاصل حول مفهوم الدولة المدنية في مجالي التنظير والممارسة معا، وليس الباعث على ذلك هو الدافع الفكري فحسب، بل هي الآثار المترتبة في الواقع بوجه خاص عن ذلك الاشتباك، ما بين القول بأن المدنية في الدولة تعني مقابلاً/نقيضًا للصفة الدينية بكافة مستوياتها “الثيوقراطي” (Theocracy) الذي يتأسس على مفهوم الحكم الإلهي (حكم الآلهة) عند اليونان.. ومستوى المرجعية كذلك بالربط -بشكل شَرطي- بين مدنية الدولة وبين قطع أي صلة لها بالدين ولو كان ذلك في مستوى المرجعية، التي تعكس عادة هوية الدولة باعتبارها خلاصة لسياقها الاجتماعي وقيمها المؤسسة. هذا فضلاً عن بعض المعاني الخاصة للمدنية في الدولة كمقابل للعسكرية مثلاً.

ينطلق مفهوم الدولة الدينية في الفكر السياسي من نظريتين رئيسيتين هما: نظرية الطبيعة الإلهية للحاكم، القائمة على أنه يجسد الإله في شخصه، فيكون “الله” حينئذ حيًّا وسط الناس يحكمهم بنفسه، وهي نظرية لم تشع في التجربة التاريخية للمسلمين كما هو حالها في الغرب خلال القرورن الوسطى، وإن كان هنالك استثناء مثّله الحكم الفاطمي الذي غلا في الإمامة حد التقديس الذي بلغ في بعض مراحله مبلغ تأليه الحاكم.

والنظرية الثانية الأكثر شهرة، هي نظرية الحق الإلهي، وخلاصتها أن الحاكم هو اختيار إلهي لا مجال لرد أمره أو التعقيب على حكمه، سواء تم ذلك الاختيار بشكل مباشر كما أكدت عليه الكنيسة في مرحلة صراعها كسلطة دينية مع السلطة الزمنية، أو بشكل غير مباشر من خلال القول أن الأفراد إنما يختارون الحاكم بشكل مسيَّر يجسد الاختيار الإلهي له.

ومن المعروف أن هذه النظريات وما ترتب عليها من استبداد باسم الدين، كان الباعث لظهور مفهوم الدولة المدنية في الغرب، وتطورالفكر الفلسفي والسياسي خلال ثلاثة قرون في اتجاه “نظرية الدولة المدنية” كما أصل لها “ميكيافيلي” منذ بداية القرن الخامس عشر، و”جون بودان” (Bodin) أواسط القرن السادس عشر، و”توماس هوبز” بداية القرن السابع عشر، و”باروخ اسبينوزا” أواخر القرن الثامن عشر، ثم “جون لوك” أواخر القرن السابع عشر وبداية القرن الثامن عشر الميلاديين.

مدنية الدولة

هذا في التجربة الحضارية الغربية، أما في السياق المجتمعي الإسلامي، فقد كان الاتجاه العام إلى تأكيد السمة الدينية للدولة. ومن هنا فالفقه السياسي حين يبحث في شرعية الدولة في الإسلام، فإنه يقيمها على دليلي التأسيس النبوي والإجماع التاريخي، حتى إنه لم يخالف في الوجوب الشرعي لإقامة الدولة وضرورتها فيما هو معروف تاريخيًّا سوى قلة قليلة جدًّا خرجت على الإجماع في هذا المجال، هي فرقة صغيرة من فرق الخوارج وواحد من علماء المعتزلة. وهكذا تبلورت نظرية الإمامة خلال القرنين الثالث والرابع الهجريين لدى الاتجاه العام للأمة، فيما يسميه الباحثون “النظرية السياسية الاتباعية” القائمة على مبدأ الإجماع كأساس للنظام السياسي ومصدر لشرعيته.

والمعنى هنا أن الشرعية هي للدولة كمؤسسة واجبة التأسيس والقيام بدورها دينيًّا، وحفظ مصالح المجتمع الكلية في أي عصر.

ولعل ملاحظة العلامة “الندوي” في رسالته الصغيرة والهامة “ردة ولا أبا بكر لها، أبو الحسن الندوي، مكتبة السداوي – المكتبة المكية 1992″، تؤكد هذه الملاحظة حول الشرعية الدينية للدولة في الإسلام. وذلك حين أشار إلى أن المرتدين في عهد أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ لم يرفض كثير منهم الجوانب العقدية في الدين ولا شعائره التعبّدية، إنما كانت ردّتهم بالأساس رفضًا للاجتماع السياسي الإسلامي، ممثّلاً في واجبات المواطنة، والخضوع لسلطة الدولة المركزية بالمدينة، فيما يشبه ما يسمى في الاصطلاح المعاصر بـ”التمرد المسلح”.

وللمتأمل أن يرى كيف استمر هذا الإجماع على الشرعية الدينية للدولة -بهذا المعنى- في مجتمعات المسلمين على مدار تاريخهم، وحتى نهاية الربع الأول من القرن الماضي، حين رأينا مثلاً، كيف كان الإجماع على تأكيد المبدأ، ونقض جمهور العلماء لأطروحة الشيخ علي عبد الرازق التي حاولت مخالفته، بالقول بعدم وجود أساس لشرعية الدولة في الإسلام، التي ضمنها سنة 1925م كتابه الشهير “الإسلام وأصول الحكم”.

غير أن هذه الشرعية الدينية الحاسمة لمؤسسة الدولة، لم تنسحب في الاتجاه العام للأمة على شخص الخليفة أو الأمير، بما لا يضفي على وضعه قداسة، ولا على قراراته وآراءه عصمة دينية. وهذا بوجه خاص، غاية ما قصدت إليه نظرية مدنية الدولة كما سبقت الإشارة، بما يحقق مشاركة الناس في تدبير الشأن العام من خلال التعبير عن آراءهم، وواجب الحاكم في استشارتهم والاستعانة بتلك الآراء، بل طلبه إياها منهم لعلمه أن ليس لرأيه عصمة دونهم، تمامًا كما نقرأ في الدعوة الصريحة للخليفة الراشد الأول ـ رضي الله عنه ـ موجهًا كلامه لجمهور الأمة: “إن محمدًا قد مضى بسبيله، ولابد لهذا الأمر من قائم يقوم به، فانظروا وهاتوا آراءكم” (صحيح البخاري، كتاب فضائل الصحابة).

لقد استخدم القرآن الكريم مادة الدولة في آية الفيء مطلع سورة الحشر: (كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ). غير أن اللافت في سياق البحث عن مفهوم الدولة المدنية، أن نجد أن الوصف الذي يشير في الأصل اللغوي “مَدَنَ” إلى الاستقرار في المكان والتحضر فيه ليصبح “مدينة”، قد اقترن بتأسيس الدولة في الإسلام، حيث أطلق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ اسم “المدينة” على “يثرب” “مركز إقليم الدولة”. ويروى عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه كان لا يذكر كلمة “يثرب” قط، كما وردت روايات عن نهيه عن تسمية “المدينة” “يثربًا”، من قبيل ما رواه البخاري ومسلم: “يقولون يَثْرِبُ! وهي الْمَدِينَةُ”، والإمام أحمد: “من سمى المدينة يثربًا فليستغفر ثلاثًا”. وما يروى عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أنه دعى المسلمين جميعًا للالتحاق بها… وكانت تلك إشارة واضحة إلى السعي نحو إقامة النظام الحياتي والاجتماعي على مقتضى “المدينة”.

ولعل هذا الأمر الجديد تمامًا بالنسبة للحياة في الجزيزة العربية، يوضح الفرق الجوهري بين مدلولي المدنية المشتق من المدينة في كل من السياق الإسلامي والغربي. ففي الأول هي تتويج لمسار التأسيس الذي تحكمه قيم الوحي المطلقة، وقوانين شريعته، وهكذا نشأت المدينة المنورة، ثم الكوفة ودمشق وبغداد والقاهرة وإسطنبول والقيروان وفاس… حواضر أصلية تتبعها مدن وأقاليم أخرى، وتستمد منها ثقافيًّا وتشريعيًّا وتنظيميًّا، على أساس مرجعية ثقافية وحضارية حاكمة. أما في الثاني، فإن المدينة هي مصدر قيم الدولة، لأن هذه ناتجة عن وجود المدينة في الأصل، ولعل اشتقاق مفهوم الحضارة من كلمة “Civitas” الدالة على المدينة، يؤكد أنها ظلت طيلة مراحلها الكبرى في الغرب “الثلاث كما يفصل “لامبارد” (Eric Lambard) وهي: المدينة ما قبل الصناعية، والمدينة الصناعية، المدينة الميتروبوليتان ذات المركز والهوامش” نواة الحضارة ومصدر قيمها ومؤشر رقيها المدني. بينما هي في التجربة الحضارية الإسلامية تتويج لمسار التأسيس، بل إن ابن خلدون يعتبرها مؤذنة بانهيار العمران ونهاية عمر الدولة، لما يلازمها غالبًا من الترف الملهي عن واجبات الرسالة.

بعد تحديد مجال الدولة ومركز إقليمها “المدينة”، جاء العقد الدستوري مع صحيفة أو وثيقة المدينة التي مثلت نظامًا للعلاقات القانونية داخل الإقليم، بين السكان من المهاجرين والأنصار وغيرهم “مجموعة القرى والقبائل والحصون المسماة سابقًا يثرب”، بأبعاده الدستورية وامتداداته الأربعة، وهي: العلاقات الاجتماعية الجديدة ” المؤاخاة، تنظيم العمل، التخصص، حملة التعليم”. والنظام الاقتصادي “استعمال النقود، النهي عن المقايضة، المداخيل الجبائية القارة…”. والرابطة السياسية “مرجعية الحكم، رئيس الدولة، رابطة المواطنة في إقليم المدينة…”. والمقتضيات القانونية للسيادة وما يترتب عليها في العلاقات الخارجية “تنظيم العلاقات بين القبائل، اتفاقية الدفاع المشترك معها، مبدأ الانضمام إلى المعاهدات بعد توقيعها…”.

لقد كانت مرجعية الدولة إذن، مرجعية دينية أساسها مبادئ الوحي المنزل، ورئيسها هو النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وإقليمها المركزي هو مدينته المنورة. بل إن بعض الباحثين يشير إلى التلازم الحاصل بين نزول الرسالة وفكرة الدولة حتى قبل الهجرة، وأن بعض مقدمات المطلب السياسي للدعوة الإسلامية تجلت في المرحلة المكية كذلك “مثلا: إريك وولف (Eric Wolf)، “التنظيم الاجتماعي في مكة وأصول الإسلام”، مترجمًا ضمن “أنثروبولوجيا الإسلام” للدكتور أبو بكر أحمد باقادر”. وقد فصّل العلامة عبد الحي الكتاني في كتابه: نظام الحكومة النبوية المسمى التراتيب الإدارية، في كافة جوانب التدبير المدني للدولة في تفصيل عجيب للمؤسسات والمهام الأساسية والتفصيلية والاختصاصات والتكاليف.

لكن السؤال في كل ما سبق، هو عن التلازم بين الصفتين الدينية والمدنية في الدولة، وهل شرعية دولة الإسلام الأولى زمن المبعث النبوي تنسحب على السلطة الحاكمة في كل عصر؟ ولعل المدخل إلى الجواب يكون من النظر في الصفة التي حكم بها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ دولة المدينة، أي الوصف الذي تولى به الإمامة، ومن هنا أهمية النظر في ما يسمى عند الفقهاء بتصرفات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالإمامة، أي باعتباره إمامًا للمسلمين ودولتهم، وهو مبحث يقصد من خلاله التمييز في تصرفاته ـ صلى الله عليه وسلم ـ عامة، وهي “كل ما صدر عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ من التدابير العملية في أمور الدين والدنيا سواء للاقتداء أولاً”؛ ما بين تصرفاته بالنبوة وهو “ما رسم ليحتذى”، وبين غيرها من أنواع التصرفات الكثيرة التي تعرض لتصنيفها الفقهاء منذ ابن قتيبة الدينوري في القرن الثالث الهجري في كتابه “تأويل مختلف الحديث”، حيث ذكرت تلك التصرفات وأنواعها كما في كتاب العز بن عبد السلام “قواعد الأحكام في مصالح الأنام”. ولعل الفضل في معرفتنا بشكل دقيق ومفصل لهذا المبحث، يرجع للإمام القرافي في كتابه المعلمة “الفروق”. ففي تلك الكتب وغيرها تعديد لكثير من أنواع التصرفات النبوية من قبيل “ما كان منها برسم الرسالة، والفُتيا، والقضاء، والإمامة، والجبلية، والخاصة…”، وتعديدهم الأدلة على ذلك، ومنها إشاراته ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى ذلك بنفسه، كما هو الحال في حديث أكل الضب، وحديث تأبير النخل، حتى قال الإمام الطاهر بن عاشور في كتابه “مقاصد الشريعة”: “وقد كان الصحابة يفرقون بين ما كان من أوامر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ صادرًا عن مقام التشريع، وما كان صادرًا في غير مقام التشريع، وإن أشكل عليهم أمر سألوا عنه”.

والخلاصة أنه لا توجد حتى في النموذج المثالي للدولة في الإسلام وهو الدولة النبوية، أدنى علاقة بمفهوم الدولة الدينية كما تبلور مع نظرية الطبيعة الإلهية للحاكم أو نظرية الحق الإلهي، ومصداق ذلك هو هذا التمييز الدقيق بين أنواع التصرفات النبوية، الذي تحدث عنه العلماء، مفصلين في سمات التصرفات بالإمامة وهي أنها من قبيل “التشريعات الجزئية” كما يقول ابن عاشور، وأنها مرتبطة بالمصلحة العامة، وأنها اجتهادية مرتبطة بما يناسب الزمان والحال، وأنها واردة في غير الأمور الدينية المحضة.

وعليه فإن الشرعية الدينية إنما تكون لمبدأ قيام الدولة والحفاظ عليها كمؤسسة، لا للأفراد الذين أسبغت عليهم صفات التقديس وحصانة التأييد الإلهي في التجربة التاريخية الغربية أساسًا، وهو ما يؤكد أن الديني والمدني اللذين صارا في العهد النبوي بناء واحدًا بالنظر إلى طبيعة النبوة المسددة بالوحي له ـ صلى الله عليه وسلم ـ، قد تمايزا في غيره ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالضرورة، وهو تمايز لا يمس شرعية الدولة في مجتمع المسلمين في شيء، باعتبار الشرعية مركزة في مبدأ قيام الدولة وتحقيقها مقاصد الدين وسياسة حياة الناس بما يصلحها في كل عصر.

وهكذا تتجاوز الدولة إشكالية الصراع بين السمتين الدينية والمدنية، على اعتبار الأولى مركزة في مرجعيتها المحددة لرسالتها وقيمها ومقاصدها الكبرى، بينما الثانية متصلة بطبيعة السلطة السياسية الحاكمة فيها، وطبيعة قراراتها وبرامج إدارتها وسياساتها في كل عصر.

لقد عبرت الدولة باعتبارها “البنية السلطوية للنظام السياسي” في السياق الحضاري الإسلامي عن الوحدة المعنوية للأمة، وعن مقومات وجودها الثلاث الضرورية لاستمرارها وهي الثقافي والاجتماعي والاقتصادي، التي تمثل الدولة من خلالها الأمة/المجتمع، وتجسد مصالحها وتيسر لها أداء رسالة شهادتها على الأمم.

وهذا ما به العبرة من شكل الدولة وهويتها في عصرنا، أي أن تقوم بأدوارها في التعبير عن الأمة/المجتمع، فتكون شكلاً قانونيًّا يعبر عنه فعلاً، فتتسق مع مسار توحيده، وتعمل على تعضيد ارتباطه بمجاله المجتمعي الأوسع، وتحمي كيانه من المخاطر، وتيسر له أداء أدواره التي لا يمكن لغيره القيام بها بما في ذلك مؤسسة الدولة نفسها، فتحفظ عليه بهذا حياته وفعاليته، وتنظم حقوق أفراده.

أما هذا الصراع المفتعل بين الدينية والمدنية في الدولة، فقد أحسن أحد العلماء المعاصريين “المستشار طارق البشري” “في الجدل حول: المدنية والدينية”، مقال بجريدة الشروق (7/11/2011): “إذ شبّههُ بالصورة الشعرية التي أوردها مولانا “جلال الدين الرومي” وهو يحكي في ديوانه “المثنوي” عن قصة أستاذ طلب من تلميذه “الأحول” أن يأتي له بإبريق الماء الخاص به، ولكن التلميذ نظر إلى الإبريق فصوّره الحَوَل له أنه إبريقان اثنان، واحتار في اختيار أيهما يحمل، ثم هداه فكره أن يكسر أحدهما ويأخذ الآخر، فلما كسر أحد الإبريقين لم يجد الآخر… ثم استطرد معلقًا: يبدو لي أن هذا تقريبًا ما نصنعه الآن في حديثنا العجيب عن مدنية الدولة أو دينية الدولة، ونتساءل ونختلف في دولة دينية أو مدنية، ونظنهما دولتين نختار بينهما، بينما هما شيء واحد، ونحن إذا حطّمنا ما نظنه واحدة منهما فلن نجد الأخرى”.

لكن أنى لنا تجاوز هذه الظنون، والوصول إلى وعي مشترك بمفاهيمنا وقضايانا الكبرى، في حرص على تقوية الإجماع حولها، وتوسيع دائرة التوافق على المشترك، دون إدراك الطريق إلى “الوعي الجمعي”؟! وتلك قضية أخرى.

(*) مدير مركز الدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية – وجدة / المغرب.