إذا افترضنا أن الكائن الحي الذي يتكون من بلايين الخلايا يمثل عالمنا المترامي الأطراف، فكان لابد من وسيلة اتصال بين هذه الخلايا للتنسيق بين وظائفها ونقل المؤثرات والتعليمات المختلفة بين أجزائه.
الاتصال الهرموني
نظام الاتصال الهرموني هو الذي يسمح بنقل الهرمونات -عبر تيار الدم- التي تحمل جميع الأوامر والتعليمات من وسط الكائن إلى جميع أطرافه، ولكن يعاب عليه بُطؤه، لأنه مرهون بسرعة تدفق الدم الذي يحمله من منابع إنتاج الهرمون إلى مناطق تأثيره، والذي تستغرق نحو 10 ثوان (نصف زمن دوران الدم حول الجسم). وهذا زمن طويل قد يمثل خطورة على الكائن إذا كانت الأوامر تحتاج إلى رد فعل سريع، كما أنه نظام غير موجه؛ فالهرمون المحمل بالتعليمات، يمر على جميع مناطق الجسم، فيتجاهله من لا حاجة به إلى تلك التعليمات، ويستجيب له الجزء الذي وُجِّهَت إليه هذه الرسالة. ويُعد النظام الهرموني مثاليًّا إذا كانت رسائله خاصة بالنمو أو بالهضم أو التوازن الكيميائي، فلن يُسبب تأخيرها ضررًا للجسم، فهي عمليات تستغرق وقتًا طويلاً ويشترك فيها ملايين الخلايا.
ونظرًا إلى العلاقة الموجبة بين سرعة ودقة استجابة الكائن الحي للمؤثرات الخارجية في بيئته وبين بقائه، نجد أن النظام الهرموني لا يوفر ذلك، فبطء الاستجابة (10 ثوان) قد يكلفه حياته، فلابد من وجود جهاز أكثر تخصصًا وأسرع استجابةً للمؤثرات الخارجية، إنه الجهاز العصبي ومركزه المخ وملايين الأعصاب التي تصله بجميع أجزاء الجسم، التي تتميز بسرعتها الهائلة في نقل الرسائل بدقة فائقة ولمسافات قصوى دون انتقال للمادة، وتستهلك قدرًا لا يُذكر من الطاقة، إذ تستقبل مجموعة الخلايا فائقة التخصص -التي تكوِّن فيما بينها عضو الحس مثل العين أو الأذن أو الأنف- المؤثر الخارجي التي ترسله فورًا إلى المخ على هيئة نبضات عصبية، فيرسل المخ فورًا إشارات عصبية إلى العضلات أو الغدد التي تستجيب فورًا لهذه الإشارات، كلٌّ بطريقته.
نلاحظ أن الجهاز العصبي يشبه شبكات الاتصالات؛ فالأشخاص لا يتواصلون مباشرة، لكن يصل الطلب إلى مركز الشبكة أو القمر الصناعي الذي يقوم بدوره بتنبيه الشخص المطلوب الحديث معه. فأعضاء الحس ليس بينها وبين العضلات أو الغدد المطلوب استجابتها للإشارة العصبية أيّ اتصال، لكن أعضاء الحس تتصل مباشرة بالمخ الذي يرسل بدورة إشارات عصبية إلى العضلات أو الغدد فتستجيب فورًا، وهذا الأسلوب قمة في التنظيم. فاتصال أعضاء الحس مباشرة بالعضلات أو الغدد، قد يُحدث عدم تناسق بين مختلف الأحاسيس والأوامر والتعليمات القادمة من مراكز الحس، وذلك لكثرتها واختلافها وتداخلها، مِمَّا قد يحدث ارتباكًا شديدًا للكائن الحي، لكن المخ يتلقى كل النبضات العصبية وينظر إليها نظرة عامة، ثم يعطي الأوامر طبقًا للاتجاه العام للمؤثرات الخارجية. والحقيقة أن العين والأذن قمة التخصص في استقبال المؤثرات الخارجية الخاصة بكلٍّ منهما.
كيفية نقل النبضات العصبية
تنتقل النبضات العصبية، عبر الألياف العصبية، مثل انتقال الحرارة عند اشتعال لفافة تبغ؛ تشتعل ذاتيًّا مُطلِقةً بذلك طاقتها الكامنة، ولا يتأثر اشتعال اللفافة بمقدار أو حرارة مصدر الحرارة، على عكس انتقال نبضات الصوت في أسلاك البرق التي تشبه -إلى حد كبير- انتقال الحرارة في قضيب مسخن بمصدر حراري تقل فيه الحرارة تدريجيًّا متأثرة بمقدار الحرارة، إذ تكون أعلى درجة حرارة عند المصدر وأقلها عند الطرف الآخر.
وتبدأ مسيرة النبضات في الأعصاب تحت تأثير المؤثر الخارجي أولاً، ثم تنتقل بعد ذلك وحدها نتيجة انطلاق جهد كهربي محلي من نقطة إلى أخرى دون أن يتغير حجم النبضة أو طبيعتها أو قوتها مهما كانت المسافة التي تقطعها داخل العصب. وبالتالي فهي تحمل دلالتها على طول الطريق حتى تصل إلى المخ بنفس القوة والمقدار الذي أثر به المؤثر الخارجي.
المدهش أنه لا يوجد اختلاف بين استجابة الألياف العصبية داخل الكائن الحي واستجابتها خارجه، ولا بين الإنسان والحيوان، حتى إن العصب يظل يعمل حتى بعد موت الكائن، بدليل حركة ذَنَب البرص بعد قطعه، أو حركة الحيوان بعد ذبحه.
هذا ما خلص إليه بعض التجارب في هذا الصدد، كما لوحظ انعدام الفرق بين أعصاب الإنسان وأعصاب الحيوان، اللهم إلا التعقيد والتخصص الشديد الذي تتصف به المراكز العصبية في الإنسان.
كيف تنتقل النبضات داخل الأعصاب؟
لعل ما قام به العلماء يجيب عن هذا السؤال، إذ فُصل عصب حيوان “الحبار البحري” (Maritime Squid) ذو السُّمْك الضخم (يبلغ قطره ملليمترًا واحدًا، أي مئات أضعاف قطر عصب الإنسان) ووُضِع في ماء البحر -موصل للكهرباء لوجود الأملاح به- ووُصِّل السائل بداخل العصب بماء البحر خارجه في دائرة كهربية حساسة تبيّن أنه في الحالة العادية يكون هناك فارق في الجهد الكهربي بين داخل العصب وخارجه يصل إلى 1/20 من الفولت. ويوجد داخل تجويف العصب البروتوبلازم الذي يحتوي على أطراف عديدة سالبة الشحنة تربط في أطرافها عنصر البوتاسيوم ذا الشحنات الموجبة، وهذا ما يفسر دخول عنصر البوتاسيوم عبر غشاء العصب شبه المنفذ من التركيز المنخفض -ماء البحر- إلى داخل العصب ذي التركيز الأعلى (يَبلُغ تركيز أيونات البوتاسيوم أكثر من 30 مرة في ماء البحر)، وهذا عكس ظاهرة الضغط الأسموزي.
الغريب في الأمر أنه لا يمكن مرور تيار كهربي في العصب إلا إذا وصل إلى قدر معين، وتظل استجابة العصب ثابتة مهما تغيرت شدة التيار الكهربي المار فيه، وبالتالي فإن النبضة العصبية الناتجة تكون ثابتة في المقدار، مثل لفافة التبغ لا يمكن أن تحترق إلا إذا وصلت حرارتها إلى درجة الاشتعال، وتظل مشتعلة ذاتيًّا مع إهمال مصدر الاشتعال، وقد يصل زمن استجابة العصب للمؤثر الخارجي إلى جزء من ألف جزء من الثانية، وتصل سرعة النبضة العصبية إلى 72 كيلومترًا/ساعة وهي سرعة محسوسة. وبالتالي فالإحساس ينتقل من اليد إلى المخ في نحو 1/20 من الثانية. ويستطيع العصب نقل 1000 نبضة عصبية في الثانية الواحدة تحت الظروف العادية دون كللٍ أو مللٍ، وتتأثر حساسية الأعصاب بالبرودة فيقل عدد النبضات المنقولة.
ولا علاقة بين الإرهاق الذي يصيب الإنسان وكفاءة العصب إذ يستطيع العصب نقل 100 نبضة في الثانية لساعات طويلة تحت ظروف الإرهاق الشديد الذي ثَبتَ أنه حالة تتعلق بالمخ ذاته أو النخاع الشوكي، ولا ترتبط بالعصب، ولكن يلزم تدفق الدم في العصب لكي يقوم بعمله، ولا يرجع ما نشعر به من تنميل في الساق عند وضع ساق على أخرى إلى قلة تدفق الدم في القدم، لكن الحقيقة أن التنميل يحدث بسبب الضغط الواقع على العصب الواقع في الناحية الخارجية من الساق أسفل الركبة مباشرة بين عظمة الفيبيولا وركبة الساق السفلي، ولا تحتاج عودة الإحساس إلى العصب إلا إلى دقائق معدودة، لأن الضغط على العصب لا يسبب له أي تشوهات وإلا احتاج الأمر إلى أسابيع. لكن ما يؤثر على الأعصاب هو انقطاع الأكسيجين عنها فقد يُسبب ذلك شللاً مؤقتًا للعصب لـ 15 دقيقة، بينما غيابه يصيب المخ بالشلل فورًا، والسبب في ذلك أن احتياج الأعصاب إلى الأكسيجين ضئيل جدًّا، فعصب الضفدع (ينقل 250 نبضة عصبية في الثانية) يحتاج إلى قدر حجمه من الأكسيجين -حجم غاية في الضآلة- ليعمل بكفاءة لمدة ثلاثة أيام.
ولعل ما يفسر وقوع الأرنب بين فكي كلب يطارده ليس انفجار قلب الأرنب كما كان يُعتقد، بل تلف خلايا مخ الأرنب نتيجة تدفق الدم الشرياني الساخن إليه، في حين أن الكلب وكثيرًا من الثدييات تمتلك نظامًا لتبريد الدم قبل تدفقه للمخ، وما نلجأ إلى عمل كمادات على رأس مريض الحمى، إلا لخفض درجة حرارة المخ للحفاظ على وظائف المخ التي تختل إذا زادت حرارته 4 درجات مئوية على الطبيعي. ولقد منح الله معظم الثدييات وسيلة لتبريد المخ إما لهثًا وإما عرقًا فمخ الغزلان تقل حرارته درجة واحدة في الوضع الطبيعي و3 درجات عن حرارة أجسامها في أثناء العدو، لأن نظام تبريد المخ لا يعمل إلا تحت ظروف الإجهاد الشديد.
المخ عضو فريد لا مثيل له في الكون، فهو يُحكِمُ رقابته على كل شيء، وهو الآمر الناهي في جسم الكائن الحي، ويتكون من أكثر من 100 ألف مليون خلية قطر كل منها 0.1 ملليمتر وتتكون من فرع رئيسي يسمى الأكسون، وعدة فروع ثانوية تسمى “Dendrites”، وتتبادل هذه الخلايا الإشارات العصبية في ما بينها، إذ تكون الإشارات مزدوجة في وسيلة الانتقال؛ كهربية في مرحلة وكيميائية في المرحلة النهائية، ويعتمد عمل المخ على نقل المعلومات بين خلية وأخرى وكل خلية عصبية مؤهلة لذلك تمامًا، لأن كلاًّ منها تمتلك 1000-10,000 نقطة اتصال تسمح لها بنقل ما تملكه من معلومات إلى غيرها من الخلايا العصبية، ولها القدرة على تلقي معلومات من 1000 خلية عصبية أخرى، وينتج عن ذلك أعظم ما يميز مخ الإنسان من غيره من الكائنات وهو القدرة على التعلم والتذكر. وبسبب تعقيد عمل المخ الشديد وعمله الدؤوب فإن استهلاكه من الأكسيجين يزيد على 20% من استهلاك الجسم الكلي، كما أن ذلك ثابت ليلاً ونهارًا، ولأنه لا يستطيع الحصول على الطاقة إلا من الجلوكوز فإن انقطاع تيار الدم الحامل للأكسيجين عن المخ يُفقد الشعور في 10 ثوان مسببًا أضرارًا بالغة بالمخ، وعند غياب الجلوكوز يصاب الإنسان بغيبوبة.
ولحساسية خلايا المخ الشديدة فهو معزول عن الدورة الدموية العامة بنظام يعرف بـ”حاجز الدم-المخ”، وهذا الحاجز يَسمح بدخول ما تحتاج إليه الخلايا من أكسيجين وجلوكوز ومواد أخرى، لكن يمنع دخول أي جزيئات سامة أو غير مرغوب فيها إلى خلايا المخ لحمايتها والمحافظة عليها، وتعود كفاءة هذا الحاجز إلى وجود جدار من الخلايا يسمى “Glial Cells”.
إذن كيف يقوم المخ بمهامه؟
إن أغلب الموادّ الناقلة للإشارات العصبية (جزيئات كيمائية صغيرة تحتوي على النيتروجين) تتركز في نهايات الأعصاب، وتنقسم هذه الناقلات من حيث فعلها إلى مجموعتين: الأولى ذات أثر منشط والأخرى ذات أثر مثبط، وقد ينقلب المثبط إلى منشط، وبالعكس. أهم الناقلات ذات الأثر المثبط هو الحمض الأميني جاما أمينوبيوتيريك ويُعرف بـ”جابا” (GABA) وهو حمض لا يُصنع إلا في المخ أو الحبل الشوكي وينجز هذا الحمض 30% من عمليات نقل الإشارات العصبية، وهناك حمض الجلوتاميك، وله أثر منشط ويقوم بنقل الإشارات العصبية.
يتم أولاً تخليق المادَّة الناقلة داخل الخلية العصبية من أقرب الموادّ شبهًا بها، ثم تنتقل من جسم الخلية إلى نهايات الأعصاب، حيث تختزن داخل حويصلات خاصة تحميها من فعل الأنزيمات المحللة، وتحتوي كل حويصلة على نحن 100,000 من هذه الجزيئات، وعند وصول نبضة عصبية -على هيئة إشارة كهربية- إلى نهايات الأعصاب تنتج كمية كبيرة من أيونات الكالسيوم، مِمَّا يؤدي إلى إطلاق جزيئات المادَّة الناقلة في الفراغ بين نقطة اتصال الخلايا بالقرب من غشاء الخلية، حيث تتلقى النبضة أو الإشارة فتتفاعل المادَّة الناقلة مع بعض مواقع الاستقبال (جزئيات بروتينية) الموجودة بغشاء الخلية المستقبلة للنبضة، وبذلك تصل الرساله من خلية إلى أخرى. وليست في الأمر أي عشوائية، فلكل نوع من الموادّ الناقلة موقع خاصّ تستطيع أن تتداخل فيه جزيئاتها مثل القفل ومفتاحه، هذا التداخل يُغير الشكل الفراغي للبروتين المستقبل، مِمَّا ينتج عنه نبضة أو إشارة منشطة للخلية أو مثبطة أو قابضة لعضلة ما أو مفرزة لهرمون معين… إلخ، إذ تترجَم شفرة النبضة وينتج رد الفعل الذي قد يستغرق جزءًا من الثانية أو دقائق أو عدة ساعات. ولك أن تتخيل مدى الدقة التي يتم بها هذا الاتصال اللحظي، كي يعاد استخدام جزيئات الموادّ الناقلة ثانية، أو عدم استمرار تأثير النبضة العصبية.
جميل أن نحاكي خلق الله ونتعلم منه، لكن يجب أن نكون على يقين تام وقناعة راسخة بأننا لن نبلغ هذا الإبداع الإلهي. فكيف لخلايا مجهرية وأعصاب لامتناهية الدقة أن تكون أعظم شبكة اتصالات بيولوجية على الإطلاق، غاية في الدقة، تنفذ آلاف الأوامر في جزء من ألف جزء من الثانية، تَنعدِم فيها نسبة الخطأ، ويستحيل اختراقها بكل السُّبل، يتحكم فيها جهاز لا يتعدى وزنه 1.2 كيلوجرام، لا تتعجب، إنها صنع الله الذي أتقن كل شيء، إنه خبير بما تفعلون.
(*) باحث في معهد بحوث تكنولوجيا الأغذية / مصر.